العَلمانية: صحوة العقل (4/5)


السيد نصر الدين السيد
الحوار المتمدن - العدد: 5624 - 2017 / 8 / 29 - 23:33
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

(العلمانية: النشأة والمسيرة)
لم تكن العلمانية نبتا شيطانيا ولكنها كانت ناتجا طبيعيا لتفاعل ثلاث حركات اجتماعية وثقافية احدثت تغيرات جوهرية في مجتمعات أوروبا الغربية واستمرت لعدة قرون. وفهم الظروف التي أحاطت بالنشأة وبالتغيرات التي أحدثها الانتشار هو أمر لا غنى عنه لكل مؤمن بالفكرة يسعى لتحقيقها في المجتمع. واذا كنا خصصنا الفصلين الثاني والثالث للحديث عن مرتكزي العلمانية الأول ("الإنسانية") والثاني ("اللادينية") يحين وقت الحديث عن مرتكزها الثالث وهو "العقلانية".والعقلانية هي ببساطة استخدام العقل في كلا من "الفكر" و"الفعل" (Stanovich, 2009). واستخدام العقل في "الفكر" معناه ألا تعتقد في صحة شيئ ما لم توجد شواهد قوية على صحته. فاعتقادك بوجود "العفاريت"، على سبيل المثال، يعتبر تفكيرا لاعقلاني لعدم توفر شواهد محققة تؤكد وجود مثل هذه الكائنات. ويطلق على هذا المكون من مكونات العقلانية اسم "العقلانية المعرفية (أو الإبيستيمية)" Epistemic Rationality. أما ثاني مكونات العقلانية فهو "العقلانية الإجرائية" Instrumental Rationality التي تعنى قدرتك على تبنى أهداف مناسبة وعلى تحقيقها بأفضل الوسائل الممكنة.

ولم تكن "الحركة العقلانية" بمعزل عن الحركتين، "الحركة الإنسانية" و"حركة الإصلاح الديني". فلقد مهدت كلا من الحركتين، الطريق امام "الحركة العقلانية"، لتفعل فعلها. فـ "الحركة الأولى" حررت الانسان من اعتماده على كائنات وكيانات غيبية في إدارة شئون حياته وحملته هو نفسه المسئولية عن إدارة هذه الشئون. كما أكدت هذه الحركة على امتلاك الانسان القدرات الذاتية التي تمكنه من القيام بمتطلبات هذه المسئولية. أما "حركة الإصلاح الديني" فقد حررته من سيطرة الكنيسة على أفكاره ومن القيود التي فرضتها على سلوكياته، واعترفت بوجود عالمين مختلفين لكل منهما قوانينه الخاصة التي تحكمه وهما "عالم الغيب" غير المنظور و"عالم الشهادة" وهو الواقع الذي نعيشه. وهكذا اكتسب الانسان استقلاله وكان عليه إيجاد أداة جديدة تمكن عقله، وقد صار حرا من الآراء المسبقة والقيود المقدسة، من فهم ما يدور حوله من احداث وتحل محل "الوحي الرباني" و"الحدس الإنساني". او بعبارة أخرى عقل قادر على التعامل مع الواقع وانتاج المعرفة المتعلقة بظواهره واحداثه. أداة محايدة لا ترتبط بديانة محددة ولا تنحاز لأمة بعينها ويمكن التحقق من صحة ما تنتجه من معرفة.

وما إن قارب القرن السادس عشر على الانتهاء حتى بدأت ملامح ثورة ذهنية كبرى في التشكل والظهور فيما يعرف في أيامنا بأوروبا الغربية. وكانت الثورة هي "الثورة العلمية" التي تضافرت عدة عوامل على تهيئة البيئة الصالحة لظهورها مثل: حركتي الإنسانية والإصلاح الديني، الرغبة في حيازة القوة، النظر لظواهر الطبيعة بصفتها موضوعات تتطلب البحث والتقصي وليس بصفتها رموزا أو تجليات لكائنات أسطورية، وأخيرا تطور أدوات البحث والتجريب (Pekelis, 1974). وتأتينا الأخبار بأسماء الرواد الأول وأعمالهم فنجد من أبرزهم فرانسيس بيكون (1561-1626م)، المحامي ورجل الدولة الإنجليزي، صاحب مقولة "المعرفة قوة" والذي اعتبر ان مصدر ما نكتسبه من معارف هو حصيلة خبرتنا في التعامل مع الواقع سواء كان هذا التعامل مجرد رصد لأحواله المتغيرة وتسجيلها، أو نتيجة لتجارب تم إجراءها وتسجيل نتائجها. هذا بالإضافة الى تبنيه "المقاربة الاستقرائية" كأداة منطقية لاستخراج المعرفة من البيانات التي تصف الواقع. ونرى أيضا رينيه ديكارت (1596-1650م)، الفيلسوف وعالم الرياضيات الفرنسي، الذي أثرت أفكاره على "منهج التفكير العلمي" الحديث والتي كان من أبرزها "قاعدة اليقين" ومؤداها "ألا أقبل شيئاً على أنه حق ما لم أعرف يقيناً أنه كذلك، بمعنى أن أتجنب بعناية التهور، والسبق إلى الحكم قبل النظر، وألا أدخل في أحكامي إلا ما يتمثل أمام عقلي في جلاء وتميز، بحيث لا يكون لدي أي مجال لوضعه موضع الشك" (ديكارت, 1985). ولا يمكننا في هذا السياق نسيان جاليليو جاليلى (1564-1642م) الذي كان بطل المشهد التاريخي عندما احتشد أهل مدينة بيزا الإيطالية في صباح أحد الأيام الأخيرة من القرن السادس عشر في الميدان المحيط ببرجها المائل الشهير ليشهدوا بأنفسهم نهاية الجدل الذي طال أمده حول سرعة سقوط الأجسام وما إذا كانت سرعة سقوط ريشة الطائر هي نفسها سرعة سقوط كرة من الحديد. ويحسم الجدل بصعود العالم الإيطالي جاليليو إلى قمة البرج ليلقى من فوقها عدة كرات مصنوعة من مواد مختلفة ليثبت للجميع بالدليل القاطع والمحسوس أن سرعة سقوط الأجسام تتوقف على كتلتها لا على طبيعة المواد المصنوعة منها. وهكذا كان ميلاد أول مبادئ العلم الحديث مبدأ "التجريب" أو الاحتكام الى الواقع.

