الديمقراطية والانتخابات.


فريد العليبي
الحوار المتمدن - العدد: 5638 - 2017 / 9 / 13 - 14:04
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

هذا الحوار نشر سابقا في جريدة الوقائع التونسية وصدر في عددها 153 بتاريخ 12 سبتمبر 2014 ونعيد نشره لقراءته على ضوء مآلات العملية الانتخابية في تونس.

=========================================


أعلن حزب الكادحين قرار مقاطعة الانتخابات التي تشارك فيها معظم الأحزاب فكيف تفسّرون ذلك ؟
بينا في مناسبات مختلفة أننا نقاطع الانتخابات لعدم توفر شروطها القانونية حدها الدنيا فالقانون الانتخابي يعاني من شوائب كثيرة منها التزكيات في الرئاسيات والضمان المالي وعدم احتساب الأوراق البيضاء في الحاصل الانتخابي والاهم من هذا كله إطلاق يد أباطرة المال في تمويل الحملات الانتخابية فضلا عن صفقة تقاسم السلطة بين النهضة و النداء و التدخل الخارجي والسيطرة على الإعلام وخلط الدين بالسياسة الذي من آخر مظاهره الكعبة المتنقلة من ولاية إلى أخرى و نفور الشعب من التسجيل فيها و عودة الدساترة، علما أن ثلث الأحزاب في تونس قد شكل جبهة لتصحيح المسار الانتخابي مهددا بالمقاطعة و هو يشاركنا بعض ما قلناه منذ وقت طويل ، و هناك أحزاب ثورية عبرت عن موقف المقاطعة صراحة ، و نحن نرحب بذلك كله ونتمنى حصول استفاقة لمقاومة الفساد الذي ينيخ بكلكله على العملية السياسية برمتها.
و لكن أليس التدخل الخارجى مثلا ضروريا لمساعدة تونس على تجاوز أزمتها ؟
التدخل الخارجي في تونس قديم و قد تم دائما لصالح الامبريالية و الرجعية لا لصالح الوطن والكادحين ، و في بداية الانتفاضة أصيب ذلك التدخل بالضعف و هو ما انعكس إيجابا على الانتفاضة من خلال تكاتف الشعب و تضامنه ، و اعتصام القصبة الأول كان أشبه بعرس فقد سادته الأهازيج و الأشعار و لم تمزق لافتة واحدة و وزعت البيانات وألقيت الخطب و لم يحصل أي اعتداء ، ثم تعاظم التدخل الذي استفادت منه أطراف سياسية يمينية معروفة فتدفقت الأموال و الأسلحة و تفــاقم تلوث الإعلام و أصبحت السفارات تتدخل علنا في المشهد السياسي التونسي ، و ما نراه بين الفينة و الأخرى من اعتراف ببعض مظاهر ذلك التدخل يمثل قمــة جبل الثلج فما خفي كان أعظم...
كيف ترون مستقبل تونس بعد الانتخابات؟
في القوائم الانتخابية هناك مرتزقة صغار يريدون الحصول على التمويل الحكومي لصرفه على أنفسهم شهرا أو شهرين وآخرون ثعابين كبار من رجال الأعمال يريدون المال الحكومي كله لذلك يضحون بمالهم الخاص في الحملة الانتخابية وعيونهم على ثروات البلاد كلها.

