حكمة الحد الأوسط في نظرية أرسطو


زهير الخويلدي
الحوار المتمدن - العدد: 5613 - 2017 / 8 / 18 - 19:50
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات     

لقد أشكلت الفلسفة على الإنسان أيما استشكال واستعصت على الفهم أيما استعصاء سواء من جهة العبارة أو الفكرة أو المنهج أو الموقف. ولقد زاد هذا الغموض عند قيام الاتجاهات الفلسفية وبروز الفلاسفة الكبار واكتساح المدارس الفكرية والمذاهب العلمية واندلاع نزاع العملاقة حول الوجود.
إذ من جهة أولى تبدو الفلسفة تجربة فكرية صعبة تجلب الحيرة والارتياب وتوقع الذهن في الكثير من المزالق ومن جهة أخرى يمكن حفظ قواعدها واستعمال طرقها في الحياة والتعويل عليها في التطور.
لم تقل هذه الحيرة ولم يتناقص هذا الالتباس إلا عندما تم اعتبار الروح الفلسفية هي بلوغ نصيب من المعرفة بشكل متأني بالاعتماد على مسالك منهجية معلومة والتمتع بجرعة من سعادة الحكمة المرحة.
لقد ربط الفلاسفة حينئذ التفكير بالحياة والمعرفة النظرية بالاهتمام بالمعلومات المفيدة وجعلوا عملية اكتساب الحقيقة مقترنا بإنتاج المنفعة وصناعة الذكاء وابتكار الآلة واختراع القانون واضفاء القيمة.
بيد أن الفلسفة ليست مذهبا تام التكوين ولا عقيدة جامدة تشكلت بصورة مكتملة ولا تتضمن نسقا مغلقا وإنما هي فلسفات أوجدها العديد من الفلاسفة وتوجد في التاريخ وترتبط بالواقع وتعرف حدوث عدة تغيرات والكثير من المراجعات بحيث تتجدد فيها المفاهيم وتنمو عبرها المناهج وتتوالد المقاربات.
بهذا المعنى تحبذ الفلسفة التفكير الحر عبر آليات السؤال والحوار وتمارس النقد والتفكيك والتأويل والتغيير وتشيد النظريات المعرفية وتبني الأنساق المفتوحة وتدفع اللغة إلى وصف الواقع الطبيعي.
غير أن تاريخ الفلسفة شهد ظهور مجموعة من الأزمات وبروز الكثير من الظواهر الملغزة والمسائل المستعصية مما دفعت بالعقول الاستنجاد بالتجربة التطبيقية حينما أو بالاعتصام بالرياضيات أحيانا.
في هذا السياق يعتبر أرسطو 384- 322 من أول الفلاسفة الإغريق الذين كانوا على وعي تام بحدة الأزمة التي عصفت بالمدينة وسارع بالتعجيل نحو توجيه الفلسفة إلى تفقد مقولاتها بغية الرد عليها.
تبدو الملامح الأولى للأزمة بشكل واضح في نوع علاقة التلميذ بالأستاذ أو في علاقة فيلسوف سابق بفيلسوف لاحق وتدعو إلى ممارسة الابتكار والخروج من جهة والى الوفاء والالتزام من جهة ثانية.
من ناحية ثانية تكمن أهمية أرسطو في وضعه جملة من المباحث الأساسية كالميتافيزيقا والمنطق والإيتيقا والسياسة والفيزياء ولكن الأكثر استشكالا هو طرحه قضية عللها الأولى ومبادئها القصوى.
من جهة ثالثة ينتمي أرسطو إلى اللحظة التأسيسية للفلسفة الإغريقية التي دفعت بالعقل إلى القطع مع الخرافة ولكنه كان يعتبر أول الفلاسفة الإغريق الذين حاولوا ا، يكونوا فلاسفة طبيعيين بلا أسطورة.
على مستوى رابع تبني أرسطو تصور موسوعي للفلسفة وأنتج نظرة كونية للأشياء واحتلت مسألة الكلي منزلة محورية في فكره ولكنه دعا إلى التعمق في دراسة الظواهر ودافع على التخصص وكان أول الذين قسموا المعرفة إلى علوم دقيقة وميزوا حقل التجربة إلى دوائر معلومة وأدراج متصلة.
