عرض كتاب: -الثورة غير المنتهية-


نايف سلوم
الحوار المتمدن - العدد: 5624 - 2017 / 8 / 29 - 20:32
المحور: ملف الذكرى المئوية لانطلاق ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا     

الثورة غير المنتهية لاسحاق دويتشر
عنوان الكتاب الأصلي:
The unfinished revolution Russia 1917-1967.
Isaac deutscher, oxford university London 1967.
فصول الكتاب:
1- المنظور التاريخي.
2- انقطاعات في استمرارية الثورة.
3- البنية الاجتماعية.
4 - تجميد الصراع الطبقي.
5- الاتحاد السوفيتي والثورة الصينية.
6- نتائج وتوقعات.
الفصل الأول:تمهيد
بعد تفكك الدولة السوفيتية، وبعد فشل الثورة الروسية في تحقيق الآمال الأممية والإنسانية التي أثارتها- يتوجب نقد هذه التجربة نقداً جذرياً لاستخلاص الدروس، وهو نقد من موقع نظري/عملي ماركسي. أي نقد من موقع الحركة الاشتراكية . يكتب سارتر: "منذ أكثر من قرن من الزمن ، وتحت أشكال تتبدل مع مجرى التاريخ ، هناك حركة واحدة تقود المستغَلين إلى المطالبة لأنفسهم وللجميع بإمكانية كينونتهم بشراً بصورة تامة شاملة - حركة واحدة تكشف المجتمع بالذات في كل واقعة وتحدد البورجوازية بالاستغلال في الوقت الذي تعتبرها سائر الحركات طبقة شمولية . حركة واحدة تنتج من خلال العمل و به نظرية/ أيديولوجية تتيح لها أن تفهم نفسها وأن تفهم الآخرين: إنها الحركة الاشتراكية منظوراً إليها في مجملها . إنها الحكم المطلق على سائر الحركات لأن المستغَلين يصطدمون بالاستغلال وبصراع الطبقات بوصفه واقعهم، وبوصفه حقيقة المجتمعات البورجوازية : فهي ترى المعنى العميق للمناورات والعمليات لأنها لا تستطيع أن تتخلف عن ربطها ببنى التاريخ الأساسية . ولأنها حركة الإنسان الذي هو في سبيله إلى صنع نفسه . أما الأحزاب الأخرى غير الاشتراكية الماركسية فتعتقد أن الإنسان قد صُنع ، وأنه تابع مجرّد للمِلْكية البورجوازية، ملاك ضجر لا يعرف من حاجات لم تشبع ، إنها قوة الاستغلال وتجزيء الصراع الطبقي إلى منازعات مشتتة وخاصة. و واضعو عقائدها ومؤرخوها يبحثون عن معنى التاريخ في كل مكان اللهم إلا حيث هو موجود : ولهذا السبب لا يملكون وسائل فهم عمل الطبقات المستقلة ولا وسائل الحكم عليه ، بل هم يجردون أنفسهم حتى من القدرة على الحكم على أنفسهم لأنهم لا يريدون معرفة حقيقة ما يفعلون..إن الاشتراكية التي تنقسم على نفسها وتتعارض أجزاؤها .. هي نفسها التي تستطيع ويجب عليها تقييم عمل روسيا الاشتراكية .."
نقرأ عند دويتشر: "إن الأرض التي نطرقها هي من الأراضي التي يخاف المؤرخون ارتيادها، وإذا ارتادوها فبخشية ووجل" ص /29/ ويضيف: ..لم تحافظ أي من الثورات [السابقة] على استمرارية مشابهة، ولو نسبياً لاستمرارية الثورة الروسية، سواء في المؤسسات السياسية، أم في السياسات الاقتصادية، أم في الأعمال التشريعية، وفي التقاليد الأيديولوجية" /30/
يقول دويتشر وهو يتحدث عام 1967: "إن مجرد استمرار الثورة الروسية يظهر استحالة تكرار أي شيء مشابه لهذه الدورة التاريخية الكلاسيكية [البورجوازية في بريطانيا وفرنسا] فليس من الممكن بتاتاً أن نتصور أن روسيا قد تعيد آل رومانوف إلى الحكم ولو لفترة، ثم تطيح بهم من جديد. كما أننا لا نستطيع أن نتخيل عودة الارستقراطية العقارية الروسية من جديد. كما حدث في فرنسا بعد عودة الملكية ومطالبتها باستعادة أملاكها أو بتعويضها عن الأراضي التي انتزعت منها. لقد عاش الإقطاعيون الفرنسيون الكبار مدة تقارب العشرين عاماً في المنفى، فقط، ولم تعد أمجادهم الماضية سوى ذكرى يحنون إليها. أما بالنسبة لروسيا، فلم يبق حياً أحد من الإقطاعيين والرأسماليين الروس الذين ذهبوا إلى المنفى عام 1917، ومن المؤكد أن أولادهم وأحفادهم قد ابتعدوا عن ممتلكات أسلافهم، حتى في أحلامهم. ولا تشكل المصانع والمناجم التي كان آباؤهم وأجدادهم يمتلكونها إلا جزءاً ضئيلاً من الصناعة السوفيتية التي أنشئت وطورت منذ ذلك الحين في ظل الملكية العامة. ويبدو واضحاً الآن أن الثورة قد تخطت كل العوامل الممكنة لعودة النظام القديم. ولم تتلاش أحزاب "النظام القديم" من الوجود وحسب، بل تلاشت في المنفى أيضاً وتلاشت حتى كأشباح، بل إن المنشفيك والاشتراكيين الثوريين أنفسهم الذين سيطروا على المسرح السياسي في ما بين شباط وتشرين الأول، لقوا نفس المصير. إن الحزب الذي حقق النصر في انتفاضة أكتوبر هو وحده الذي ما زال قائماً بكل سلطانه الأسطوري. وما زال حاكماً ورافعاً أعلام عام 1917 وشعاراته"
لكن، هل هذه الاستمرارية حقيقة أم شكلية؟.. وكيف يستطيع إطار فارغ، لا يحتوي أي مضمون فعلي، أن يصمد لفترة طويلة كهذه؟ وحين يعيد القادة السوفييت المتعاقبون تأكيد ولائهم للأهداف والغايات الأصيلة للثورة، فإننا لا نستطيع أن نصدق إعلاناتهم بشكل كلي، إلا أننا لا نستطيع أن نتجاهلها أيضاً.."
..لقد اقتضى الأمر مرور قرنين من الزمان قبل أن يبدأ الإنكليز بتغيير وجهة نظرهم بصدد "الثورة العظمى" وفي التحدث عنها باحترام أكبر. ومضى وقت أطول قبل أن يصبح ممكناً إقامة نصب لكرومويل أمام مجلس العموم (البريطاني)" ..
"أما الروس فما يزالون [بعد انقضاء خمسين عاماً] يتقاطرون يومياً إلى ضريح لينين في الساحة الحمراء. وحين أدانوا ستالين وأخرجوه من الضريح. فإنهم لم يمزقوا جثته إرباً، كما فعل الإنكليز بجثة كرومويل، والفرنسيون ببقايا مارا، بل قاموا بهدوء، بإعادة دفنه تحت حائط الأبطال في الكرملين. وحين قرر خلفاؤه التخلي عن جزء من تركته، فإنهم اعترفوا بأنهم إنما يرجعون إلى منبع الثورة الروحي، إلى مبادئ وآراء لينين ..إلا أن تياراً قوياً من الاستمرارية يجري خلف هذه الطقوس. ما زال تراث الثورة حياًن بشكل أو بآخر، في بنيان المجتمع وفي عقل الأمة"
...على أية حال فقد حدثت انقطاعات حادة في إطار استمرارية الثورة، إلا أن هذا الإطار هو إطار كثيف بشكل كاف. ولا يستطيع أي مؤرخ جدي أن يتجاهل هذا الإطار، أو أن يبقى خارج مجال تأثيره، إذا أراد أن يفهم الثورة..كما أن المؤرخ الجدي لا يستطيع أن ينظر إلى أحداث نصف القرن هذا نظرته إلى أحد انحرافات التاريخ أو إلى عمل شيطاني من تدبير حفنة من رجال أشرار. ..إن ما يتجسد أمامنا هو قطعة هائلة ونابضة من حقائق التاريخ الموضوعية، ونمو عضوي في تجربة الإنسان الاجتماعية، واتساع كبير في آفاق عصرنا.
..إنني أشير، بصورة أساسية إلى العمل الخلاق الذي أنجزته ثورة أكتوبر، ولست في صدد الاعتذار بسبب هذا التخصيص. ذلك أن ثورة شباط 1917 لا تحتل مكانها في التاريخ إلا بوصفها مقدمة لثورة أكتوبر.
..مثل ثورة شباط/ 1917 الروسية- كمثل ثورة 1918 الألمانية...هل يستطيع أحد التحدث الآن عن ثورة 1918 الألمانية كحدث ذي تأثير أساسي من أحداث القرن العشرين؟ ...لقد تركت هذه الثورة النظام الاجتماعي القديم سليماً، وكانت مقدمة لصعود النازية...ولو بقيت روسيا محصورة في نطاق ثورة شباط.. لو أنها أنتجت صيغة مشابهة لجمهورية ويمار الألمانية..فأي سبب يدعونا إلى الافتراض أننا كنا سنتذكر الثورة الروسية اليوم؟"
.. ما تزال قلة من المنظرين والمؤرخين تعتبر ثورة أكتوبر حدثاً جاءت به الصدف. إذ يُصرّ البعض على أن روسيا كانت ستتجنب الثورة لو أن القيصر كان أقل عناداً في تمسكه بامتيازاته المطلقة، أو فيما لو اتفق مع المعارضة الليبرالية الموالية، ويقول آخرون أن الفرصة ما كانت لتسنح للبولشفيك لو لم تتورط روسيا في الحرب العالمية الأولى، أو لو أنها انسحبت منها في الوقت المناسب، وقبل أن تجرها الهزيمة إلى الفوضى والخراب. واستناداً لوجهة النظر هذه فإن انتصار البولشفيك إنما جاء، نتيجة للأخطاء والحسابات غير الصائبة التي ارتكبها القيصر ومستشاروه، أو الرجال الذين استولوا على الحكم بعد سقوط القيصر مباشرة، ..حقاً أن القيصر ومستشاروه ارتكبوا العديد من الأخطاء السخيفة، إلا أنهم ارتكبوها بضغط من البيروقراطية القيصرية، وبتأثير من عناصر الطبقات المالكة التي كان لها نفوذ في النظام القيصري. وكذلك فإن حكومة نظام شباط، وحكومات الأمير لفوف وكيرنسكي لم تكن حرة التصرف.
فقد أبقت هذه الحكومة روسيا داخل الحرب لأنها كانت كسابقتها (الحكومة القيصرية) معتمدة على مراكز الرأسمال المالي، الروسية منها والأجنبية التي كانت مصرة على أن تبقى روسيا، حتى النهاية، طرفاً محارباً بين صفوف الحلفاء. وعلى هذا فإن "الأخطاء والحسابات غير الصائبة" إنما كانت إفرازاً حتمياً لأوضاع اجتماعية معينة". .
بالفعل، فقد كشفت الحرب بشكل عنيف وفاقمت الضعف البالغ للنظام القديم، غير أنه يصعب القول أنها كانت السبب الحاسم لهذا الضعف" . لقد اهتزت روسيا مع ارتعاشات الثورة قبل الحرب. فامتلأت شوارع بتروغراد بالمتاريس صيف 1914. وبالفعل، فقد أغرق انفجار القتال، والتعبئة (الحربية) الثورة المبتدئة وأخّرها لمدة تقارب السنتين والنصف، ليعيد إطلاقها من جديد بقوة انفجارية أعظم.
...لقد استولى حزب ماوتسي تونغ على السلطة عام 1949، بعد أربع سنوات من انتهاء الحرب العالمية الثانية. ويلقي هذا الأمر نوراً كاشفاً على العلاقة بين الحرب العالمية الأولى والثورة الروسية. ..
يكتب مارسيل ليبمان نقلاً عن لينين: "مع النضال ضد الحرب الإمبريالية الأولى..كان يقوم رابط ملموس بين الطليعة الثورية (الروسية) والمؤخرة الأوربية للثورة العالمية" ..
إضافة لذلك فقد أنهكت الحرب القوى الإمبريالية الرئيسية وسمحت للبلاشفة بتحويل الحرب الإمبريالية إلى حرب أهلية ثورية ضد القيصرية.
..إن المؤرخ الذي يعمل على تقليص جبل الثورة إلى بضعة مصادفات، يجد نفسه عاجزاً عن فهمها. تماماً كالقادة السياسيين الذين عملوا على إيقاف صعودها. [المناشفة]. ..
يقول دويتشر: "إن كل ثورة يبدأ أعداؤها في التساؤل عن شرعيتها التاريخية. وقد يفعلون ذلك، أحياناً، حتى بعد مضي قرنين أو ثلاثة على حدوثها"..
..يعطي تريغليان الثورة الإنكليزية العظمى حقها...حتى عندما يؤكد أنها خلّفت الأمة "أكثر فقراً وأقل نبلاً" مدة من الزمن، وهذا ما ينطبق ...بمعنى أو آخر على الثورات الأخرى، بما فيها الثورة الروسية....
ويضيف تريغليان: "إن كرومويل والطهرانيين (البيوريتانيين) هم الذين أسسوا مبدأ سيادة البرلمان، رغم أنهم كانوا من معارضيه، ورغم ما أبدوه من رغبة في إزالته. فقد تجاوزت أعمال الثورة الطهرانية (البيوريتانية) الحسنة أخطاءها. ففي الواقع أنه بالسيف استطاع البرلمان أن يكسب حقه في البقاء بوصفه السلطة السائدة في الدستور "الإنكليزي" [تريغليان: موجز تاريخ إنكلترا]
لم يكن الروس قادرين على نسخ النماذج الغربية للديمقراطية البرلمانية وذلك لكون البورجوازية الروسية باتت عاجزة (حزب الكاديت) عن حل مهام الثورة البورجوازية في روسيا...بالسيف استطاع البلاشفة أن يكسبوا لمجالس نواب العمال والفلاحين والجنود (مجالس السوفييت) – وللاشتراكية- حقها في البقاء كسلطة سائدة في الدستور السوفييتي، رغم أنهم قاموا، بأنفسهم، بتقليص مجالس السوفييت هذه، ومطامحها الاشتراكية إلى مجرد وجود شكلي، فقد بقيت هذه المجالس أهم ما حملته رسالة الثورة"...
أما بالنسبة للثورة الفرنسية فقد ناقش ضرورتها أو أنكرها عدد كبير طويل من المفكرين والمؤرخين، من بيرك، الخائف من العدوى اليعقوبية، إلى توكفيل، المشكك بالديمقراطية الحديثة، وتين، الذي أفزعته كومونة باريس، حتى مادلين، وبينيفيل وتلامذتهم، الذين عمل بعضهم فيما بعد عام 1940، وتحت نظرات الماريشال بيتان المشجعة على دفن شبح الثورة. والمدهش أن توكفيل، من بين جميع هؤلاء الكتاب، قد اكتسب الشهرة الأوسع، مؤخراً، في البلاد التي تتكلم اللغة الإنكليزية. وقد حاول عدد قليل من المتعلمين أن يصوغوا مفهومهم حول روسيا الحديثة بالاستناد إلى كتابه "النظام القديم والثورة". ويعجب هؤلاء بحجج توكفيل القائلة بأن الثورة لم تمارس أي انعطاف راديكالي بالنسبة للتراث السياسي الفرنسي، وأن كل ما فعلته كان إتباع نفس الاتجاهات الأساسية التي كانت تتفاعل في ظل النظام القديم، وخاصة الاتجاه نحو مركزة الدولة ونحو توحيد الحياة القومية. ..