يعطي حزبكم أهمية خاصة للمثقفين فأيّ دور يمكنهم القيام به في مقاطعة الانتخابات ؟
للمثقفين دور مهم يمكنهم القيام به و لكنهم أصناف فمنهم من ينحاز إلى الكادحين و منهم من ينحاز إلى أعدائهم، و ما يحدد ذلك هو جملة من العوامل التي ليس المقام هنا لتفصيلها، و في تونس هناك مثقفين اختاروا طريق الثورة و قدموا التضحية و هؤلاء يمكنهم المساهمة في كفاح الشعب بدراسة و تحليل و شرح الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية و كشف الحقائق وإبرازها و نشرها على أوسع نطاق فكرا وأدبا و شعرا ومسرحا الخ ...
و الحزب الثوري هو نفسه مثقف جماعي فهو مدرسة يتربى فيها المناضلون و من خلاله تشق الفكرة طريقها إلى الشعب ، وبخصوص الانتخابات فقد عبر عدد من المثقفين عن مقاطعتهم لها مشككين في جدواها الآن ، ونحن نحييهم لرفضهم لعبة البيع والشراء وعدم ركونهم إلى الصمت مثلما يفعل غيرهم . و حاليا يتحكم في العملية السياسية أباطرة المال و الإعلام و تجار الدين، و المثقف له سلاح آخر شديد الفعالية و هو سلاح النقد الذي باستعماله يمكنه المشاركة في تغيير موازين القوى لصالح الكادحين ، و نحن نوجه النداء مرة أخرى إلى المهتمين بالفلسفة حتى ينخرطوا في هذه المعركة فلا يُعقل أن تكتب الدساتيرو القوانين و يعلو اللغط حول الديمقراطية و غيرها في ظل صمت الفلاسفة بينما يعلو صوت شيوخ السياسة و الدين .
نعرف عنكم اهتمامكم بالفلسفة السياسية فهل تؤسسون موقفكم من الانتخابات والديمقراطية بوجه عام على حجج و نظريات فلسفية ؟
نحن لا نتجاهل أفكار الفلاسفة و مناهجهم في فهم الديمقراطية وغيرها و حزب الكادحين يحاول تحويل السياسة في تونس من الديماغوجيا والخطابة المثيرة للعواطف إلى مقاربات عقلية نقدية تعتمد العلوم المختلفة في وضع خططها التكتيكية والإستراتيجية، فضلا عن الربط بين السياسة والايتيقا الثورية، وبالنسبة إلى الديمقراطية فإن الفلسفة تتعامل معها بتنسيبها، فهي مفهوم تاريخي خاضع للتبدل والتغير، فلا وجود للديمقراطية كجوهر نقي وصاف بل هناك ديمقراطيات ترتدي في كل عصر طبيعة معينة.
لقد ناهض سقراط الديمقراطية الأثينية مثلا التى كان ضحية من ضحاياها فقد حكمت عليه بالموت، وأبرز آليات التحكم فيها، ومنها ما يقوم به السفسطائيون الذين يصنعون خطباء من بين الأثرياء ضمانا لاختيارهم من قبل الناخبين، و نادى بحكم الارستقراطية الفكرية أي حكم الفلاسفة، وهو ما نقله لنا عنه أفلاطون الذي يشاركه الرأي ذاته كما اتخذ أرسطو موقفا لا يختلف كثيرا عنه، وهناك أصداء لذلك لدى الفلاسفة العرب أمثال الفارابي وابن رشد فطيلة العصور القديمة والوسيطة كان نظام الحكم الديمقراطي منبوذا ومستهجنا.
و إذا كان روسو ولوك وسبينوزا مع العصر الحديث قد أكدوا أهمية التعاقد الاجتماعي والمساواة الحقوقية ودافعوا عن الديمقراطية الليبرالية فإن ذلك كان ايجابيا في لحظة تاريخية ساد خلالها الاستبداد الإقطاعي الملتحف بالدين ومع الثورة الفرنسية أصبحت الديمقراطية كلمة مرحبا بها وينسب إلى روبيسبيار وسان جوست استخدامها لأول مرة ايجابيا، وعندما تبدلت الظروف التاريخية و استنفدت تلك الديمقراطية مخزونها الثوري، خاصة بعد كومونة باريس (1871) اعتبرها ماركس جوفاء لأنها لا تمنح الكادحين حقوقهم الاجتماعية والاقتصادية، أما أطرها التمثيلية وخاصة البرلمانات فنُظر إليها على أنها أماكن للثرثرة وخداع الكادحين فمن يحكم هو من يمتلك أكبر الأسهم في البورصات وكل شيء مهم يطبخ وراء الكواليس، واليوم فإن فيلسوفا مثل آلان باديو يعتبر الديمقراطية في صورتها الحالية أداة قمع في يد البرجوازية.
نحن نستأنس بذلك كله في بناء تصوراتنا و مواقفنا، فلا حركة ثورية دون نظرية ثورية، كما لا يغيب عن أذهاننا الواقع الحي الذي تعيشه بلادنا فالحريات الديمقراطية مطلب شعبي في تونس كما يمثل الإصلاح الزراعي جوهر الديمقراطية الجديدة، و قد بينت تحقيقات جرت في الأرياف مؤخرا أن معظم الكادحين لن يشاركوا في الانتخابات القادمة فهي غائبة عن اهتمامهم، ومنهم من لا يمتلك حتى بطاقة هوية وطنية، ومشكلتهم الأساسية هي توزيع الأرض فالديمقراطية ليست الانتخابات فقط كما قد يعتقد، وإنما هي أوسع من ذلك، ومع احتدام الصراع الطبقي في تونس ستتصارع ديمقراطيتان ديمقراطية الحكام وديمقراطية المحكومين، الديمقراطية القديمة والديمقراطية الجديدة، أو ديمقراطية الشعب وديمقراطية أعدائه.
لقد كانت الديمقراطية الليبرالية في أوربا و الولايات المتحدة ثمرة للثورات البرجوازية فاستندت إلى نظام اقتصادي اجتماعي ثقافي تشكل خلال عهود طويلة وقد تربت الأمم الأوربية في خضم صراع مرير، فكان حسم وحدة السوق ووحدة الدولة والعلمانية والحداثة الخ... فأصبحت إمكانية العودة القهقرى إلى عصر الظلام الديني الإقطاعي مستحيلة. واليوم فان الديمقراطية الليبرالية يجرى العمل على تجاوزها من يسارها، أما بالنسبة إلى الأمة العربية فإن الديمقراطية الليبرالية هي في الغالب مُسقطة، لذلك فإنها حالما توضع على المحك انتخابيا تعطينا سلطة الطوائف والعشائر والمذاهب والهويات المغلقة و العصبيات القاتلة، وهي لن تحسم الصراعات المحتدمة بل ستزيدها تأجيجا، وهناك أمثلة حية في العراق و ليبيا و لبنان وغيرها تبين ذلك، وبالتالي يجب توفير الشروط أولا للديمقراطية الشعبية حتى تصبح ممكنة وتلك مهمة الثورة دون سواها