على هذا الأساس تطرح العديد من الأسئلة حول نظريته في المعرفة وفكرته عن الطبيعة ونظرته للكون والمنهج المنطقي للتفكير وعلاقة النفس بالجسم ومنزلة المادة من الحياة وتصنيف العلوم. فكيف يكون أرسطو هو واضع علم مابعد الطبيعة وعلم الطبيعة في ذات الوقت؟ وبأي معنى ضم المنطق مقولات عن اللغة والفكر والوجود وأصناف من الكائنات الحية والتاريخ الطبيعي مثل النوع والجنس؟
1- الحكمة النظرية:
انطلق أرسطو من الآراء اليقينية حول الأشياء المجهولة والمدركة والمظاهر الموثوق بها من طرف عدد كبير من الناس واعتبرها حقائق تقودنا إلى إدراك الوقائع و معرفة منزلتنا في الكون والتفلسف.
لقد اعتبر الحياة الإنسانية تتضمن ضرورة الحاجة إلى البحث والتحرك ومطلب تحصيل كل المعرفة وممارسة التفلسف والنظر في الطبيعة والاعتبار من الظواهر الكونية وبلوغ الحكمة من خلال التفكر.
لقد تصور الحكيم على أنه الإنسان المتحصل على معرفة بجميع الحقائق لكل الأشياء في كل الأزمنة والقادر على بلوغ السعادة من خلال الرغبة في المعرفة وليس عن طريق انتماء سياسي لنظام عادل.
لقد قاد الفكر الموسوعي الذي تبناه أرسطو إلى بناء معرفة شمولية تنظر في الكون من جميع جوانبه الظاهرة والخفية وكذلك الأجسام الهائلة والأجسام الدقيقة وأيضا الظواهر البعيدة والظواهر القريبة.
لقد ارتكزت المعرفة الفلسفية عند أرسطو على التأمل النظري وطاردت الكلية وبحثت عن المطلق ولكنها في ذات الوقت أدخلت الملاحظة إلى الفكر وعولت على حركة اليد المتجهة إلى الأرض من أجل الاحتكام إلى التجربة والعودة إلى التاريخ الطبيعي وارفاد الاستنباط المنطقي بالسبر والاستقراء.
لقد اعتمد أرسطو على الرياضيات في مقاربته الفيزيائية والمنطقية للطبيعة التي استقاها من العلماء الإغريق الذين سبقوه وخاصة فيثاغورس وطاليس وأرخميدس وإقليدس وديمقريطس وهرقليطس ولكنه ظل مشدودا إلى أستاذه أفلاطون في تعويله على مبدأ اللّوغوس من حيث هو تفكير عقلاني قادر على النظر إلى الطبيعة من جهة العلاقات التي تتكون من وقائعها والتعبير عنها عبر خطاب متماسك.
في المقابل خالف فيلسوف الأرض أرسطو فيلسوف السماء أفلاطون حسب الرسام رافيال في لوحته الشهيرة بمنح الرأي والخطابة والشعر والحس منزلة في الشغل المعرفي الذي يؤديه الفكر الفلسفي.
إذا كان أفلاطون قد أجاز اعتماد التفكير الفلسفي على جل الأساطير من أجل بلورة الأفكار وتوضيح المفاهيم فإن أرسطو ابتعد عن ذلك وعَوَّلَ على تجميع ملاحظات عن الحياة المشتركة واللغة الجارية.
من المعلوم أن أفلاطون جعل الفلسفة في قطيعة جذرية مع الرأي واعتبر محب الرأي فيلسوف مضاد والآية على ذلك أن الرأي هو مجرد عتمة يجب على النفس جبه من أجل الشروع في التأمل والتفكر، واعتبر السفسطائيين شياطين ومهرجين لزعمهم امتلاك الحكمة واستعمالهم اللغة للخداع والهيمنة.