بالمقابل، فإن كل ما حققه الاتحاد السوفيتي من إنجازات تقدمية كانت وفق المنظور السابق) مجرد استمرار لعملية التصنيع والإصلاح التي بدأها النظام القديم. ولو بقي النظام القيصري قائماً، أو لو استبدل بجمهورية ديمقراطية بورجوازية لكان العمل قد استمر في نفس الاتجاه، ولكان التقدم قد تحقق بشكل أكثر انتظاماً وعقلانية . وأنه كان ممكناً لروسيا أن تصبح القوة الصناعية الثانية في العالم دون الحاجة إلى دفع الثمن المروِّع الذي فرضه البولشفيك، ودون الحاجة إلى تحمل مضاعفات المصادرات والرعب ومستويات المعيشة المنخفضة، والانحطاط البيروقراطي" ...
كانت قريش بعد وفاة هاشم وعبد المطلب قد عقدت اجتماعاً في دار الندوة سمته (حلف الفضول) - وهو أشبه بما يمكن تسميته بـ "تحت- برلمان" بالمعنى الحديث- تناقش أمورها وتديرها، عبر تعاقد بين القبائل على نصرة المظلوم . لكن الخلاف الشديد بين بني هاشم وبني أمية صدع الأمر..وكانت من الناحية الأخرى قوافل قريش محمية من قبل عبيد (جنود)... كانت "الدولة" القرشية تتشكل عبر "دار الندوة" من جهة، وعبر الجيش الذي راح يتشكل من حماة القوافل. لكن قريش بغاراتها وبغياب "الأيديولوجية" الموحّدة بعد موت عبد المطلب- وبغياب القوة الأخلاقية الجديدة، كانت عاجزة عن القيام ببناء دولة للعرب، كما فعل محمد ومشروعه السياسي- التاريخي الجديد.
إن القطيعة التاريخية تصنعها القوى السياسية والأيديولوجية الجديدة عبر إشراك قوى جديدة لإحداث الانتقال التاريخي والقطع /الرفع.
لقد حاول "توكفيل" تبني الثورة الفرنسية وفقاً لشروطه المحافظة، وأن يدخلها في التراث القومي (الفرنسي) ...إلا أن حماس مقلديه للانتقاص من قيمة العمل الخلاق والمبتكر الذي أنجزته الثورة الروسية، كان أكبر من حماسهم "لتبنيها"، حتى وفق شروطهم الخاصة" ..
إذا قلنا مع توكفيل: "إن الماضي يعكس نفسه بشكل مشوه ضمن عمل الثورة المجدد..فإننا ننظر إلى الجديد من موقع القديم. وهذه وضعية فلسفية (ونظرة رجعية) .. أما قول لينين: "إننا نبني نظاماً جديداً من الحجارة التي خلفها لنا النظام القديم" فهذا معناه أن أية ثورة لا تأتي من العدم، إذ تؤثر كل ثورة في البيئة التي أفرزتها، وتعتمد على المواد التي تجدها في هذه البيئة" ..
ويصح القول هنا: "إن روسيا خطت خطوة حقيقية في طريق التصنيع، أثناء حكم القيصرين الأخيرين، خطوة ما كان ممكناً لولاها أن تدخل الطبقة العاملة الصناعية إلى المسرح السياسي، بمثل تلك السرعة..[لقد حققت روسيا بعض التقدم]..إلا أن ذلك لا يعني أن التقدم كان سيستمر بطريقة "منتظمة"، دون الحاجة إلى عمل الثورة. بالعكس، فالتقدم الذي تم في ظل النظام القديم كان، بالتحديد، هو الذي عمل على تدمير هذا النظام." إذ كانت قوى التقدم محصورة ضمن النظام القديم إلى حد أنه كان عليها أن تفجره..." ..
..كانت قوى الإنتاج في فرنسا قد تجاوزت علاقات الملكية الإقطاعية . وأصبح مستحيلاً احتواؤها ضمن محاور المَلَكيّة البوربونية، التي حفظت وحمت هذه العلاقات..." .. كانت المشكلة التي واجهتها روسيا مماثلة، مع قدر أكبر من التعقيد. فقد اصطدمت الجهود التي بذلت أثناء حكم القياصرة لتمدين (من مدينة) نسيج الحياة القومية، برواسب قوية من الإقطاعية، وبتخلف وضع البورجوازية الروسية، وبصرامة الأوتوقراطية، وبنظام الحكم المهترئ ، وأخيراً، وليس آخراً ، بتبعية روسيا اقتصادياً للرأسمال الأجنبي. وهكذا تحولت الإمبراطورية العظمى، أثناء حكم آخر آل رومانوف، إلى نصف إمبراطورية ونصف مستعمرة، إذ كان أصحاب الأسهم الغربيون يمتلكون 90% من مناجم روسيا، و50% من ودائعها المصرفية. وكان الرأسمال المحلي نادراً، وكذلك كان الدخل القومي أقل بكثير من المتطلبات الحديثة. إذ كان أكثر من نصف هذا الدخل ناجماً عن الزراعة التي كانت بدورها جد متخلفة. وقدرتها على المساهمة في تراكم رأس المال قدرة ضعيفة. وفي حدود وفرت الدولة، بواسطة الضرائب، بعض مقومات الصناعة، إذ قامت ببناء ميناء السكك الحديد، على سبيل المثال. ولكن رأس المال الأجنبي، كان بشكل إجمالي عماد التوسع الصناعي..
كانت روسيا حتى تنجز انطلاقتها الصناعية" بحاجة إلى استغلال مواردها الزراعية وجهود عمالها الفائقة..، ولم يكن تحقيق أي من هذه المتطلبات ممكناً في ظل النظام القديم. إذ كانت الحكومات القيصرية تابعة للرأسمال الأجنبي إلى حد منعها من تقديم مصالح روسيا القومية عليه، وكانت إقطاعية في خلفيتها وفي ارتباطاتها الاجتماعية التي كانت تشكلها ، إلى الحد الذي منعها من تحرير الزراعة من قبضة الارستقراطية العقارية. ولم تملك أي من الحكومات التي سبقت البولشفيك القوة السياسية والسلطة المعنوية الكافية لدفع العمال إلى بذل الجهود والتضحيات التي كان التصنيع يتطلبها في كل الأحوال. كما لم تملك أي منها بعد النظر، والتصميم، والعقل الحديث، الضرورية لهذه المهمة،..ولا يبدو ممكناً أنه كان باستطاعة أي نظام غير ثوري تماماً أن يوصل أمّة فلاحية، شبه جاهلة، إلى مستوى يقارب المستوى الحالي للاقتصاد والثقافة السوفيتيين" ! ..ويمكن القول: "أنه في ظل النظام القديم، أحرزت قوى الإنتاج الروسية تقدماً إلى حد كاف لتفجير البنيان الاجتماعي القديم وبنيته الفوقية السياسية"
..وكما كان ضرورياً إحداث انقلاب في العلاقات القبلية، وبالتالي تحطيم البنية القبلية القديمة، عبر عمل سياسي محكم (دعوة محمد)..كذلك الأمر في روسيا- ففي روسيا: "إن أية آلية اقتصادية تبقى في أي حال، عاجزة عن إفراز الاضمحلال النهائي لنظام قديم قائم .."
..إن التناقضات الموضوعية في النظام القديم تترجم نفسها إلى تعابير ذاتية، أي إلى أفكار، وتطلعات وانفعالات فعالة لدى الشعب. نقرأ عند بليخانوف: "يقود ديالكتيك التطور التاريخي لا إلى أن "يصبح المعقول لا معقولا، والمفيد ضاراً فحسب، بل كذلك إلى أن تتحول المصالح الأنانية لمجتمع أو طبقة ما في قلوب الأفراد- إلى نبضات مليئة باللاأنانية والبطولة. ويكمن سر هذا التحول في تأثير البيئة الاجتماعية"
إن جوهر الثورة ..هو "التدخل المباشر للجماهير في الأحداث التاريخية"..وبسبب هذا التدخل- الذي يشكل ظاهرة جد حقيقية وجد نادرة في التاريخ- كان عام 1917 "استثنائياً" وهائلاً..فقد تملكت جماهير الشعب الواسعة وعياً حاداً وملحاً بأن النظام القائم قد تعفن حتى العظم، وكان هذا التملك فجائياً. إذ اندفع الوعي إلى الأمام ليحاذي الحقيقة الاجتماعية الواقعة، وليغيرها.
إلا أن هذا التغيير في نفسية الجماهير لم يأت من العدم. بل تطلب الأمر أجيالاً متعاقبة من الاختمار الثوري ومن النمو البطيء للأفكار- وتطلب ولادة وتلاشي العديد من الأحزاب والجماعات – لإفراز المناخ الأخلاقي- السياسي، ولإفراز قادة، وأحزاب وأساليب عمل 1917 . ولم يكن هناك مجال لأي قدر من الصدفة، فخلف هذه الثورة ... يكمن قرن كامل من التحضيرات والمحاولات الثورية...
وقد عبرت الأزمة الاجتماعية، التي عانتها روسيا القيصرية، عن نفسها بالتناقض الحاد بين وضعها وأهميتها كقوة عظمى والضعف الهائل لبنيانها الاجتماعي، وبين عظمة إمبراطوريتها وهلهلة مؤسساتها. وقد برز هذا التناقض لأول مرة، لدى انتصار روسيا في الحرب النابوليونية" إذ ثارت أشجع قواها الروحية واندفعت للعمل، ففي عام 1825 حمل الديسمبريون السلاح ضد القيصر. وكان هؤلاء يشكلون نخبة ارستقراطية مثقفة، إلا أن جمهرة (النبلاء) [جمهرة طبقتهم] وقفت ضدهم وقتها. ولم تكن أية طبقة اجتماعية في روسيا بقادرة على حفز تقدم الأمة. إذ كانت المدن قليلة العدد ما تزال مرتدية طابع القرون الوسطى. وكانت الطبقة الوسطى المكونة من تجار وحرفيين أميين، ذات وجود هامشي سياسياً. وقد قام الفلاحون الأقنان بعدة تمردات تشنجية، إلا أنه لم تبرز، منذ هزيمة بوغاتشوف أية حركة واسعة النطاق تهدف إلى تحريرهم. كان الديسمبريون ثوريين دون أن يجدوا أية طبقة ثورية خلفهم . وتلك كانت مأساتهم، ومأساة أجيال متعاقبة من المتطرفين والثوريين الروس حتى نهاية القرن التاسع عشر تقريباً..وقد عكست هذه المأساة نفسها بأشكال مختلفة في الفترة اللاحقة للثورة... إذا كان فشل الشعبيين في الستينات والسبعينيات من القرن التاسع عشر قد أكد بطلان الأمل في دفع الفلاحين إلى النهوض، فقد أوضح استشهاد جماعة "إرادة الشعب" في الثمانينيات عقم أية طليعة ثورية لا تستند إلى طبقة اجتماعية أساسية. ..وقد لقنت هذه التجارب السلبية ثوريي الأجيال اللاحقة دروساً لا تقدر بثمن..
..كانت العبرة التي استلهمها بليخانوف، وزازوليتش، ولينين، ومارتوف ورفاقهم هي ضرورة تجنب العمل كطليعة منفردة...؛ وجوب الحصول على دعم طبقة ثورية- طبقة أخرى غير الفلاحين، وفي هذا الوقت كانت الخطوات الأولى للتصنيع في روسيا، قد بدأت تعطي حلاً للمشكلة. إذ وجد الدعاة والمحترفون من جيل لينين، جمهورهم بين عمال المصانع الجدد"
...تواجد هذا التباين بين الحاجة الاجتماعية والوعي في جذور التطورات المتنوعة للحركة الثورية في روسيا على امتداد مائة عام..وأدى منطق الظروف هذا، إلى إفراز نموذجين متناقضين من نماذج التنظيم: النخبة التآمرية المكتفية ذاتياً، من جهة وحركة الجماهير من الجهة الثانية. بتعبير آخر: المنظمة الثورية من الطراز المركزي، والمنظمة الديمقراطية/العفوية ....علينا أن ننتبه أيضاً إلى الدور الخاص، والمميز ، والمؤثر تاريخياً الذي لعبته الفئات المثقفة في كل ذلك- دوراً لا نجد له مثيلاً في أي بلد آخر. إذ كانت هذه الأنتلجنسيا تنقضُّ جيلاً بعد الآخر على الأوتوقراطية القيصرية، فيتحطم رأسها على أسوارها- ممهدة الطريق بذلك لأولئك الذين أتوا بعدها، وكان يلهمها يقين شبه مسيحي برسالتها ورسالة روسيا الثورية. وحين أصبح الماركسيون في المقدمة ورثوا عن أسلافهم تراثاً عظيماً وتجربة فريدة، استطاعوا أن يقيموها بروح نقدية وأن يسخِّروها بفعالية، إلا أنهم ورثوا أيضاً مشاكل ومعضلات بعينها..
...لقد ابتدأ الماركسيون بحق، بتفنيد التراث الشعبي والإرهابي. ففندوا "الاشتراكية الزراعية "التي تنظر إلى الفلاحين نظرة مثالية عاطفية، كما دحضوا الفكرة شبه المسيحية عن الرسالة الثورية الفريدة لروسيا. وأدانوا الإرهابية والتمجيد الذاتي لدى المثقف المتطرف، والنخبة التآمرية المكتفية ذاتياً، واختاروا بالمقابل، أشكال التنظيم الديمقراطية: الحزب ونقابات العمال، والأشكال الحديثة لنضال جماهير البروليتاريا. وكان هذا الموقف المتوجه "أساسا" نحو البروليتاريين، والذي يفتقر إلى الثقة بالفلاحين، مميزاً لبدايات الحزب الديمقراطي- الاشتراكي بأسره، وبقي هذا الموقف مميزاً للمناشفة في أهم مراحل عملهم. إلا أن الحركة عندما انتقلت إلى طور العمل، لم تعد قادرة على الاكتفاء بالتفنيد المجرد للتراث المحلي- وإنما كان عليها أن تمتص ما كان ذا مغزى في هذا التراث وأن تتجاوزه. ولقد أنجزت البلشفيّة هذه المهمة قبل عام 1917 بوقت طويل.
وقد لخص لينين في نهاية حياته في كتابه (اليسارية، الجناح الطفوليّ للشيوعية)، فكرته على هذا النحو، مبيناً فائدة الثورة، وأهميتها التاريخية العالمية: "إن البلشفية موجودة كتيار من الأفكار السياسية وكحزب سياسي منذ عام 1903. على أساس متين إذا لزم الأمر من النظرية الماركسية. إن صحة هذه النظرية الثورية- وهذه النظرية وحدها- قد برهنت عليها لا التجربة الشاملة للقرن التاسع عشر بأسره وحسب، بل وبصفة خاصة تجربة، تأرجح، وتردد، وأخطاء وخيبة الفكر الثوري في روسيا، والحق أن الماركسية ، النظرية الثورية الوحيدة الصحيحة، قد دفعت روسيا ثمنها نصف قرن من الآلام والتضحيات الفريدة، من الخيبة ، من الاختبارات، من المقارنة مع تجربة أوربا..لقد عاشت البلشفية تاريخاً عملياً عمره خمسة عشر عاماً (1903-1917) كان، من حيث إغناء التجربة، لا مثيل له في العالم..فما من بلد عاش، ولا على وجه التقريب، وبالسرعة التي تعاقبت فيها الأشكال العديدة التنوع للحركة المشروعة وغير المشروعة، السلمية أو العاصفة، حركة نواد أو جماهير، برلمانية، أو إرهابية، وما من بلد قد شهد، في فترة زمنية قصيرة كهذه، تركزاً كهذا غنياً بالأشكال ، بالتلونات بالطرق، في صراع جميع طبقات المجتمع المعاصر، صراع كان ينضج بسرعة خاصة. نتيجة تأخر البلد والنير القيصري الساحق."
