محفوظ عبد الرحمن ... خزّافٌ يبحث عن الزمن المفقود


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 5629 - 2017 / 9 / 3 - 06:58
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     


هذا أغسطس يعودُ ببرودة قلبه وقسوته التي أعهدها. شهرٌ يُناصبني العداءَ منذ طفولتي. عوّدني هذا الشهرُ على اختطاف نُدَف الدفء من قلبي منذ وعيتُ على هذا العالم. قال ت.اس.إليوت، الشاعرُ البريطاني، في مطلع قصيدة: "الأرضُ الخراب"، إن أبريل أقسى الشهور. ولو كان يضع نظارتي فوق عينيه، أو يحمل قلبي بين ضلوعه، لقال إن أغسطس هو الأقسى. كلّما حطّ هذا الشهرُ رحالَه على الدنيا ودقّ أوتاد خيمته في خِصر كلّ عام، أمسكتُ قلبي بيدي لكيلا يطير خفقًا من فرط التطيّر والوجل. تُرى ممَن ستحرمني هذا العام أيها الشهرُ اللصُّ؟! من يا تُرى سيكون طريدتك لتسرقه من دنياي لأبني له ركنا أبديًّا في قلبي الحزين؟ أظلُّ أرمق أحبتي وأحصي من سافروا ومن عادوا ومن شغلتني الحياةُ عنهم ومن شغلتهم الحياةُ عني. من سيحين حينُ اختطافه في ركب هذا القناص؟ ولم يُخلف القناصُ عهده الحزين معي في أي عام. عامًا بعد عامٍ يفطر قلبي. وعامًا إثر عام يقضم من قلبي قطعة من الفرح. طار أبي للسماء في أغسطس. وفيه كذلك رحل كثيرٌ من آبائي وأمهاتي الروحيين وأساتذتي ومعلّماتي. قبل أيام فقدت في هذا الشهر البارد أستاذي د. رفعت السعيد. مَن تعلّمنا منه حبّ فقراء المزارعين والذود عن حقوقهم لأنهم ملحُ الأرض ومصدر حياتنا والأولى بالحياة لأنهم أربابُ الطمي حُماة الأخضر ورثة الطبيعة. واليوم، هذا السبت الحزين، يطير إلى فردوس الله أحدُ أرقى وأجمل من أنجبت مصر الطيبة. رحل أبٌ كريم كان أول من يهنّئني على كتاب جديد صدر لي، أو جائزة أدبية نُلتها، أو مقال في أعمدتي الصحفية راق له. كان في كل مناسبة يرسل لي رسالة قصيرة هي قطعة من الأدب الرفيع تصنع يومي وتملأ قلبي بالفرح أن قامةً شاهقة في دنيا الإبداع والكتابة بحجم العظيم "محفوظ عبد الرحمن"، قد وجد وقتًا بين مشاغله ليقرأ لي مقالا أو كتابًا أو خبرًا عني. ما أعذب هذا! وطوال شهور غربتي الطولى في العام الماضي، لم ينسني يومًا، فكان بين الحين والحين يرسل كلمة تطمئنني وتُذكّرني بأن هناك في وطني قلوبًا طيبة تدعو لي وتنتظر عودتي إلى أرض أجدادي حيث لا دفء ولا فرح ولا حبّ إلا بين ربوعها. واليوم، يختطف مني أغسطس اللصُّ مَن لا يُعوضه ألفُ أبٍ وألفُ أستاذ. رحل النبيلُ وترك نُبله ميراثًا هائلا من الإبداع والحب نتزوّد به كلّما ضربنا هجيرُ القسوة وفقرُ الفنون من حولنا.
الجملةُ النثرية التي يكتبها قلمُ محفوظ عبد الرحمن، لا شيء يشبهها. سواءً كانت في رواية أو سيناريو مسلسل أو فيلم أو مسرحية، كلماته لها فرادة لا تشبه إلا نفسها. لكن تلك الكلمة، على عذوبتها وشاعريتها، كانت حادة كنصل مشرط مصقول يشقُّ ظهر العوار غائصًا في عمق كوارث عروبتنا، منتقدًا مفاسدنا عسانا نبرأ من الويل. شغفه بالتاريخ والتجوال بين أروقة الماضي منقّبًا عن اللؤلؤ بين ركام الصخور الماضية، جعله يتمرّد على الزمن، فنذر عمرَه الثريّ باحثًا عن اللحظة المفقودة. لهذا برع في نحت عناوين غريبة لبعض رواياته مثل: “أربعة فصول شتاء"، "اليوم الثامن". كيف لعقل أن يتصور عامًا بأربعة فصول من الشتاء، أو أسبوعًا يمتلك يومًا ثامنًا؟! إنه شغف التنقيب عن المستحيل غير الموجود، مؤمنًا بأن غيرَ الموجود؛ موجودٌ في مكان أو زمان ما، ينتظر مَن يبحث ومن يُنقّب. ورغم ولعه بكتابة الرواية التاريخية، إلا أنه أبدًا لم يحذُ حذوَ التاريخ حذوَ الحافر، إنما جعل منه متّكئًا يسند إليه ظهره قبل رحلة الطيران إلى اللامكان واللا زمان واللا تاريخ. ذاك هو الإبداع الذي يُحلّق بعيدًا عن أسوار الواقع بحثًا عن عالم حالم لم يأت أبدًا. لكنه أتى وتجلّى في مداد قلم هذا الرجل الاستثنائي. في كتابته عذوبة ممزوجة بالرفض والتمرّد. لأن "الإنسان" كان دائمًا صوب عينيه وهو يكتب. كرامة الإنسان العربي وحقه في الوجود الكريم كانا محور بحثه بين ركام التاريخ. كان محفوظ عبد الرحمن خزّافًا بارعًا ينحتُ في صخور الماضي ليستخرج "التراث" من "الموروث"، كما يستخرج الصائغُ قطعَ الألماس من بين صخور الفحم. كان دائم البحث عن الفارس الذي يأتي فوق صهوة حصانه ليُعزّ قومًا أذلوا أنفسهم. فإن لم يجد ذلك البطل، خلقَه بين صفوف شخوص رواياته ومسرحياته وأفلامه. وكان جميلا بشوشًا نبيلا وهو يفعل كل هذا. لهذا كافأته السماءُ بزوجة جميلة تستحقه ويستحقُها. صديقة الفيلسوف التي سهرنا على صوتها الإذاعي العذب أيامًا وسنواتٍ لنسمع منها حوارها مع ذلك الحكيم الافتراضي. الفنانة الجميلة سميرة عبد العزيز. طوباكِ وطوبى لمن اخترتِه رفيقًا للدرب الشاقّ. محفوظ عبد الرحمن، قيمة إبداعية هائلة خسرته مصرُ بالأمس بعدما دوّنت اسمَه في سجّل الشرف. يا أبي الجميل الذي لم أحبّ أحدًا كما أحببتك، ولم يُكرمني أحدٌ كما أكرمتني، نمْ ملء جفنيك وانعم بملكوت الله.