وتعود الأهمية غير المسبوقة لهذه الثورة، ثورة العلم، في تاريخ الإنسان إلى ما جاءت به من آليات وأدوات ذهنية للنظر في أحوال الواقع المحسوس، وإلى ما أنتجته هذه الآليات والأدوات من معارف غير مسبوقة في خصائصها الفريدة. ولقد شكلت هذه الآليات والأدوات مجتمعة ما يعرف بـ "منهج التفكير العلمي" بسماته المميزة التي عملت على نقل الإنسان نقلة هائلة تفوق كل ما تعرض له من نقلات وتحولات، وأزاح "منهج التفكير الغيبي" عن مكانه الذي احتله في عقل الإنسان منذ أن وجد على ظهر الأرض. ويقوم المنهج الجديد "منهج التفكير العلمي" على ثلاثة ركائز هي: "الإمبريقية"، "العقلانية" و"الشك".

والركيزة الأولى، "الإمبريقية"، تعنى الاعتماد على الشواهد المحسوسة (أو الإحصائية/الإمبريقية) فقط فلا مكان في العلم للشواهد القائمة على السمع أو على العنعنات (فلان قال عن علان الذي قال عن فلان ....) ولا تلك القائمة على شهادة أفراد ولا على تلك القائمة على الإلهام أو العاطفة. أو بعبارة أخرى مرجعية الواقع. وتعود أهمية هذا النوع من الشواهد إلى امتلاكه خاصيتين: الاتفاق والتكرار. فـ "ازدهار الأشجار في الربيع" هي أمر يشاهده الجميع وهو أمر يتكرر كل سنة. وثاني الركائز، "العقلانية"، تعنى استخدام أدوات التفكير المنطقي في تحليل الشواهد الإمبريقية واستخلاص النتائج منها (انظر الملحق). فعلى سبيل المثال هناك "المقاربة الاستقرائية" Inductive Approach التي تهدف الى استخلاص المبادئ العامة والنظريات انطلاقا من دراسة الحالات الخاصة (الاستقراء القائم على التعميم). وهناك أيضا الـ "المقاربة الاستنباطية" Deductive Approach التي تهدف الى اختبار صحة نظرية ما بمقارنة ما تتنبأ به نتائج مع البيانات الواقعية التي تم جمعها اما برصد وتسجيل السلوك الفعلي أو تلك التي نحصل عليها بواسطة اجراء التجارب. وتتكامل هاتين المقاربتين لتشكلا سويا "عجلة إنتاج المعرفة" هذه العجلة التي لم تكف عن الدوران منذ ظهور منظومة العلم الحديث وحتى يومنا هذا. فما تنتجه "المقاربة الاستنباطية" من بيانات، على هيئة تنبؤات أو مشاهدات، تشكل المادة الأولية التي تستخدمها "المقاربة الاستقرائية" لإنشاء نظريات تمثل نقطة البدء لعملية استنباط جديدة.

ونصل أخيرا الى ثالث ركائز "منهج التفكير العلمي"، "الشك"، التي تذكرنا بـ "قاعدة اليقين" لديكارت، وتعنى خضوع المعرفة التي ينتجها العلم للنقد الدائم بهدف التأكد من صحتها ولتعديلها عند الضرورة. فالمعرفة العلمية هي تلك المعرفة القابلة لـ "التفنيد" Falsifiability وذلك طبقا لفيلسوف العلم الشهير كارل بوبر. فمنهج العلم، طبقا لبوبر هو: "منهج صياغة الفروض الجريئة والمحاولات البارعة والعنيفة لتفنيدها" (Popper, 1965). ويكمن في هذه الركيزة سر قدرة منظومة العلم الدائمة على التطور والتنامي والتكيف وعلى التغلغل في شتى أمور حياة الإنسان.

وهكذا منح العلم الإنسان، ولأول مرة في تاريخه، أداة ذهنية تمكنه من فهم وتفسير ظواهر الواقع ومن التحقق من صدق تصوراته عنه. أداة لا ترتبط بمجتمع بعينه ولا تخضع لأهواء ثقافة بعينها بل هي أداة عالمية تتعالى فوق اختلاف الحضارات. وهي بذلك تمثل النقيض لمنهج التفكير الغيبي بشتى صوره بارتباطه بثقافة المجتمع وافتقاده لوسائل تمكنه من التحقق من صحة ما ينشأ عنه من تصورات.

ملحق: الاستقراء والاستنباط
الاستقراء
"كل بطة" (الخاص) أنا رأيتها كانت سوداء اللون لذا فإن لون "كل البط" (العام) هو اللون الأسود
الاستنباط
"كل البجع" (العام) الذي رأيته كان ابيض اللون لذا فإن "البجعة" (الخاص) التي سأراها ستكون بيضاء
المراجع
Pekelis, V. 1974. Cybernetics: A to Z. Moscow: Mir Publisher.
Popper, K. 1965. The Logic of Scientific Discovery. New York: Harper Books.
ديكارت. 1985. مقال عن المنهج. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.