يقول دويتشر: "لقد ورث البلاشفة عن الشعبيين تحسسهم لمشاكل الفلاحين ، وورثوا الروح العدوانية المكثفة والإصرار التآمري الذي مثله جماعة "إرادة الشعب" ولولا هذه العناصر لبقيت الماركسية في روسيا نبتة غريبة، أو في أحسن الأحوال، امتداداً نظرياً للاشتراكية الأوربية الغربية كما كانت في مؤلفات بليخانوف وفي عدد من كتابات لينين المبكرة.
وكان تأقلم الماركسية مع البيئة الروسية أحد الإنجازات التي حققها لينين، إذ استطاع دمج الأيديولوجية الماركسية مع التراث المحلي. وقد أصر لينين على حاجة العمال، وهم القوة القائدة في الثورة، إلى كسب الحلفاء بين الفلاحين. كما أدخل إلى المثقفين والنخبة الثورية دوراً هاماً فيما يتعلق بالقضايا التثقيفية والتنظيمية، بين جماهير الحركة العمالية. وقد جاء هذا التوحيد الذي أنجزه لينين ليتوج قرناً بأكمله من المحاولات الثورية الروسية...
البلشفية، ليست ظاهرة روسية خالصة ، فهناك مساهمة لأوربا الغربية في قيامها..فسواء أراد "الغرب" أن يتذكر ذلك أم لم يرد، فإنه قد قام في الواقع، بتوظيف قدر كبير من تراثه الروحي في الثورة الروسية. وقد عبر تروتسكي عن ذلك بالقول: "في حين كانت أوربا الغربية ، "تقوم بتصدير تقنيتها الأكثر تطوراً إلى الولايات المتحدة الأميركية.. فإنها قامت بتصدير أفكارها الأكثر تقدماً إلى روسيا.." وهذا ما عبر عنه لينين بجلاء وقوة حين قال: "خلال نصف قرن تقريباً من 1840-1890، في روسيا يبحث الفكر الطليعي المسحوق تحت النير القيصري الهمجي، الرجعي، الذي لا سابق له، يبحث بدأب ونهم عن نظرية ثورية صحيحة، متتبعاً، بحمية وعناية مدهشتين كل "آخر كلمة" لأوربا وأمريكا في هذا المضمار. بالحقيقة،..فـ بفضل الاغتراب الذي فرضته القيصرية، وجدت روسيا الثورية نفسها، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أكثر ثروة بكثير في العلاقات الدولية، وأكثر اطلاعاً بكثير، من أي بلد آخر ، على أشكال ونظريات الحركة الثورية في العالم أجمع.." ...لقد اعتبر البولشفيك أنفسهم أبطال ثورة أوربية، على الأقل، يقومون هم بخوض معاركها على الأطراف الشرقية لأوربا.." وقد دفع المناشفة هذا القول إلى حد التبعية لأوربا...
أما كارل كاوتسكي كبير منظري الأممية الثانية فقد عبّر عن التصور التالي: "لقد ثابر محور الثورة على التحرك من الغرب إلى الشرق، فقد كان في النصف الأول من القرن التاسع عشر في فرنسا، وأحياناً في إنكلترا. ثم دخلت ألمانيا صف الأمم الثورية في عام 1848... وها هم السلاف (الروس) ينضمون إلينا، ويتحرك وينتقل معهم مركز الثقل، في الفكر والعمل الثوريين، أكثر فأكثر...نحو روسيا" ..
وقد علق كاوتسكي على التناقض بين هذا التطور والوضع الذي كان قائماً في 1848، حين لفح الصقيع القاسي الآتي من روسيا "ربيع الشعوب في أوربا الغربية" علق بقوله: "قد تصبح روسيا بدورها، بعد أن أخذت من الغرب هذا القدر من المبادرة الثورية، مصدراً للطاقة الثورية بالنسبة للغرب، بمعنى آخر وكما قال: "قد تساعد العاصفة الآتية من روسيا على تنقية الهواء في الغرب" ..
ظهرت تعليقات كاوتسكي هذه في عام 1902 في الآيسكرا "التي كان لينين أحد محرريها..إلا أن هذه "النبوءة" كانت في الواقع هائلة بشكل لم يتصوره أي من كاوتسكي أو لينين. فقد رأينا كيف انتقل محور الثورة أكثر فأكثر باتجاه الشرق، من روسيا إلى الصين...إن تاريخ الثورة العالمية: جوقة من أصوات الأمم المختلفة تدخل إليها الواحدة بعد الأخرى لتعبر عن أمالها وخيباتها....
الفصل الثاني (انقطاعات في استمرارية الثورة)
"عاشت روسيا في عام 1917 آخر الثورات البورجوازية العظمى وأول ثورة بروليتارية في التاريخ الأوربي، وقد تداخلت كلتا الثورتين معاً، بحيث أعطى تمازجهما، الذي لم يسبق له مثيل، النظام الجديد حيوية واندفاعاً خارقين. إلا أنه كان أيضاً ، مصدراً لضغوطات وتوترات وتشنجات عنيفة"
ربما علينا هنا، أن نقدم تعريفاً للثورة البورجوازية. من هذه التعريفات: "هي الثورة التي لعبت فيها البورجوازية دور القائد، بمعنى أنها وقفت على رأس الشعب الثائر، واستولت على السلطة...وهذا مفهوم تجريدي وغير حقيقي تاريخياً.. وتغدو الثورة البورجوازية بهذا الشكل أقرب إلى الأسطورة.. وأنها لم تحدث في أي مكان إلا بصعوبة- حتى في الغرب...فلم يكن المقاولون الرأسماليون، والتجار وأصحاب المصارف بارزين بين زعماء البيوريتانية (الطهرانية) أو قادة خيالة أوليفر كرومويل، أو في النادي اليعقوبي، أو على رأس الجموع التي هاجمت الباستيل أو اقتحمت التويلري. كما أنهم لم يستلموا زمام الحكومة أثناء الثورة، أو حتى بعد الثورة بوقت طويل، في أي من إنكلترا أو فرنسا. فقد تشكلت الكتائب الثائرة من الطبقات الوسطى الدنيا، ومن فقراء المدن، ومن العامة والمعدمين. كما أن القادة كانوا بالأحرى من صفوف "المزارعين السادة" في إنكلترا ومن بين المحامين، والأطباء، والصحفيين، وغيرهم من المثقفين في فرنسا. وقد انتهت الانتفاضات في كلا البلدين بدكتاتوريات عسكرية.
..إن أهم إنجازات هاتين الثورتين (في إنكلترا وفرنسا) وأكثرها ثباتاً أنها أدت إلى الإطاحة بالمؤسسات الاجتماعية والسياسية التي كانت تعيق نمو الملكية البورجوازية والعلاقات الاجتماعية المتمشية معها...[لقد خلقت هذه الثورات] الشروط التي كان مقدراً، في ظلها، للصناعيين والتجار، وأصحاب المصارف أن يتوصلوا إلى السيادة الاقتصادية ، بل الوصول ، في المدى الطويل، إلى التفوق الاجتماعي وحتى السياسي. إذ تخلق الثورات البورجوازية الشروط التي تمكن الملكية البورجوازية من الازدهار. وفي هذا فحسب، ، لا في التشكيلات الخاصة التي يشهدها النضال، تكمن فروقاتها المميزة" ..
بهذا المعنى، نستطيع أن نعرّف ثورة أكتوبر بأنها تلاحم (وحدة) بين ثورتين إحداهما بورجوازية، والأخرى بروليتارية. وإن كانت كلتاهما قد أنجزت بقيادة البولشفيك. ويشير التاريخ الروسي الحالي لثورة شباط (1917) إلى أنها ثورة بورجوازية ، فيما تحتفظ بلقب "بروليتارية" لانتفاضة أكتوبر وحدها. ويميل العديد من المؤرخين الغربيين إلى نفس التمييز الذي يجد تبريره في واقعة استلام البورجوازية للسلطة في شباط، إثر خلع القيصر. وفي الواقع، إن وحدة الثورتين كان قد ظهر في شباط، وإن بشكل غير جلي تماماً. فقد تم إسقاط القيصر، ومعه آخر حكوماته ، بواسطة إضراب عام وانتفاضة جماهيرية للعمال والجنود الذين خلقوا ، على الفور ، مجالسهم أو سوفيتاتهم التي أصبحت أجهزة محتملة لدولة جديدة.
إن الأمير لفوف، وميليوكوف، وكيرنسكي، قد تسلموا السلطة طوعاً من أيدي مجلس سوفييت بتروغراد المضطرب والضائع، إلا أن حكوماتهم لم تقم بأي عمل أساسي من أعمال الثورة البورجوازية، وأكثر من ذلك، فإنهم لم يعمدوا إلى تقسيم العقارات التي كان الأرستقراطيون يمتلكونها، ولم يوزعوا الأرض على الفلاحين. وهكذا كانت ثورة ..شباط فاشلة، حتى كثورة بورجوازية"..
"يشير كل ذلك إلى التناقض الضخم الذي عزم البولشفيك على التلاؤم معه، في أكتوبر، حين حفزوا ووجهوا الانتفاضة المزدوجة. فقد خلقت الثورة البورجوازية التي قادوها الشروط المناسبة لنمو أشكال ملكية بورجوازية . فيما هدفت الثورة البروليتارية ، التي أنجزوها ، إلى إلغاء هذه الملكية...
في عام 1917 لم يجرؤ أي من الأحزاب البورجوازية حتى الاشتراكيون المعتدلون، على تأييد الثورة الفلاحية التي كانت تتطور بشكل عفوي، وبقوة بدائية، بحيث كان الفلاحون قد بدأوا في الاستيلاء على أراضي الارستقراطيين قبل انتفاضة البولشفيك بوقت طويل، ولخوف الأحزاب البورجوازية من الأخطار التي كانت تهدد المِلْكية في المدينة، فقد رفضت تقويض المِلْكية في الريف. وهكذا بقي البولشفيك (ومعهم يسار الاشتراكيين الثوريين) وحده على رأس الثورات الفلاحية . إذ كانوا يدركون أنه كان محتماً أن تنعزل الثورة البروليتارية في المدينة وأن تمنى بالهزيمة، إذا لم تقم انتفاضات في الريف. ومن ناحية أخرى، وجد الفلاحون الخائفون من ثورة مضادة تعيد الإقطاعيين، أن لهم مصلحة في النظام البلشفي. إلا أن الأوجه الاشتراكية للثورة كانت تثير شكوكهم، ومخاوفهم وعداءهم، منذ البداية" ..أما الطبقة العاملة المدينية فقد دعمت الثورة بكل قواها...
شكل سكان المدن في روسيا 1917 عشرين مليوناً نصفهم من العمال. وكان أصلب قطاع في الطبقة العاملة يتكون من حوالي ثلاثة ملايين من الرجال والنساء العاملين في الصناعة الحديثة. كان الماركسيون قد توقعوا أن يصبح العمال الصناعيون القوة الأكثر دينامية في المجتمع الرأسمالي، وأن يكوّنوا العناصر الأساسية للثورة الاشتراكية، فإن العمال الروس قد أعطوا أكثر من تبرير كاف لمثل هذا التوقع، فلم تعمل أي من طبقات المجتمع الروسي، أو أية طبقة عاملة في العالم، بمثل الزخم والذكاء السياسي، والقدرة على التنظيم التي عمل بها العمال الروس عام 1917 (ومن ثم في الحرب الأهلية فيما بعد). وقد أدى واقع الصناعة الحديثة في روسيا المتمثل بانحصارها في عدد قليل من المصانع الضخمة، الموجودة في موسكو وبتروغراد، إلى إعطاء عمال العاصمتين قوة ضاربة غير عادية ، في مراكز أعصاب النظام القديم. كما أدى جيلان من الدعاية الماركسية المكثفة، وذكريات نضالات 1905 و1912 و1914 وتراث قرن كامل من المحاولات الثورية ووحدة الهدف التي تميز بها البولشفيك إلى تأهيل العمال للقيام بدورهم التاريخي..
كان العمال الروس يعتبرون الهدف الاشتراكي للثورة أمراً مسلماً به. وما كانوا ليقنعوا بأقل من إلغاء الاستغلال الرأسمالي، وتأميم الصناعة والمصارف، وإدارة العمال للإنتاج، وإقامة حكومة السوفييتات ، لقد أداروا ظهورهم للمنشفيك، بعد أن تبعوهم في البداية، لأن هؤلاء قالوا لهم بأن روسيا لم تكن ، بعد "ناضجة لثورة اشتراكية" كذلك كانت لهم كالفلاحين قوتهم العفوية: إذ أقاموا سيطرتهم على الإنتاج، على مستوى المصنع، حتى قبل انتفاضة أكتوبر. وقد ساندهم البلاشفة في ذلك، وحولوا تمردات المصانع إلى ثورة اشتراكية.."
...لم يقتصر الأمر على التناقض الضمني ما بين الثورتين البورجوازية والاشتراكية، بل إن الثورة الاشتراكية ، كانت بالإضافة إلى ذلك، حبلى بتناقضاتها الداخلية الذاتية، إذ كانت روسيا ناضجة وغير ناضجة، في آن معاً للثورة الاشتراكية. وكانت مؤهلة للتعامل مع مهماتها السلبية بشكل أفضل من قدرتها على معالجة مهماتها الإيجابية. فبقيادة البلاشفة تمكن العمال من نزع ملكية الرأسماليين ومن نقل السلطات إلى السوفييتات، إلا أنهم لم يتمكنوا من بناء اقتصاد اشتراكي ونمط حياة اشتراكية. كما أنهم لم يكونوا قادرين على الحفاظ على سيطرتهم السياسية لفترة طويلة" .. وقد ازداد مأزق الثورة الروسية خطورة لأن روسيا كانت تعيش، في نفس الوقت، التناقضات الداخلية لثورة اشتراكية تقوم في بلد متخلف.
"[يتحدث ماركس عن نمو ونضج جنين الاشتراكية في رحم المجتمع البورجوازي نفسه، أما في روسيا، فإنه يمكن القول أن الثورة الاشتراكية قد تدخلت في مرحلة مبكرة من الحمل، قبل أن يجد الجنين الوقت الكافي للنضج. وهكذا لم تكن النتيجة وليداً ميتاً، كما أنها لم تكن جسماً اشتراكياً قابلاً للحياة...]
..يصف ماركس كيف أبدلت الصناعة الحديثة الحرفيين والصناع، والزراع المستقلين بالعمال المأجورين، وكيف غيرت بالتالي...نمط الإنتاج، من كتلة من المشاريع الفردية المتفرقة إلى نشاط جماعي وشامل لعدد كبير من المنتجين المشتركين. ومع تقسيم العمل والتقدم التقني تغدو قوى الإنتاج أكثر ترابطاً، كما أنها تصبح، أو تنزع إلى التلاحم على المستوى القومي. وهذا ما يسمى بالتحديد، تشريك" عملية الإنتاج (تعاظم الطابع الاجتماعي لعملية الإنتاج) أي جنين الاشتراكية النامي في رحم الرأسمالية...
ويستدعي هذا النمط من الإنتاج رقابة وتخطيط اجتماعيين، بحيث يتناقض مع الملكية والرقابة الخاصتين، إذ تعمل الرقابة الخاصة، حتى بالأشكال التي تمارسها بها الشركات الحديثة الكبرى، على تقسيم وتفكيك آلية اجتماعية متلاحمة ، أساساً، وفي حاجة إلى تلاحم واقعي وعقلاني" ..إذاً، ترى الماركسية في التطور الكامل للطابع الاجتماعي لنمط الإنتاج الشرط التاريخي المسبق، الأساسي للاشتراكية ، وبدونها تصبح الاشتراكية قلعة في الهواء. وأية محاولة لفرض رقابة اجتماعية على نمط إنتاج غير اجتماعي، ذاتياً، تصبح غير ملائمة وتجاوزية تميل الإبقاء على رقابة خاصة وفئوية على نمط إنتاج [متعاظم في ميله] الاجتماعي.." ..هذا الشرط المسبق الأساسي للاشتراكية كان مفقوداً في روسيا، كما هو مفقود في أي بلد متخلف...
الزراعة في روسيا كانت تعيل ¾ لسكان، وكانت موزعة على 23-24 مليون قطعة أرض صغيرة تتحكم فيها قوى ..العفوية...ولم تتجاوز الصناعة جيباً صغيراً في اقتصاد بدائي وفوضوي...هذا ما أدى إلى افتقار روسيا إلى شرط أساسي آخر للاشتراكية..وهو الوفرة والخدمات..لأن الاشتراكية لا يمكن أن تبنى على الحاجة والفقر، فالفاقة تولد اللامساواة. وحيث لا يتوفر طعام، وملابس، ومساكن كافية للجميع، فإن أقلية تستولي على ما تصل إليها بدهاء، تاركة الباقين ليعيشوا في الجوع والأسمال، والأحياء القذرة..إضافة إلى ذلك، كانت نقطة البداية انطلاقاً من كارثة ساحقة. فعلى إثر سنوات الحرب العالمية الأولى، والحرب الأهلية، والتدخل الأجنبي، تهاوت الصناعات القليلة التي كانت روسيا تتملكها إلى مجرد أنقاض، واستهلكت الآلات والبضائع المخزونة، وتراجعت الأمة، اقتصادياً، أكثر من نصف قرن إلى الوراء...وأخذ سكان المدن يحرقون أثاثهم ليدفئوا مساكنهم، وهام عشرات الملايين من الفلاحين الذين ضربتهم المجاعة، على وجوههم في الريف، بحثاً عن الطعام. وتفرق الملايين القلائل من العمال الذين أقاموا المتاريس في عام 1917 وزالوا من الوجود كقوة اجتماعية متماسكة، فقد هلك الأكثر شجاعة بينهم في الحرب الأهلية، وتولى كثيرون مناصب في الإدارة الجديدة، وفي الجيش والشرطة، في حين فرت أعداد كبيرة من المدن الجائعة. وكان القلائل الذين بقوا في المدن يمضون وقتهم في التجارة أكثر من العمل بحيث فقدوا هويتهم الطبقية المحددة، وابتلعتهم الأسواق السوداء. تلك كانت الظروف المكونة في أوائل العشرينات ، حين كان البولشفيك يعملون على بلورة وتدعيم نظامهم. ولم يستطع البولشفيك ، في جهدهم هذا أن يستندوا إلى الطبقة التي اعتبروا أنفسهم طليعتها، الطبقة التي كان يفترض فيها أن تصبح سيدة الدولة الجديدة، ودعامة الديمقراطية الجديدة، والعنصر الأساسي للاشتراكية . فقد تلاشت هذه الطبقة جسدياً وسياسياً، وهكذا، ففي حين استطاعت الثورة البورجوازية ، برغم المجاعة في الريف، أن تصمد بين الحقائق الملموسة للحياة الريفية، فإن الثورة الاشتراكية بدت كشبح معلق في الفراغ.." تلك كانت الأصول الحقيقية لما يدعى بالانحطاط البيروقراطي للنظام السوفياتي..
لم يكن البولشفيك غافلين عن هذا الخطر، ولم يكونوا بعيدين عن قول اللورد أكتون: "السلطة تنزع إلى الإفساد، والسلطة المطلقة تفسد بصورة مطلقة... بل إنهم فهموا شيئاً غاب عن اللورد أكتون وتلامذته: "إن المُلْكية تعني السلطة، السلطة المركّزة، وإن المُلكية الاحتكارية للشركات الكبرى هي سلطة مطلقة قادرة على العمل بفعالية أكبر تحت غطاء الديمقراطية البرلمانية. كما كان البولشفيك واعين لأخطار السلطة في مجتمع ما بعد الرأسمالية... فلم يكن عبثاً أنهم كانوا يحلمون باضمحلال الدولة. وإنني لا أعرف كتاباً وصل إلى جذور إفساد السلطة بمثل ما فعل كتاب لينين "الدولة والثورة"...وهكذا تواجد عنصر مأساوي في أقدار البولشفيك؛ فلم ينجهم وعيهم العميق والحاد للخطر من الوقوع فيه، كما لم يمنعهم اشمئزازهم من الفساد ، من أن يرزحوا تحت عبئه.
..لم يكن أمامهم ، كحزب ثوري، أي خيار إلا إذا تنازلوا وجردوا أنفسهم من السلطة، ليسلموها إلى الأعداء الذين كانوا قد فرغوا للتو من هزيمتهم في الحرب الأهلية، وذلك كان خليقاً بالقديسين أو المجانين. ولم يكن البولشفيك أياً من هؤلاء..وقد وجدوا أنفسهم ، على غير توقع، في وضع يشابه، مع بعض الفروقات التي تفرضها الظروف، أوضاع الديسمبريين، والشعبيين، وجماعة "إرادة الشعب" في القرن التاسع عشر، أي وضع نخبة ثورية لا تجد أي طبقة ثورية خلفها. غير أن النخبة كانت هذه المرة ، حكومة تسيطر على قلعة محاصرة، كانت قد أنقذتها، بصعوبة في السابق، إلا أنها بقيت في حاجة إلى الدفاع، ولأن تبني بدءاً من الأنقاض، ولأن تتحول إلى قاعدة لنظام اجتماعي جديد...ونادراً ما كانت القلاع المحاصرة تبنى بطريقة ديمقراطية..
ولا يستطيع المنتصرون في حرب أهلية أن يعطوا المهزومين حرية التعبير والتنظيم، خاصة حين يكون المهزومون مدعومين من دول أجنبية قوية. وكقاعدة، فإن الحروب الأهلية تؤدي إلى احتكار المنتصرين للسلطة" ..
...وهكذا ، أصبح نظام الحزب الواحد ضرورة لا مفر منها بالنسبة للبولشفيك، وعلى هذه الضرورة كان يتوقف خلاصهم وخلاص الثورة..وقد وصل البلاشفة إلى هذا الخيار كمخرج مؤقت..بحكم منطق الوضع..وتحول المخرج المؤقت إلى قاعدة..واكتسب نظام الحزب الواحد ثباتاً وزخماً ذاتيين.
..وقد وجدت مراتب الحزب، إثر موت لينين، في ستالين قائدها الذي يستطيع، بحكم مقدرته البارزة، التي ترافقها شخصية مستبدة، واستهتار تام، أن يسوس احتكار السلطة على أفضل وجه. وسنرى فيما بعد، كيف استعمل ستالين هذه السلطة ليغير البنيان الاجتماعي للاتحاد السوفيتي، وكيف أدى هذا التغيير، الذي أبقى المجتمع في حالة انصهار دائم، إلى تدعيم سلطته. ..كان ستالين مقتنعاً أن كل ذلك كان ضرورياً للدفاع عن مصالح الطبقات العاملة..
لكن إذا كان البولشفيك على حق في التصرف كوكلاء للطبقة العاملة أثناء فترة تشتتها وغيابها الفعلي، فإن ستالين قد تمسك، بكل قوة، بسلطة أوتوقراطية بعد ذلك بوقت طويل، في وجه طبقة عاملة موجودة وسريعة النمو. كما استعمل كل أساليب الإرهاب والخداع ليمنع العمال والشعب ككل من المطالبة بحقوقهم وتراثهم الثوري.."
استمرارية الثورة
كان ضمير الحزب في صراع دائم مع حقائق احتكار السلطة هذه. ففي عام 1922 حذر لينين، وهو على سرير الموت، الحزب من "المتسلط" ، من درجيموردا/ ومن الشوفيني الروسي الكبير ، الذي كان يعتزم اضطهاد الضعفاء والبائسين . واعترف لينين بأنه كان يشعر "بذنب كبير أمام عمال روسيا" لأنه لم يحذرهم من ذلك في وقت مبكر . وبعد ذلك بثلاث سنوات حاول كامنييف عبثاً تذكير مؤتمر حزبي عاصف بوصية لينين . وفي عام 1926 ، في اجتماع للمكتب السياسي ، صرخ تروتسكي في وجه ستالين بكلمات "حفار قبر الثورة" . "إنه جنكيز خان الجديد" - تلك كانت نبوءة بوخارين عام 1928 - "إنه عازم على ذبحنا جميعاً" ... إنه يعتزم إغراق انتفاضات الفلاحين بالدم ". ولم تكن تلك مجرد ملاحظات لا قيمة لها، لقلة من القادة. فخلف هؤلاء الرجال كانت تقوم معارضة إثر الأخرى، بهدف إعادة الحزب إلى تقاليده الديمقراطية الثورية ، وإلى التزاماته الاشتراكية. وذلك ما حاولت المعارضة العمالية والمركزيون الديمقراطيون فعله في 1921 و 1922 . وكذلك التروتسكيون، ابتداء من 1923 ، وكتلة زينوفييف من عام 1925 إلى 1927 ، وكتلة بوخارين في عامي 1928 و 1929 . وكذلك جماعات أخرى أصغر وأقل تميزاً ، ومن بينها جماعات ستالينية ، في أوقات أخرى.
ولا أستطيع ،هنا، التعمق في قصة الصراعات والتطهيرات- فقد قمت بذلك في مكان آخر- ولكن من الواضح أنه فيما كان يجري قمع الانشقاقات المتعاقبة، كان احتكار السلطة يغدو أكثر ضيقاً وصلابة. ففي البدء ترك الحزب لأعضائه حرية التعبير والمبادرة السياسية . ثم حرمتهم الأوليغارشية الحاكمة تلك الحرية، وغدا احتكار الحزب الواحد احتكاراً لزمرة واحدة ، الزمرة الستالينية . وفي الحقبة الثانية برزت الوحدانية التوتاليتارية (الاستبدادية) إلى الوجود، وتحول حكم الزمرة الواحدة إلى حكم فردي لزعيم هذه الزمرة . وتشير الوقائع إلى أن ستالين لم يتمكن من إقامة أتوقراطية إلا على أجساد القادة الأصليين للثورة ، وأنه اضطر إلى التسلق حتى على جثث ستالينيين مخلصين - هذه الوقائع تشير على مدى عمق المقاومة التي واجهها وقوتها.
وقد رافق التحولات السياسية للنظام انحطاط أفكار 1917 . وتعلم الشعب أن الاشتراكية كانت تتطلب أكثر من مجرد الملكية العامة والتخطيط القوميين، والتصنيع السريع ، والجماعية والثقافة الشعبية . وإن ما يسمى بعبادة الفرد، والامتيازات الجافة ، واللامساواة الحادة ، والسلطة المطلقة للشرطة ، كانت كلها جزءاً لا ينفصل من المجتمع الجديد.
وأفرغت الماركسية، أكثر العقائد نقدية وصرامة ، من مضمونها وتحولت إلى مجموعة من السفسطات والطقوس شبه الدينية المهيأة لتبرير كل إجراءات ستالين وكل نزواته "النظرية" . وليست النتائج المدمرة لذلك كله بالنسبة للعلم والفن والأدب السوفييتي ، وبالنسبة للمناخ الأخلاقي للبلاد ، بخافية على أحد. ولآن الستالينية كانت العقيدة الرسمية لمنظمة عالمية ، فقد ترك انحطاط الاشتراكية و الماركسية انعكاسات هائلة على الصعيد الأممي أيضاً، وخاصة بالنسبة لحركة العمال في الغرب [وعلى الأحزاب الشيوعية في البلدان المتخلفة لاحقاً] ...
يمكن أن توصف الستالينية بأنها عبارة عن خليط من الماركسية والتخلف المروع لروسيا . وفي أية حال ، كانت الفجوة ما بين طموحات وحقائق الثورة أكبر في روسيا منها في أي بلد آخر. وهذا ما تطلب قدراً أكبر من الدماء وقدراً أكبر من التدجيل لتغطية العجز الفادح...
لقد توجب على الزعماء السوفييت جميعهم بمن فيهم ستالين وخروتشوف، وخلفه، أن ينموا في تفكير الشعب معنى استمرارية الثورة. وكان عليهم أن يعيدوا تأكيدات التزامات 1917، حتى في الوقت الذي كانوا يناقضونها فيه. كما كان عليهم أن يعلنوا، مرة إثر أخرى، التزام الاتحاد السوفييتي بالاشتراكية..وقد ترسخت هذه التعهدات والالتزامات في أذهان كل الأجيال الجديدة، ومن كل الأعمار ، في المدارس والمصانع- هكذا سيطر تراث الثورة على النظام التعليمي السوفييتي. وهذا بحد ذاته عامل فعال من عوامل الاستمرارية.
حقاً إن نمط التعليم هذا يرمي إلى إخفاء الانقطاعات في الاستمرارية وإلى تزوير التاريخ، وإلى تمويه التناقضات واللاعقلانية . إلا أنه ، برغم ذلك قد توصل إلى أن يوقظ في جماهير الشعب وعياً لتراثهم الثوري" ..
خلف هذه الظاهرة الأيديولوجية والسياسية تكمن الاستمرارية الحقيقية لنظام يبنى على أساس إلغاء الملكية الخاصة، والتأميم الكامل للصناعة والمصارف، فلم تؤثر كل التغيرات في الحكومة ، وقيادة الحزب، والسياسات في إنجاز أكتوبر" الأساسي وغير القابل للنقض. وتلك هي الصخرة التي تستند إليها الاستمرارية الأيديولوجية...ومعلوم أن علاقات الملكية أو أنماط الملكية ليستا بالعامل السلبي أو المحايد في تطور المجتمع. ونحن نعلم عمق التغيير الذي أنتجه الانتقال من أشكال الملكية الإقطاعية إلى أشكال الملكية البورجوازية، في نمط حياة وشكل المجتمع الغربي. ويقود التأميم الكامل لوسائل الإنتاج إلى تحول أكثر حسماً وعمقاً.
من الخطأ الاعتقاد بأن هناك فرقاً كمياً فقط بين تأميم 25% من الصناعة، والملكية العامة الكاملة. إن الفرق نوعي أيضاً، إذ تؤدي الملكية العامة الشاملة، في المجتمع الصناعي الحديث، إلى خلق بنية جديدة لنشاطات الإنسان الإنتاجية، ولاهتماماته الثقافية، ولأن روسيا ما بعد الثورة لم تكن مجتمعاً صناعياً حديثاً، فإن تأميم الصناعة لم يستطع ، بحد ذاته، خلق هذه البيئة النوعية الجديدة، وإنما عناصر منها فقط. ولكن ذلك كان، بحد ذاته، كافياً للتأثير بشكل حاسم على تطور الاتحاد السوفييتي، ولإضفاء وحدة معينة على أنماط التغيير الاجتماعي"...
الفصل الثالث (التحولات الاجتماعية):
التغيرات التي شهدها الاتحاد السوفييتي بين 1917-1967 "؛ و البنية الاجتماعية" الناجمة عن ذلك..
يقول دويتشر: "أكدت في معالجتي السابقة لمسالة استمرارية الثورة ، على مغزى كون الدولة، وليس "المشاريع الخاصة" أو الشركات الرأسمالية الكبرى، قد تعهدت عملية التصنيع والتحديث في الاتحاد السوفييتي"..بكلام آخر: إن التحديث السوفييتي جرى في شروط إلغاء الملكية الرأسمالية الخاصة لوسائل الإنتاج- وهنا يكمن سر استمرارية الثورة..مهما كان شكل البنى الفوقية.. وقد حدَّدَت هذه الحقيقة مدى زخم النمو الاقتصادي السوفييتي ، وطابع التحول الاجتماعي..
لسنا بحاجة، هنا، إلى التوقف عند الجانب الاقتصادي البحت للمشكلة، فكلنا يعلم أن الاتحاد السوفييتي قد ارتفع من مركز أكثر دول أوربا الكبرى تأخراً إلى مصاف القوة الصناعية الثانية في العالم..
سيكون الاتحاد السوفييتي في عام 1967 قادراً على إنتاج /100/ مليون طن من الصُلْب...إذ تزيد هذه الكمية على مجموع ما تنتجه بريطانيا، والجمهورية الفيدرالية الألمانية، فرنسا وإيطاليا مجتمعة، ولا تنقص إلا 20 طناً عما تنتجه مصانع الصلب في الولايات المتحدة الأميركية. وهذا هو الأساس لصناعة هندسية، ووسائل إنتاج السلع الإنتاجية، يعادلان تلك الموجودة في الولايات المتحدة تقريباً، من ناحية أخرى، طبيعي أن تكون الصناعة الاستهلاكية ما زالت متخلفة..
يقول دويتشر: "إلى هنا، فسأتجاوز أية إحصاءات اقتصادية أخرى لأبحث في الملابسات والنتائج الاجتماعية لهذا التقدم الاقتصادي"..
ينبغي علينا أن نتذكر أن فترات النمو الفعلي تغطي الفترات:1928-1941و1950- حتى نهاية 1967- أي ما لا يزيد عن ثلاثين عاماً..إضافة إلى سباقات التسلح التي سبقت الحرب العالمية الثانية وتلتها....ولو استطعنا حساب التقدم بوحدات مثالية من سنوات السلم الحقيقية لتوصلنا إلى الاستنتاج بأن الاتحاد السوفييتي حقق تقدمه هذا في غضون عشرين أو خمسة وعشرين عاماً في الأكثر. وهذا ما ينبغي أن يحفظ في الذهن لدى تقييم الإنجازات"..
غير أن المجتمع السوفييتي الحالي يبقى، بالطبع، وليد الاضطراب الذي عرفه نصف القرن هذا، بحيث تداخل، في سياق تطوره، الربح والخسارة، والبناء والتدمير، تداخلاً محكماً، وبحيث مارس هذا الامتزاج بين العمل البناء، والعمل غير البناء، تأثيراً فعلياً على الحياة المادية، والمناخ الروحي للاتحاد السوفييتي"
..إن أول وأبرز ما يطالعنا من أوجه التحول هو نشوء المدن وتوسعها توسعاً هائلاً في الاتحاد السوفييتي.. فقد تميزت الحقبة الأولى التي تلت عام 1917 بتناقص عدد سكان المدن، وبحركة معاكسة بطيئة- كما أدت الحرب العالمية الثانية إلى نتائج مماثلة، على الأقل في روسيا الأوربية. واقتصرت فترات توسع المدن الكثيف على السنوات 1930-1940 ومن 1950-1960..وقد تم بناء 800 مدينة كبيرة، ومتوسطة الحجم، وما يزيد على 2000 من المستوطنات المدينية الصغيرة. وفيما كان عدد سكان المدن يقارب 26 مليون نسمة عام 1926 بلغ هذا العدد 125 مليوناً في عام 1966. وزاد عدد سكان المدن بين 1950-1965 وحدها- بما يقارب 53-54 مليون نسمة، أي بما يزيد على عدد سكان الجزر البريطانية- وهكذا ارتفعت نسبة سكان المدن، في مدى حياة جيل واحد من 15-60% ولو أخذنا بعض السوابق في هذا المجال، لوجدنا أن زيادة عدد سكان المدن، في الولايات المتحدة، بما يعادل 100 مليون نسمة، قد استغرقت 160 عاماً..وإن ارتفاع هذه النسبة من 15-60% استغرق قرناً بأكمله، من 1850-1950. وفي خلال المائة عام هذه، كان النمو الظاهري للمدن الأميركية يتلقى زخماً ودفعاً قويين عبر الهجرة الجماعية، وتدفق رأس المال والمهارات، وبقائها بمعزل عن الغزو الأجنبي والتدمير الحربي، هذا إذا لم نتحدث عن انحرافات المناخ..." وتشكل حركة توسع المدن السوفييتية ، من زاوية سرعتها ومداها، حدثاً لا مثيل له في التاريخ.. ..فقد تكونت جماهير السكان ، في المدن الجديدة، من الفلاحين الذين انتزعوا من قراهم، سنة بعد أخرى، ووجهوا إلى الصناعة. ومثل الأمم الصناعية القديمة في أوربا، وجد الاتحاد السوفييتي في الفلاحين، الاحتياطي الأساسي للطاقة الإنسانية الصناعية"..
وقد رافق البدايات الأولى لنمو المشاريع الرأسمالية في الغرب، انتزاع قسري لملكيات المزارعين- بواسطة قانون "السياجات" في إنكلترا- وتشريعات عمالية مجحفة. وفيما بعد، اعتمد الغرب على الحركة العفوية لسوق العمل، بقوانين عرضه وطلبه، لكي يؤمن الكمية المطلوبة من الطاقة البشرية للصناعة، ومغزى هذا التعبير الملطف، هو أنه في مجرى حقبات عديدة، وحتى في قرون عدة، كان تضخم سكان الأرياف، وأحياناً المجاعة، يرمي بأعداد كبيرة من الأيدي الفائضة إلى سوق العمل. وأما في الاتحاد السوفييتي فقد أمنت الدولة قوى العمل المطلوبة، بالاعتماد على التخطيط والتوجيه. وكان مركزها الاقتصادي السائد العامل الحاسم، الذي لم يكن ممكناً، بدونه، إنجاز مثل هذا التغيير الهائل، في مثل هذه الفترة القصيرة" ..
..ابتدأت عمليات انتقال سكان الأرياف، بشكل نشيط في أوائل الثلاثينات، وكانت مرتبطة بتجميع الزراعة الذي مكن وكالات الحكومة من مصادرة فائض القوى البشرية الموجودة في المزارع، ونقلها إلى الصناعة. كانت بدايات هذه العملية صعبة للغاية، بحيث رافقها قدر كبير من استعمال القوة والعنف. كما كانت عادات الحياة الصناعية المستقرة، المنتظمة بحسب ..المصنع، والتي كانت قد زرعت لدى عمال البلدان الأخرى، عبر الأجيال المتعاقبة، مفقودة في روسيا..وهكذا توجب إكراه الفلاحين الروس، وتكييفهم مع روتين العمل الجديد. غير أن الفلاحين قاوموا هذا التغيير، فكانوا يعملون بتباطؤ، أو يقومون بتحطيم وإتلاف الآلات. كما كانوا ينتقلون باستمرار، من مصنع إلى مصنع، ومن منجم إلى آخر. أما الحكومة فقد فرضت من جهتها، النظام باللجوء إلى قوانين العمل الصارمة، وتهديدات الترحيل، والترحيل الفعلي إلى مخيمات العمل الإجباري"
..وقد أدى افتقاد المساكن الكافية، والنقص الحاد في السلع الاستهلاكية، العائد، بشكل رئيسي إلى السياسة الاستهلاكية..إذ كانت الحكومة مصممة على إنتاج أكبر قدر من السلع الإنتاجية والذخائر الحربية – إلى زيادة حدة المصاعب والاضطراب.
مع مرور الوقت، كان الاحتكاك الاجتماعي والصراعات، التي أنتجها هذا الانقلاب تميل إلى التفاؤل، فمنذ الحرب العالمية الثانية، بدا أن مآثر الصناعة، والأسلحة السوفييتية، تقدم تبريراً حتى للعنف، والآلام والدماء، والدموع. غير أن هذا لا يمنعنا عن الاعتقاد ...أنه كان ممكناً، دون الحاجة إلى العنف والدماء والدموع، إنجاز هذا البناء العظيم بشكل أكثر كفاءة، وبحيث يؤدي إلى نتائج اجتماعية وسياسية وأخلاقية أفضل. ..
...مهما يكن؛ إن تحويل البنيان الاجتماعي ما زال مستمراً، وهو مستمر دون الحاجة إلى أي دفع قسري، وسنة بعد أخرى، يزداد تضخم سكان المدن، وبنفس المعدل السابق. ورغم أن العملية هذه ما تزال خاضعة للتخطيط والتنظيم؛ إلا أنها تتبع إيقاعها الذاتي..
- حتى عام 1967....يشكل العمال الصناعيون أكبر طبقة اجتماعية حالياً. وتشغل الدولة ما يقارب 78 مليوناً من الأفراد في المصانع والمكاتب- مقابل 27 مليوناً لدى نهاية الحرب العالمية الثانية. ويعمل ما يزيد عن 50 مليوناً، من هؤلاء في الصناعات الأولية والتصنيعية، وفي النقل والبناء والمواصلات وفي مزارع الدولة.. كما أن هناك 13 مليوناً يعملون في الصحة، والثقافة والأبحاث العلمية. وليس سهلاً التمييز بدقة بين أعدادا العمال اليدويين، والفنيين، وأعداد موظفي المكاتب، لأن الإحصاءات السوفييتية تجمعهما معاً- وسنبحث فيما بعد المغزى الاجتماعي لهذه الظاهرة-غير أنه يمكن تخمين عدد العمال الفعليين بما يتراوح بين 50-55 مليوناً" ..
..تتميز الطبقة العاملة الروسية بوجود فروقات عالية في داخلها. فقد تركزت سياسة ستالين العمالية على إتباع مقاييس متفاوتة للمعاشات والأجور، وعلى رفع مستوى الارستقراطية العمالية، فوق مستوى العمال اللامهرة، وشبه المهرة، الذين يتلقون أجراً منخفضاً، ويمكن تبرير هذه السياسة، إلى حد ما، بالحاجة إلى توفير دوافع للمهارة والكفاءة . إلا أن فوارق الأجور تعدت هذه الغاية، وقد أحيطت هذه، وما زالت بسرية غير عادية، فلم تنشر الحكومة، منذ الثلاثينات، أية معلومات شاملة لبنيان الأجور القومي، وكان على الطلاب أن يكتفوا بمعلومات مبعثرة. وطوال عهد ستالين كانت تجري مطاردات شرسة للداعين إلى المساواة-أو "للبورجوازيين الصغار الداعين إلى المساواة". إلا أنها كانت أقل فعالية مما بدا، وبالتأكيد أقل فعالية من المطاردات السياسية. . . ويبين كتمان المعلومات حول بنيان الأجور، بأي شعور بالذنب، كانت الجماعات الحاكمة في ظل ستالين وبعده تمارس سياستها المتناقضة للمساواة.
...يبقى أمراً خطراً، ومشوباً بالمغامرة، أن تقدم أية حكومة سوفييتية على كشف المدى الفعلي لهذه اللامساوة. ويبدو أن الفروقات فيما يكسبه العمال، تماثل تلك الموجودة في البلدان الأخرى، غير أنها تصبح أكثر ضيقاً بفضل ما تقدمه الخدمات الاجتماعية، الأكثر شمولاً، الموجودة في الاتحاد السوفييتي. وقد تعرض بنيان الأجور للإصلاح مرة بعد أخرى، في السنوات الأخيرة. فقد شهدت الفترة الأولى لنزع الستالينية تقليصاً ظاهراً لعدم المساواة- وإن كان مدى هذا التقليص يبقى أمراً بحاجة تقييم. وأثارت سياسة الأجور الجديدة، هذه، مقاومة متزايدة من جانب المدراء والأرستقراطية العمالية. غير أن المرونة الاجتماعية المرتفعة التي يوفرها اقتصاد متنام، بشكل مستمر وسريع، لا تسمح للفروقات أن تصبح جامدة بشكل غير ضروري. إذ تتلقى جماهير كبيرة من العمال، وبصورة مستمرة، تدريباً يؤهلها لشغل وظائف تتطلب المهارة، وهي بذلك تنتقل إلى عداد الجماعات التي تتلقى دخلاً أفضل" ..
تحتل الفروقات الاجتماعية والثقافية، الموجودة في الطبقة العاملة، أهمية أكبر أحياناً، من الفروقات الاقتصادية نفسها. وهذه مسألة لا يتضمنها أي وصف، أو تحليل، اجتماعي محدد...سأحاول أن أقدم فكرة عامة عن المسالة، وأن أشير إلى مقدار تعقيدها. ..
أنتج النمو الهائل للطبقة العاملة العديد من التباينات والتمايزات، التي تعكس المراحل المتعاقبة للتصنيع، وتداخل هذه المراحل. وأفرزت كل مرحلة من هذه المراحل قطاعاً مختلفاً من الطبقة العاملة، وبالتالي ثغرات ذات مغزى.
وتتميز جملة الطبقة العاملة بأصولها الفلاحية. فليس هناك إلا عدد قليل جداً من الأسر العمالية التي استقرت في المدينة منذ ما قبل الثورة.
وبالفعل فإن أقدم قطاع من الطبقة العاملة هو ذلك الذي تكون خلال فترة إعادة البناء في العشرينات. وكان تكيف هؤلاء مع إيقاع الحياة الصناعية أمراً سهلاً نسبياً، فقد انضموا إلى المصانع، باختيارهم، ولم يتعرضوا حتى ذلك الحين، لأي تجنيد صارم. ويشكل أولاد هؤلاء العمال العنصر الأكثر استقراراً، والأكثر مدينية، بين السكان الصناعيين. ومن صفوفهم جاءت عناصر الإداريين والارستقراطية العمالية ، في الثلاثينات والأربعينات. وأما من بقوا عمالاً من هؤلاء، فقد كانوا آخر العمال السوفييات الذين شاركوا بملء حريتهم، في ظل "السياسة الاقتصادية الجديدة NEP) بنشاطات نقابية، وحتى بالإضرابات، وآخر من تمتع، بقدر معين من حرية التعبير السياسي" ..
والتناقض صارخ بين هذا القطاع، والقطاع الذي يليه مباشرة، فقد تم خلال الثلاثينات، نقل عشرين مليوناً من الفلاحين إلى المدن. وكان تكييف هؤلاء مع البنية الجديدة، أمراً مفزعاً وشديد التوتر. فبقوا لوقت طويل قرويين مقتلعي الجذور، وسكان مدن يائسين، وفوضويين وعاجزين. .ولقد أرغموا على تقبل عادات العمل في المصنع، وأبقوا تحت رقابة تدريب ونظام صارمين. وكانوا هم الذين أعطوا المدن السوفييتية تلك النظرة الرمادية، واليائسة وشبه البربرية، التي غالباً ما أدهشت الزوار الأجانب. كما جلبوا معهم إلى الصناعة، فردية الفلاحين الروس البدائية. وقد استغلت السياسة الرسمية هذه الفردية، حافزة المجندين الصناعيين على التنافس، فيما بينهم، من أجل العلاوات، والمكافآت، والأجور المضاعفة على القطعة..وهكذا انقلب العامل ضد العامل، واستعملت ذرائع "التنافس الاشتراكي" لمنع بروز وتكون أي تضامن طبقي. وقد ترك إرهاب الثلاثينات أثراً لا يمحى على الرجال المنتمين إلى هذه الفئة. فمعظمهم، وهم الآن (1967) في الخمسينات يشكلون، على الأرجح، وإن لم يكن ذلك لذنب ارتكبوه-العنصر الأكثر تخلفاً بين العمال السوفييت- فهم غير متعلمين، وراغبون في التملك، وضائعون. فقط الجيل الثاني من هذا القطاع، من الطبقة العاملة، استطاع أن يتجاوز الصدمات الأولية لعملية التمدين."..
وقد عانى الفلاحون الذين أتوا إلى المصانع، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، من ظروف المعيشة الصعبة، والتشرد الفعلي، ومن قوانين العمل القاسية، والإرهاب. إلا أن معظمهم كان قد أتى بمحض اختياره، هرباً من القرى المقفرة والجائعة...وقد أعدتهم سنوات من حياة الجندية للنظام الصناعي، فوجدوا في أمكنتهم الجديدة بيئة أكثر قدرة على امتصاص واستيعاب القادمين الجدد من مدن ومستوطنات الثلاثينات. وهكذا كانت عملية التكيف أقل إيلاماً. وكذلك كانت أقل إيلاماً من الشراذم التالية من المتمرنين الذين جاؤوا إلى المصانع في الفترة اللاحقة لستالين، بعد إلغاء قوانين العمل القديمة، والذين استقروا في أعمالهم، في جو تحرر نسبي من الحاجة والخوف. وقد دخلت الجماعات الشابة، من المهاجرين الجدد، ومن أبناء العمال الأوائل، المصانع بثقة بالنفس افتقدها من سبقهم. ولعبت دوراً كبيراً في إصلاح شكليات العمل البالية، وفي تغيير حياة المصنع السوفييتي. ومعظم هؤلاء تقريباً قد تلقى ثقافة ثانوية (تامة أو غير تامة)، فيما يتلقى بعضهم دروساً جامعية حرة... وغالباً ما اصطدموا مع رؤسائهم ومدرائهم الأقل كفاءة، والأقل تمدناً. وربما كانت تلك المجموعة هي الأكثر تقدمية في الطبقة العاملة السوفييتية. وهم يشتملون على بناة المصانع الذرية، والعدادات، والسفن الفضائية، عمالاً تعادل إنتاجيتهم إنتاجية أقرانهم من العمال الأمريكيين، هذا برغم أن معدل إنتاجية العامل السوفييتي، في الساعة، تعادل 40% من الإنتاجية الأميركية..ويعود هذا المعدل المنخفض، بالطبع، إلى التنوع الكبير في الطاقة البشرية للصناعة السوفييتية، وإلى المستويات المختلفة والمتفاوتة في الثقافة والكفاءة، التي حاولت أن أتتبعها. وبرغم ذلك فإن معدل الإنتاجية السوفييتية هو أرفع، نوعاً ما، من معدل الإنتاجية في أوربا الغربية.
في العشرينات كانت إنتاجية العامل الأميركي 1/3 إنتاجية اليوم- وكانت إنتاجية العامل السوفييتي 1/10 إنتاجية العامل الأميركي (متوسط حسابي)...
يعطينا هذا الوصف التجريدي فكرة عامة، فقط، عن القدر الكبير من عدم التجانس الاجتماعي، والثقافي، في الطبقة العاملة السوفييتية. فقد كانت عملية إعادة الزرع، والتوسع، سريعة وعاصفة إلى حد لم يسمح بالاستيعاب المتبادل للقطاعات المختلفة، وبتكون وجهة نظر عامة، وبنمو تضامن طبقي.
وقد شاهدنا كيف سمحت حالة التقلص والتفكك التي مرت بها الطبقة العاملة، بعد أعوام قليلة من الثورة، للبيروقراطية أن تركز نفسها كقوة اجتماعية سائدة . كما أعطت التطورات اللاحقة البيروقراطية المجال كي تدعم مركزها هذا. فقد أبقت طريقة تجنيد الأيدي العاملة الجديدة للمصانع، وسرعة النمو، الطبقة العاملة في حالة دائمة من عدم الانتظام والتشرذم، بشكل لم يمكنها من اكتساب أي تماسك، وتوازن، ووحدة، ومن إيجاد هويتها الاجتماعية-السياسية.
وهكذا أصيب العمال بالعجز من جراء تضخم أعدادهم . كما بذلت البيروقراطية وسعها لإبقائهم في هذه الحالة- فلم تكتفي بإثارتهم، ضد بعضهم في المصانع، بل إنها عملت على بعثرة تذمرهم وصراعاتهم المشتركة. فقد حرمتهم حق تقديم المطالب، وحق الدفاع عن أنفسهم بواسطة النقابات. غير أن هذه الأساليب، مضافاً إليها الإرهاب، ما كانت لتتميز بكل هذه الفعالية لو لم تكن الطبقة العاملة ممزقة بفعل قواها التجزيئية الذاتية. والذي جعل الأمور أكثر سوءاً. إنَّ الترقية المستمرة للعمال اللامعين والنشطين إلى مراكز إدارية، كانت تحرم جمهرة العمال من متكلمين باسمهم، ومن قادة محتملين . ولأن الثقافة كانت قليلة بين الكادحين، فقد كان لنزوح الأدمغة هذا نتائج هامة. ففيما أفادت المرونة الاجتماعية بعض العمال، فإنها حكمت على الباقين بالانحلال الاجتماعي والسياسي"..
وبرغم أن الطريق ما تزال طويلة أمام تمتع العمال بالحرية السياسية، ومشاركتهم مشاركة أصيلة، في الرقابة على الصناعة، فإن الطبقة العاملة تغدو أكثر ثقافة، وتجانساً وأكثر ثقة بالنفس. مضافاً إليه متطلبات التقدم التقني-التي أجبرت الجماعة الحاكمة على الإطاحة بنظام المصنع القديم، وإعطاء العمال متسعاً من الحرية يفوق ما عرفوه أثناء العهد الستاليني..."

أما الوجه الآخر للتحولات الاجتماعية فهو تقلص حجم الفلاحين.
فلأربعين عاماً خلت، كان صغار الملاك الريفيون يشكلون أكثر من ثلاثة أرباع الأمة، فيما لا يزيد حجم الفلاحين الجماعيين، حالياً على الربع." ..
وعلى قول البروفيسور بترفيلد: "يميل المعاصرون إلى تقييم الثورة انطلاقاً من آثامها فحسب، في حين أن خطأ من يأتي بعدهم إنما يكمن في عدم قدرته على أخذ هذه الآثام بعين الاعتبار وعلى تقييمها بوضوح" [المسيحية والتاريخ 1949، لندن]
يقول دويتشر: "كواحد من الذين شهدوا عمليات التجميع، في الثلاثينات وانتقدوا بشدة وسائلها الإكراهية، فإنني أود أن أتمعن قليلاً في المصير المأساوي للفلاحين الروس..
كان الريف الروسي، في ظل النظام القديم، يتعرض للمجاعة بشكل دوري. كما كانت الحال في الريف الصيني، وكما هي الحال في الريف الهندي، وفي الفترات الفاصلة بين المجاعات كانت ملايين لا تحصى (ولا تسجلها الإحصاءات) من الفلاحين، ومن أبناء الفلاحين، تموت بسبب سوء التغذية والأمراض. وهذا أمر مازال قائماً في عدد كبير من البلدان المتخلفة. بيد أن النظام القديم لم يكن أقل قسوة إزاء الفلاحين، من حكومة ستالين، غير أن قسوة النظام القديم كانت تبدو جزءاً من الناموس الطبيعي للأشياء، الذي كان ضمير الأخلاقيين الحساس بالذات ميالاً لاعتباره أمراً مسلماً به. وطبيعي أن ذلك لا يبرر أو يخفف من جرائم السياسة الستالينية، غير أنه يضع المسألة في سياقها التاريخي الصحيح.
ويعبّر أولئك الذين يدّعون أن كل شيء كان سيسير على ما يرام فيما لو ترك الفلاحون وشأنهم، مثاليو الحياة الريفية وفردية الفلاحين، عن تعهدهم لنشيد، هو بدعة من وحي خيالهم. فقد كانت المِلْكيات الصغيرة، البدائية، أوهن، في أي حال من أن تصمد في حقبة التصنيع. وهي لم تصمد في أي من بريطانيا أو الولايات المتحدة . وقد شهدنا، في السنوات الأخيرة، تقلصاً دراماتيكياً في حجم الفلاحين في فرنسا، الوطن الكلاسيكي للفلاحين. وأما في روسيا، فقد كانت الملكيات الصغيرة عقبة هائلة في وجع تقدم الأمة، فلم تكن قادرة على إطعام أبناء الريف المزدحم. وكان البديل المعقول، الوحيد، للتجميع القسري يكمن في شكل ما من التجميع أو التعاونيات، المرتكزة على رضا الفلاحين.
ولا يستطيع أحد أن يتكهن بمقدار واقعية حل كهذا بالنسبة للاتحاد السوفييتي، في ذلك الوقت. والأمر الأكيد هو أن التجميع القسري قد خلف تركة من عدم الكفاءة الزراعية، ومن العداء بين المدينة والريف، ما زال الاتحاد السوفييتي يعانيها حتى الآن" ..
يكتب جورج لوكاش: "لقد سبق لي وأن ناقشت كيف أن مسألة الحفاظ على الثورة الشعبية (تحالف البروليتاريا والفلاحين) وديمومتها كانت بالنسبة إلى لينين هي المسألة المركزية الإستراتيجية الملحة، بينما لم تكن عملية إعادة بناء الإنتاج الصناعي...إلا أداة لا غنى عنها لتوثيق عرى هذا التحالف على أرض الواقع...
بعد وفاة لينين كان لكلا الاتجاهين (اليميني واليساري) تجلياتهما السياسية البعيدة المدى. في ذات الوقت، أقصى كلا الاتجاهين، في النظرية وفي الممارسة، بالتحديد تلك الجوانب التي اعتبرها لينين مركزية. ولهذا السبب وحده كان تناحر الاتجاهات في جوهره مقتصراً على صراع الخيارات التكتيكية التي كانت تتطابق مع الصفات الشخصية للشخصيات المقررة في القيادة والتي تميزهم بالضد من لينين..."
كان لينين ينطلق من الصراع الاجتماعي والحس العميق بضرورة بناء ديمقراطية اشتراكية متفوقة قادرة على قيادة الفلاحين نحو تجميع يفيد الجميع ولا يخلق شرخاً في التحالف الاجتماعي الذي غدا بعد أن لاحت بوادر فشل ثورات أوربا هو المنفذ الوحيد للنجاة- هنا بالتحديد جاءت الضربات التكتيكية "العمياء" لـ ستالين لتقصم ظهر هذه الرؤية- ستالين الذي لم يكن متميزاً عن الجناحين في الحزب بالمعايير النظرية لـ"موقعه" من هذه القضايا، لكنه كان متفوقاً عليهم تماماً تكتيكياً" .. يكتب لينين ، تحت عنوان: السياسة والاقتصاد؛ الديالكتيك والاختيارية : ".. لا يمكن للسياسة ألّا تعلو على الاقتصاد ... إن القول أن الموقف السياسي يوازي الموقف "الاقتصادي" ، وبأنه "يمكن أخذ هذا وذاك" ، يعني نسيان ألف باء الماركسية .. إن الموقف السياسي إنما يعني ما يلي : إذا وقفنا من النقابات موقفاً غير صحيح [سمحنا لأنانية العمال الاقتصادية أن تتحرك حتى حدود الاصطدام بمصالح الفلاحين ، خاصة الفقراء منهم ] فإن هذا يهلك السلطة السوفياتية ودكتاتورية البروليتاريا.. لقد انزلق بوخارين نظرياً إلى "الاختيارية" بترويجه لجمع الموقف السياسي مع الموقف الاقتصادي.. إن بوخارين وتروتسكي يصوران الأمر كأنما يقولان : نحن نعني بإنماء الإنتاج (موقف اقتصادي) ، أما أنتم فتعنون بالديمقراطية الشكلية فقط. إن هذا التصوير غير صحيح لأن المسألة لا توضع إلا على النحو التالي : دون موقف سياسي صحيح من القضية ، لن تحتفظ الطبقة المعنية بسيطرتها ، بالتالي لا تستطيع أن تحل مهمتها الإنتاجية أيضاً "
حتى بوخارين "بمساعيه الوضعيّة كان قد أحرز قصب السبق في تحويل مفهوم ماركس عن قوى الإنتاج إلى شيء ما يتعلق بالتكنولوجيا...وكان من نتائج هذه النظرية الهشة والوضعية الفلسفية-النظرية-العملية، تحول من الديالكتيك المادي إلى نوع من الوضعية التقنوية : فمن وجهة نظر بوخارين ما كانت العبودية السحيقة سوى النتيجة الاقتصادية لتخلف التكنولوجيا. فيما عزا ماركس هذا التخلف (التكنولوجي) بالتحديد إلى العبودية (كنمط إنتاج)، وقرر بأن الأخيرة (علاقات الإنتاج العبودية) هي الأساس الاقتصادي/الاجتماعي لهذه التشكيلة" .
...وفي موضوع الخلاف الانفعالي العميق هذا بالتحديد، صار جلياً لنا إلى أي مدى أسقطت القوى المتنازعة على السلطة من حسابها التعاليم المنهجية والشمولية لماركس ولينين، وكم استحوذت عليها بعد وفاة لينين روح الخطوات التكتيكية والخطوات المضادة. في المقام الأول تلاشت مشكلة الأساس "غير التقليدي" للثورة أكثر فأكثر من النقاشات واختزال الأساس النظري العام بوتائر متصاعدة إلى مجرد تأميم وسائل الإنتاج وخلق النمط الحكومي من دكتاتورية البروليتاريا. وأدى ذلك عملياً إلى تصفية كل سؤال جوهري يتعلق بهذه المعضلة.
وبالرغم من أن التصدي للتخلف الاقتصادي تصدر قائمة المشاكل لفترة طويلة باعتباره المسألة الرئيسية في الاقتصاد، وعومل بشكل استثنائي كمسألة اقتصادية صرفة، إلا أن كل الأسئلة التي تخص هذه المعضلة بالتحديد أقصيت بإصرار عن بساط البحث سواء عن طريق طرح الأسئلة حولها أو الإجابة عنها. أما مسألة "انتصار الاشتراكية في بلد واحد" فقد اختزلت إلى سؤال ما إذا كان بميسورها البقاء بأي حال، وأن تتطور أكثر في ظل هذه الظروف. وهذا يعني بالتالي أن الإجابة عن هذا السؤال قد سربت إلى قنوات القرارات التكتيكية السائدة أيضاً. كان الجميع على وعي بالمتاعب الجمة التي تكتنفها هذه العملية، ولكن إذا كان الاستنتاج المجترح من ذلك يقول بأن هذه العملية لا يمكن أن تتحقق إلا بمساعدة الثورات الاشتراكية في البلدان الأخرى. والبلدان المتطورة قبل غيرها- فإن ذلك سيطرح علينا بالضرورة سؤالاً تكتيكياً- دعائياً لا مناص منه وهو: هل يتوجب تقديم أقصى التضحيات الذاتية لأجل المباشرة ببناء الاشتراكية من دون توفر الإمكانات الفعلية لإنجازها نهائياً؟.."
إن العمى الاستراتيجي الذي أصاب ستالين، منعه من رؤية خطورة الحفاظ على التحالف مع الفلاحين في ظروف عزلة الثورة المؤقتة...
على أية حال: "إن فقدان النظرية الراسخة الأسس حتم لهذا الخيار الزائف أن يلعب دوراً هاماً بين أوساط الرأي العام وفي المناظرات القائمة حول الموضوع"...وحينها رفع التكتيكي البارع ستالين هذه المتطلبات المشوهة بالتحديد إلى موضع الصدارة في النقاشات، فاعلاً ذلك بصياغة تجريدية دعائية مؤثرة تقول بأن الجواب الماركسي الممكن الوحيد والقائم هو التأكيد التام على إمكانية بناء الاشتراكية في البلد الواحد بالكامل" ..وعلى جميع شيوعيي العالم بذل كل ما لديهم للحفاظ على بلد الاشتراكية الأوحد، ...وبعد أن زرع ستالين الفرقة في كتلة تروتسكي- زينوفييف- كامنييف وجرّدها من قواها بدعم من مجموعة بوخارين، انتحل الآن المحتوى الاقتصادي لـ التراكم الاشتراكي البدائي) دون المباشرة بإطلاق هذه التسمية طبعاً) وانقلب على حلفائه السابقين مستخدماً هذا الحل التكتيكي لتصفية هذه المجموعة. ثم توالت النتائج: أوتوقراطية ستالين، التجميع الزراعي القسري، استئصال الكولاك (الفلاحين الأغنياء)، والتصنيع فائق السرعة والقسري.."
كان لينين يفكر بطريقة مختلفة. يقول في "الثورة البروليتارية والمرتد كاوتسكي" :"إن ثورتنا بورجوازية طالما نسير مع الفلاحين بمجملهم (أغنياء وفقراء) ".. وأوضح أمام المؤتمر الثامن للحزب الشيوعي / أيار 1919 : حين بدأت تنتظم لجان الفلاحين الفقراء ، وبدءاً بذلك الحين ، باتت ثورتنا ثورة بروليتارية" .. إن خلق لجان فلاحين فقراء / حزيران 1918 ، إذ كان يحطم وحدة المعسكر الفلاحي ، أدخل الصراع الطبقي إلى الأرياف.. كان يعني الانتقال من الثورة البورجوازية إلى الثورة الاشتراكية." . وفي خطاب لينين عن السياسة الريفية في المؤتمر الثامن للحزب الشيوعي الروسي / آذار 1918 يقول: ""إن الثورة الديمقراطية البورجوازية" ، ينبغي أن تتجاوزها ثورة عمالية وفلاحية، تستبدل الجمهورية البرلمانية بجمهورية سوفياتية. " ولقد وصف ، حتى في آذار 1919، ثورة تشرين الأول بأنها ثورة بورجوازية "بقدر ما أن صراع الطبقات في الريف لم يتطور بعد ". ويضيف: بأن الثورة البروليتارية الحقيقية في الريف ، لم تبدأ إلا عام 1918 . ولقد ظل متعلقاً بفكرة أن الثورة الروسية ، لا تنقذها إلا الثورة الألمانية."
يقول دويتشر: فإذا تابعنا نتائج التجميع القَسْريّ كان لدينا:
1-عدم الكفاءة في الزراعة
2-العداء بين المدينة والريف.
3- نسف أسس التحالف بين البروليتاريا والفلاحين، وهي الإستراتيجية الأصيلة للحفاظ على الديمقراطية السوفييتية في ظروف عزلة الثورة المؤقتة..
إذا تابعنا ذلك تكون سياسات ستالين مصابة بالعمى الاستراتيجي وتكون باهظة الثمن وفقيرة النتائج. . وقد انسحب هذا العمى الاستراتيجي على معظم الأحزاب الشيوعية الستالينية في العالم ..
لكن يضاف إلى تلك السياسات الرهيبة، أهوال الحرب العالمية الثانية:"فقد كان معظم الـ20 مليوناً، من الرجال الذين حشرهم الاتحاد السوفييتي في ساحات الحرب العالمية الثانية، من الفلاحين. وقد خلق ذلك ثغرة هائلة في الطاقة البشرية الريفية بحيث أصبح النساء والأطفال والعجزة والمسنون، العاملين الوحيدين في الحقول، في معظم القرى، في أواخر الأربعينات والخمسينات. وهذا ما يفسر إلى حد ما الحالة الراكدة للزراعة، كما يفسر استياء أكثر أهمية؛ التوترات الهائلة التي تعرضت لها العلاقات العائلية، والحياة الجنسية ، والثقافة الريفية، وكذلك المقدار الزائد من اللامبالاة والسكون في الريف السوفييتي"..
..ونتيجة لكل هذه الأحداث، تدهور وزن الفلاحين في الحياة الاجتماعية والسكانية للأمة، تدهوراً خطيراً، وما زالت أحوال الزراعة حتى اليوم، مصدراً لقلق كبير، لأنها تؤثر على مستوى حياة ومعنويات السكان المدينين. وما زال أي موسم سيء يشكل حدثاً سياسياً خطيراً- فقد ساهمت سلسلة من المواسم السيئة في سقوط خروتشوف 1964...يكتب أرنست ماندل تحت عنوان؛ "إصلاحات عهد خروتشوف" : "كان الاقتصاد السوفييتي، خلال السنوات الأخيرة قبل موت ستالين، قد وصل إلى طريق مسدود: فلم يعد بإمكان الدولة الكبرى الثانية في العالم أن تطعم سكانها! ففي عام 1950 و1953 ركد إنتاج الحبوب وعدد الأبقار ركوداً تاماً في مستوى أدنى من 1928! وركد أيضاً عدد أيام العمل الذي وفره الفلاحون في الكولخوزات، وبقي أدنى منه في عام 1940- وكان الناس يصطفون باستمرار أمام مخازن التموين، وأبدى المستهلكون استياءهم بصورة متزايدة العلنية..فكان بمالنكوف ومن ثم خروتشوف أن عكسا التيار، مباشرة بعد موت ستالين. فتمت زيادة أسعار شراء التجهيزات الإلزامية بصورة هامة. وتمت زيادة إنتاج سلع الاستهلاك الصناعية زيادة قوية، وأرسل قسم هام منها إلى الريف. وانتقلت القدرة الشرائية للكولخوزات من 43 مليار روبل عام 1952 إلى 95 ملياراً عام 1956 و135 ملياراً عام 1958. وكان مفترضاً باستصلاح "الأراضي البكر" في سيبيريا أن يسمح بزيادة إنتاج الحبوب. غير أن نتيجة الإجراءات لم تسمح بحل أزمة الزراعة السوفييتية" ...منذ ذلك الحين، قررت الحكومة السوفييتية تعديل مظهر أساسي لسياستها الزراعية، والاستناد إلى "المصلحة المادية" للكولخوزيين أنفسهم. وتم إلغاء التسليم الإلزامي المنخفض السعر. وبيعت الجرارات والآلات للكولخوزات فسلمت هذه إنتاجها للدولة منذ ذلك الحين بأسعار مربحة. سمحت لها بتراكم سريع لموجودات هامة بالروبلات. وحصلت علاوة على ذلك، على إذن إنشاء منشآت صناعية لإنتاج مواد بناء، وأدوات عمل صغيرة ومواد غذائية (معلبات، مقانق، معجنات) كان للكولخوزات حق بيعها في المدن. فتشجع الإنتاج الزراعي...وازداد في الوقت نفسه الفارق بين الكولخوزات الثرية والكولخوزات الفقيرة..." ...وبهدف زيادة الإنتاجية وامتصاص أحد أسباب الاستياء الشعبي، جرى حل معسكرات العمل الإجباري على نطاق واسع وخففت قيود قانون العمل تخفيفاً كبيراً. كما ألغيت العقوبات الجزائية التي كانت تنزل بالعمال المتأخرين أو المتغيبين بلا مبرر. وفي الوقت نفسه، تم تخفيف مركزية تسيير الصناعة بخلق السوفنارخوز (إدارة إقليمية) ومنحت النقابات مجدداً بعض الحقوق فيما يتعلق بمراقبة التسريحات ومعايير العمل وتعريفات الأجور..وقد تقلصت اللامساواة الاجتماعية بعض الشيء نتيجة رفع الأجور المتدنية وإعادة العمل بنظام مجانية التعليم المتوسط والعالي. ..وأخيراً فإن الزيادة المرموقة في إنتاج السلع الاستهلاكية الدائمة والمجهود الجبار الذي بذل في البناء العقاري كان لهما أثرهما في تقليص الاختلال بين المستوى العالي لتطور القوى المنتجة والمستوى المنخفض لمعيشة الشعب..وتم تخفيض معدلات النمو الصناعي..وزاد الاستهلاك الفعلي لكل فرد بنسبة 66% بين 1950-1958، العام الذي زاد فيه بنسبة الضعف عما كان عليه في 1928 و1937، وبنسبة ضعفين عما كان عليه عام 1944...لكن في الوقت الذي فشلت الخطة الخمسية السادسة في تحقيق أهدافها وكذلك كان مصير الخطة الخمسية السابعة- خاصة في مضمار السلع الاستهلاكية ...فقد تباطأ الارتفاع في مستوى - المعيشة، بل إنه تلاشى مؤقتاً عام 1962، بينما راح معدل نمو الاقتصاد يتدنى..على هذا النحو انتهى العهد الخروتشوفي ..
في الأعوام 1964-1966 تم إجراء إصلاحات جديدة بهدف رفع معدل النمو الاقتصادي (الخطة الثامنة). إن هذه الإصلاحات المختلفة (كما يقول ماندل) تعدّل جزئياً بنية الاقتصاد السوفييتي كما وصفنا أعلاه، لكنها لا تغير من واقع التناقضات الرئيسية للاقتصاد السوفييتي، كما بينا ذلك فيما يتعلق بالتسيير الصناعي"
عودة إلى الفلاحين،: "برغم التضاؤل المستمر في عدد الفلاحين، فما زال التراث الفلاحي يلوح، بشكل واسع، في الحياة الروسية، في العادات والتقاليد، وفي اللغة والأدب والفنون، برغم أن معظم الروس يعيشون حالياً في المدن، فإن معظم الروايات الأدبية الروسية، بنسبة 5/4 روايات، تعالج حياة القرية، وتتخذ من الفلاح شخصيتها الرئيسية . إن الفلاح الروسي يغادر المسرح، لكنه يلقي ظلاً كبيراً من الكآبة على روسيا الجديدة"
يقول دويتشر: "نأتي الآن، إلى ما يعتبر، في كل وصف سوسيولوجي للاتحاد السوفييتي، المشكلة الأكثر تعقيداً وإرباكاً؛ مشكلة البيروقراطية، والجماعات الإدارية، والاختصاصيين، والإنتلجنسيا. لقد تنامى عدد هؤلاء ووزنهم بصورة ملحوظة. ..زاد عددهم من 200.000 قبل الثورة إلى ½ مليون في العشرينات إلى 12 مليون بعد خمسين سنة من الثورة...يضاف إلى هؤلاء 2-3 مليون من الأعضاء النظاميين في المراتب السياسية أو في المؤسسة العسكرية (من الأشخاص العاملين بصورة دائمة في المنظمات السياسية والعسكرية.) . ومن الناحية العددية المجردة، تعادل كل هذه الجماعات، التي تشكل 5/1 أولئك الذين تشغّلهم الدولة، الحجم التقريبي للفلاحين الجماعيين (إذ لا يزيد عدد أعضاء الكولخوزات عن 7 مليوناً). غير أن وزنها لاجتماعي (لهذه البيروقراطية) أكبر بما يقاس. على أنه لا ينبغي لنا أن نضع كل هذه الجماعات معاً، وأن نلصق بها صفة البيروقراطية أو الطبقة الإدارية.
ويتوجب التمييز ، بدقة، بين الاختصاصيين والإداريين الذين يملكون ثقافة عالية، وأولئك الذين يملكون ثقافة ثانوية. فقط، إذ تتشكل عناصر القيادة الإدارية من الفئة الأولى، ولكن جميع الكادر العالي لا يشغل مراكز قيادية. ويشكل الاختصاصيون ذوو الثقافة العالية، 40% من مجموع الكادرات، أي أكثر من 4.5 مليون شخصاً، أو ربما 5.5 مليوناً. إذا أضيف إليهم كادرات الحزب والشخصيات العسكرية.."..
إذن هذه هي البيروقراطية التي أشار إليها تروتسكي بوصفها الحاكمة نيابة عن العمال (حاكمة بالوكالة)... والتي وصفها جيلاس بـ"الطبقة الجديدة" /92/
دعوني أقول هنا في الرد على جيلاس : إنني / والكلام لـ دويتشر/ أميز ما بين عدم المساواة الاقتصادية والاجتماعية، والصراع الطبقي. والفارق ما بين العمال المهرة، ذوي الأجور المرتفعة، والعمال غير المهرة، هو أحد الأمثلة على عدم المساواة التي لا تصل حد الصراع الطبقي. إنه فارق ضمن طبقة واحدة.
إن وجهة نظر جيلاس عن "طبقة المستغلين الجديدة"، والآراء المشابهة عن: "المجتمع الإداري" السوفييتي هي مجرد تبسيطات تزيد الموضوع تعقيداً..
..فمركز(لُبّ) الجماعات المحظوظة في المجتمع السوفييتي..تملك ميزات معينة، مشتركة مع الطبقات المستغلة في المجتمعات الأخرى، إلا أنها تفتقد بعض الميزات الأخرى التي تتمتع بها تلك الطبقات المستغلة. وهي تملك امتيازات مادية وغير مادية، تدافع عنها بعناد ووحشية... ولكن هنا أيضاً، بنبغي أن نتجنب التعميمات الجارحة، فثلث العدد الإجمالي للاختصاصيين هم من المعلمين ذوي الأجور المنخفضة..والملاحظة نفسها تصح بالنسبة لمعظم ½ مليون طبيب، ويكسب كثيرون من مليوني المهندس، والمهندسين الزراعيين، والأخصائيين دخلاً يقل عن دخل العامل ذي المهارة المرتفعة. ويمكن مقارنة مستواهم بمستوى الطبقة الوسطى الدنيا، في المجتمعات الغربية...إن مستواهم المعيشي أرفع من المستوى المعيشي للعمال اللامهرة، وشبه المهرة، عير أنه سيكون بحثاً سوسيولوجياً (في علم الاجتماع) هزيلاً ذلك الذي يدين ازدهارهم المتواضع هذا، بوصفه مبنياً على استغلال العمال. فقط الشرائح العليا من البيروقراطية، ومراتب الحزب، والجماعات الإدارية والشخصيات العسكرية، تعيش في ظروف مشابهة لتلك التي يتمتع بها الأغنياء، والأغنياء الجدد في المجتمع الرأسمالي...ومن المستحيل تحديد الحجم الدقيق لهذه الجماعات (كون المعلومات الإحصائية بصدد عددهم، ومداخيلهم تحظى بكتمان شديد).
إن الميزات المشتركة بين هذه الجماعات، وبين أية طبقة مُسْتَغِلَّة- وأنا أستعمل اللفظة هنا بمضمونها الماركسي- هي أن مداخيلهم مستقاة، ولو جزئياً، من "فائض القيمة" الذي ينتجه العمل. وأكثر من ذلك، فإنهم يسيطرون على المجتمع السوفييتي، اقتصادياً وسياسياً وثقافياً. .. إلا أن ما يسمى "الطبقة الجديدة"، هذه، إنما تفتقر إلى الملكية. فهي لا تملك أياً من وسائل الإنتاج أو الأرض. وتنحصر امتيازاتها المادية في مجال الاستهلاك. وعلى نقيض العناصر الإدارية في المجتمع الغربي، فإنهم لا يستطيعون تحويل قسم من مدخولهم إلى رأس مال: ولا يتمكنون من التوفير، والتوظيف وتجميع الثروة بالشكل الثابت والمتنامي الذي توفره الأسهم الصناعية، أو الموجودات المالية الكبيرة. ولا يستطيعون أن يوصوا بثروتهم إلى ورثة، أي أنهم لا يستطيعون أن يخلّدوا أنفسهم كطبقة..
من الممكن نظرياً ، أن تحفز ردة الفعل الحالية ضد المركزة الشديدة للرقابة الاقتصادية، اتجاهات رأسمالية جديدة بين المديرين الصناعيين... غير أن التخلي عن التخطيط الاقتصادي المركزي كفيل بأن يوجه لطمة كبرى لمصلحة روسيا القومية، وإلى مركزها في العالم ...
..إن حقيقة البيروقراطية السوفييتية لم تتمكن، حتى الآن، من إحراز ملكية خاصة لها في وسائل الإنتاج، تفسر ذلك المقدار المعين من التزعزع، وإمكانية الهلاك، الذي يميز سيطرتها الاجتماعية.
فقد كانت المِلْكيّة أساساً لأية سيادة طبقية، أساساً يستند إليه تلاحم أية طبقة ووحدتها. وتشكل الملكية، بالنسبة للطبقة التي تمتلكها، عاملاً مكوناً للشخصية. وهي أيضاً العامل الإيجابي الذي يجمع الطبقة دفاعاً عنه...وصرخة القتال بالنسبة لأية طبقة مالكة هي "قدسية الملكية"..وليس فقط الحق في استغلال الآخرين. ومن هنا، ليست الجماعات المحظوظة في المجتمع السوفييتي موحدة بفعل أية روابط مشابهة. فهي تسيطر على الصناعة، كما يفعل مديرو الأعمال في النهاية، وتمارس سيطرتها عليها بصورة مطلقة..وينبغي على هؤلاء المدراء السوفييت أن يعترفوا بأن جميع الحصص هي ملك الأمة..بل ينبغي عليهم أن يعترفوا أيضاً بأنهم يعملون بالنيابة، بصورة خاصة، عن الطبقة العاملة. وتبقى مسألة ما إذا كانوا سيتمكنون من المحافظة على هذا الإدعاء، أم لا، مرهونة بالظروف السياسية...
..إن ركيزة البيروقراطية الكبرى هي "حالة من التوازن السياسي" .. وهذا - في المدى البعيد- أساس للسيطرة الاجتماعية، أكثر هشاشة إلى حد بعيد، من أي بنيان قائم لعلاقات الملكية يكتسب الشرعية من القانون، والدين والتقاليد. .
..وإذا كانت هذه البيروقراطية التي حكمت الاتحاد السوفييتي، طوال هذا الوقت، مكونة من "المراتب السياسية المركزية" فقط، فإن هويتها تصبح شديدة الخداع، بالفعل- فقد تغير تكوينها مراراً، وبصورة جارفة، في تطهير إثر آخر، أثناء حياة ستالين، وبعده" ..
..وفي الحقيقة، فقد مارست البيروقراطية السوفييتية مقداراً من السلطة أعظم من ذلك الذي عرفته أية طبقة مالكة في التاريخ الحديث... وبرغم ذلك فإن مركزها أضعف، وأكثر تعرضاً، من المركز الذي تشغله، عادة، مثل هذه الطبقة. وسلطة هذه البيروقراطية، هي سلطة غير عادية، لأنها اقتصادية، وسياسية، وثقافية، في نفس الوقت، ولكن، برغم ما في ذلك من تناقض، فإن كل عنصر من عناصر السلطة هذه يعود بأصله إلى فعل من أفعال التحرير: إذ تشتق امتيازات البيروقراطية الاقتصادية من إلغاء الملكية الخاصة في حقل الصناعة والمال، وتعود امتيازاتها السياسية إلى الانتصار الكامل للعمال والفلاحين على النظام القديم، فيما تعود امتيازاتها الثقافية إلى تولي الدولة المسؤولية الكاملة لتعليم الشعب، ولتطوره الثقافي... ونتيجة لعدم قدرة العمال على المحافظة على التفوق الذي أحرزوه في عام 1917، فقد انقلب كل فعل من أفعال التحرير إلى نقيضه. وهكذا أصبحت البيروقراطية سيدة لاقتصاد فقد سيده، وأقامت وصاية سياسية، وثقافية، على الأمّة. غير أن الصراع بين أصول السلطة وطابعها، وبين الأغراض التحريرية التي كان يفترض فيها أن تخدم، والأغراض التي قامت بخدمتها، بالفعل، فقد ولد، بصورة مستمرة، توترات سياسية حادة، وتطهيرات متكررة، كشفت، مرة إثر أخرى، فقدان التلاحم الاجتماعي في صفوف البيروقراطية. فلم تتمكن البيروقراطية، بعد، من توطيد مواقعها إلى حد تشكيل طبقة جديدة. ولم تستطع أن تمحي من عقول الشعب أفعال التحرير التي اشتقت منها سلطتها. كما لم تستطع إقناع الجماهير-أو حتى إقناع نفسها- بأنها إنما تستعمل سلطتها بشكل متطابق مع هذه الأفعال. بكلمات أخرى، لم تحرز هذه "الطبقة الجديدة" لنفسها قدسية الشرعية الاجتماعية. وما زال عليها أن تخفي هويتها باستمرار، وهو أمر لم يضطر البورجوازيون، والملاك العقاريون، إلى فعله أبداً. وما زال الشعور يراودها - بعد 50 سنة من الثورة- بأنها وعد التاريخ...
سبق وأشرنا إلى الشعور بالذنب الذي يرغم الجماعات الحاكمة على ضم "العمال" و"الموظفين" معاً، في حقل إحصائي واحد، وعلى اعتبار بنيان الأجور، وتوزيع الدخل القومي، سراً من أسرار الدولة. وهكذا تختفي "الطبقة الجديدة" في الكتلة الرمادية الضخمة من "العمال والموظفين". فهي تخفي وجهها، وتكتم حصتها من الوليمة القومية. وهي لا تجرؤ بعد كل هذه المطاردات للداعين إلى المساواة، على مواجهة رغبات الجماهير في المساواة!!
وكما قال أحد المراقبين الغربيين: "في حين تعمل الطبقات الوسطى الغربية على التعالي على الناس العاديين، فإن على المحظوظين في الاتحاد السوفييتي أن يتذكروا ضرورة الظهور بمظهر الناس العاديين، دائماً. وهذا ما يدنينا من نفسية المجتمع السوفييتي، ومن بعض النواحي الكامنة الأخلاقية، ومن القوة النشيطة، والدافعة التي يشكلها التراث القومي...وأكثر من ذلك، فإن العامة الروس يرتفعون إلى مستويات أعلى بالجملة، وحيث يرتكز التمايز الاجتماعي على الدخل والوظيفة، فقط دون الملكية. فإن تقدم ثقافة الجماهير يشكل قوة هائلة لا سبيل إلى مقاومتها في المدى البعيد، في سبيل المساواة...ويتوجب على الجماعات المحظوظة أن تمتص باستمرار، عناصر عامية وبروليتارية جديدة، تجد صعوبة متزايدة في استيعابها. مما يمنع "الطبقة الجديدة"، مرة أخرى، من تمكين نفسها اجتماعياً وسياسياً...
وهكذا كانت قوة التراث الثوري فائقة إلى حد كاف لإرغام البيروقراطية على إعطاء العمال قدراً من الثقافة، يفوق المتطلبات الاقتصادية الضيقة، بل وربما يفوق حد الأمان بالنسبة للجماعات المحظوظة.."
وهنا يحق أن نردد قول ماركس في كتابه "الثامن عشر من برومير لويس بونابرت"، الذي صدر للمرة الأولى سنة 1852 : "أن الثورة البرجوازية، كتلك التي حدثت في القرن الثامن عشر، تندفع كالعاصفة من نجاح إلى نجاح، وآثارها الدرامية تفوق بعضها بعضًا، ويبدو فيها الأشخاص والأشياء في إطار باهر وهاج، ويكون كل يوم مشبعًا بالحماسة والنشوة. بيد أن عمر هذه الثورات قصير، فسرعان ما تدرك هذه الثورات نقطة الأوج وتخيم على المجتمع وخمة السكر الطويلة الممضّة قبل أن يستطع أن يهضم بتعقل واتزان نتائج فترة الضغط والاندفاع العاصف تلك. أما الثورات البروليتارية كتلك التي تحدث في القرن التاسع عشر[والقرن العشرين]، فهي، بالعكس، تنتقد ذاتها على الدوام، وتقاطع نفسها بصورة متواصلة أثناء سيرها، وتعود ثانية إلى ما بدا أنها أنجزته لتبدأ فيه من جديد، وتسخر من نواقص محاولاتها الأولى ونقاط ضعفها وتفاهتها باستقصاء لا رحمة فيه، ويبدو أنها تطرح عدوها أرضًا لا لشيء إلا ليتمكن من أن يستمد قوة جديدة من الأرض وينهض ثانية أمامها وهو أشد عتوًا، وتنكص المرة تلو المرة أمام ما تتصف به أهدافها من ضخامة غير واضحة المعالم، وذلك إلى أن ينشأ وضع جديد يجعل أي رجوع إلى الوراء مستحيلاً وتصرخ الحياة نفسها قائلة بصرامة:
Hic Rhodus, hic salta : هنا الوردة، فلترقص هنا!


هوامش
- اسحق دويتشر: "الثورة غير المنتهية". الكتاب منشور ضمن مجموعة مقالات بعنوان : "ثورة أكتوبر في نصف قرن" ، نقله عن الإنكليزية بيار عقل ، نيسان/ أبريل 1970 ، دار الحقيقة بيروت . وهناك ترجمة أخرى للدكتور فؤاد أيوب صادرة عن دار دمشق، بعنوان: "الثورة التي لم تتم" .
2- جان بول سارتر: شبح ستالين، ترجمة جورج طرابيشي، دار الآداب بيروت ، 1965 ، ص 50-51
3- سلالة القياصرة والأباطرة الروس الذين حكموا روسيا منذ عام 1613 حتى 1917..ولقد أسقطت ثورة شباط 1917 الديمقراطية البورجوازية القيصر الأخير؛ نقولا الثاني.
4- الجناح الانتهازي من حزب العمال الاشتراكي-الديمقراطي في روسيا. لقد اختلفوا مع البلاشفة حول عدد من النقاط: منها المتعلقة بتنظيم الحزب الثوري. ولكن أبرزها كان الخلاف حول إستراتيجية الثورة الروسية، إذ تبنى المناشفة إستراتيجية يمينية تعارض استيلاء البروليتاريا على الحكم، على أساس أن روسيا لم تنضج للاشتراكية بعد..كان موقفهم ينم عن فهم دوغمائي للماركسية الكلاسيكية.
5-. حزب فلاحي (بورجوازي صغير) نشأ في روسيا في أواخر 1901...ألف الجناح اليساري حزباً مستقلاً، واعترفوا بالسلطة السوفييتية ودخلوا حكومة لينين..ثم ما لبثوا أن وقفوا ضد هذه السلطة .
6- هذا الكلام سنة 1967
7- قد تلعب الثقافة الشرقية-الدينية دوراً مساعداً ومعاضداً لقضايا أخرى.
8-لفوف: أمير وملاك عقاري. كان رئيساً للحكومة التي تشكلت في أعقاب ثورة شباط 1917.
9-كيرنسكي: أحد قادة الحزب الاشتراكي/ الثوري. ترأس الحكومة المؤقتة بعد تنحية لفوف عام 1917. في عام 1918 فر إلى الخارج.
10- إن علاقة الحرب بضعف النظام– كعلاقة السبب بالعلّة- السبب خارجي والعلّة داخلية (العلة: خاصية الشيء)
11- مارسيل ليبمان: اللينينية في ظل لينين، الجزء الأول: الاستيلاء على السلطة ، ترجمة كميل داغر. دار الحصاد ، دمشق 1988 .
12- إن التناقضات التي أنتجها النظام القديم والقوى المشتتة والمهمشة الناجمة عن التغيرات و الإصلاحات التي قام بها، تجعل مشروعاً نقيضاً للنظام القديم أكثر قدرة على التعبئة وأكثر إدراكاً من الناحية السياسية لضرورة التغيير الجذري ، وأكثر قدرة على إنجاز المهمة بنجاح (قارن بين إصلاحات قريش والانقلاب المحمدي، أوائل القرن السابع الميلادي ).....
13- بالنسبة لثورة محمد، إن رحيل عبد المطلب وأبو طالب كزعامة تحقق الوحدة القرشية، وتراكم الثروة (قوى الإنتاج ) وتأسيس دار الندوة كمجلس لإدارة شؤون قريش وتزايد الحراس العبيد لحماية القوافل التجارية، كلها جعلت من انقلاب محمد من القبيلة إلى الدولة عملاً سياسياً- تاريخياً ضرورياً ؛ لأن قريش بصفتها القبلية لم تعد قادرة على إدارة الثروة المتراكمة لحد يمكنها من تجميع شتات القبائل المتشرذمة..
لقد وجد الفرنسيون الذين عملوا لتحقيق الدولة الموحدة أنفسهم في تناقض مع الحواجز التي خلقتها خصوصيات ناجمة عن أصول إقطاعية؛ إذ كان اقتصاد فرنسا البورجوازي النامي بحاجة إلى سوق قومية موحدة، وإلى فلاحين أحرار، وإلى حرية تنقل الرجال والسلع.
14- كان رئيس أول جمهورية عام 1917 ملاكاً عقارياً
15- على لسان مفستوفيلس في مسرحية "فاوست " لـ غوتّه
16- جورج بليخانوف: " أبحاث في تاريخ المادية"، الطبعة الأولى أغسطس/ آب. تعريب: محمد مستجير مصطفى. دار الفارابي- بيروت 1979
17- قارن هذا مع طبقة "البازار" في المدن العربية (أميتها وهامشيتها السياسية)
18- قارن هذا مع كوادر حزب العمل الشيوعي في سوريا.
19- هنري لوفيفر: فكر لينين ، ترجمة ومراجعة : د. كمال الغالي، و أديب اللجمي ، منشورات وزارة الثقافة والسياحة والإرشاد القومي، دمشق 1969 .. ص 65-66
20- اليعقوبيّة البلشفية (التحالف مع الفلاحين خاصة الفقراء منهم)
21- ترجمة أخرى للعبارة: وهي تملك تقليداً صناعياً وذكريات عن الطبقة قبل الثورة . "الثورة التي لم تتم" ترجمة فؤاد أيوب ص /61/
22- الفيدفيجنتسي: عناصر الإداريين والأرستقراطية العمالية .. عن ترجمة: فؤاد أيوب
23- ترجمة أخرى للعبارة: السلطة الاجتماعية العليا- ترجمة أيوب ص 64
24- إن المرونة الاجتماعية التي سمح بها النمو السريع كانت تخدم البيروقراطية، وتكيف الطبقة العاملة أكثر ، وتحرمها من أي نوع من التضامن الطبقي.
25- سنتش، راكيتسكي، لوكاش: "قراءات في أزمة أوربا الشرقية" . ترجمة مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي . الطبعة الأولى 1990 ، ص 54-55 .
26- قراءات ، مرجع سابق ، ص 55
27- راجع: لينين، المختارات - مجلد 10 1920-1923دار التقدم موسكو ، ترجمة الياس شاهين 1978 . ص 267-268 "
28- قراءات، مرجع سابق ، ص 58
29- قراءات:مرجع سابق، ص 56
30- قراءات، مرجع سابق ، ص 56-57
31- نقلاً عن مارسيل ليبمان : اللينينية في ظل لينين ، الجزء الأول . ترجمة كميل داغر دار الحصاد ، الطبعة الأولى 1988 ، ص 41
32 - مارسيل ليبمان : اللينينية في ظل لينين ، مرجع سابق ، ص 41
33 - الماركسية السوفياتية: تأليف هربرت ماركوز ، ترجمة جورج طرابيشي ، الطبعة الأولى أيار 1965 ، دار الطليعة- بيروت ص 32
34- أرنست ماندل: النظرية الاقتصادية الماركسية ، الجزء الثاني ، نقله إلى العربية جورج طرابيشي ، دار الحقيقة بيروت ، ص 355
35- النظرية الاقتصادية الماركسية ، الجزء الثاني ، مرجع سابق ، ص 356
36- النظرية الاقتصادية الماركسية ، الجزء الثاني ، مرجع سابق ، ص 357
37- اسحق دويتشر: الثورة التي لم تتم . ترجمة الدكتور فؤاد أيوب ، ص 69 . دار دمشق
38- الثورة التي لم تتم ، مرجع سابق ، ص 69
39- جيلاس: عضو مكتب سياسي للحزب الشيوعي اليوغسلافي- انشق عن الحزب وتعاون مع القوى الإمبريالية - سجن، ثم بعد خروجه سافر إلى أمريكا.
40- تكهّنات..
41- وهو ما حصل في عهد يلتسين ؛ تسعينات القرن الماضي