في حين أن أرسطو تفلسف بشكل مغاير حيث اعتبر الأفكار المشتركة وألفاظ اللغة المتداولة نقاط انطلاق نافعة من أجل بناء معرفة يقينية بالكون واتخذها أصلا ومصدرا لكل حكم عقلي على العالم.
كما أعاد الاعتبار للسفسطائيين حينما أخذ محمل الجد الدور المعرفي لتقنيات الكلام في فن الخطابة وثمن التوازي بين النحو بماهو نظام اللغة والمنطق بماهو نظام التفكير بين حسن القول وحسن النظر.
لقد جعل أرسطو من تجربة التفلسف مقترن بالدهشة والتعجب عند النظر إلى الموجودات وطرح سؤال لماذا؟ وتفريع ذلك إلى أسئلة أخرى على غرار ماذا؟ وكيف؟ وأين؟ ومتى؟ ومن؟ ولمن ؟...
من هذا المنطلق يقر أرسطو بوجود ترابط أصلي بين بنية الوجود وبنية الفكر وبنية المعرفة، وبما أن الوجود يقال على أنحاء عدة والفكر يتأرجح بين الكلي والجزئي فإن المعرفة تقال على أنحاء عدة.
لا يشير الوجود إلى دلالة واحدة وإنما يتم الإشارة إليه من زوايا مختلفة والتدلال عليه بطرق شتى وهذا الرأي ينطبق على كل نوع بنفس الكيفية. إذا كان أفلاطون قد بحث عن إرجاع كثرة الموجودات وتعدد الأشياء إلى مبدأ موحد أسماه الأيدوس أو المثال وأقر وحدة الحقيقة ووضع لها معايير كونية وخصائص عامة تميزها عن الظن والرأي والوهم وفتش عن ماهية الفضيلة في ذاتها عند كل تحديد واستقر به الأمر عند العدالة عند الحكام والجشاعة عند الحراس والاعتدال عند العامة فإن أرسطو على العكس من ذلك أبقى على حركة الموجودات في تنوعها واعتبر الاختلاف الموجود بين الفضائل أمرا لا يقبل الإرجاع إلى أي مبدأ أول مهما كان شرفه وزادت منزلته الوجودية أو نقصت.
من ناحية ثانية يفترض أرسطو وجود علم أسمى إذا تعذر على الفكر الفلسفي بلوغ معرفة موحدة، وهذا العلم الأسمى هو علم الوجود بماهو موجود ويطلق عليه تسمية فلسفة أولى أو الميتافيزيقا.
لقد قسم أرسطو ميدان المعرفة إلى ثلاثة مجموعات:
علوم نظرية théorétiquesتدرس المعرفة الخالصة مثل الفلسفة الأولى والمنطق أو الفيزياء
علوم تطبيقية pratiques تتعلق بقوى الفعل وأغراضه وخاصة الأخلاق والسياسة.
علوم إنشائية poïetiques تمس عناصر الإنتاج في التقنية الصناعية والفنون التشكيلية.
يفرق أرسطو هنا بين théorétiques وthéoriques وذلك لوجود تقارب كبير في المعنى بينهما ويرى أن النظري لا تنطبق هنا على العلم بقدر ما تنطبق على موضوعه. كما أنه يفرق بين المتقاربين poïetiques و poetiquesويرى أن الجذر الإغريقي poïesie قد تفرع عنه لفظ الشعرpoesie والذي يعني الإنتاج بينما العلوم التشكيلية يمكن أن تدل على العلوم الموهوبة بالشعر.
بعد ذلك يرفض أرسطو القول بوحدة الحقيقة وينفي وجود معيار كوني ويبرر ذلك الرفض باحتمال إسناد صفة التقريب والمرجح والممكن والجائز والعرض على بعض جهات الوجود ومناطق المعرفة.
كان أفلاطون اعتبر الجدل صعود روحاني للنفس نحو المثل فإن أرسطو قلل من وظيفة هذا المنهج وذلك لما أطلق تسمية منطق الاحتمال على الجدل بالتعارض من المنطق الذي يعالج الحقيقة اليقينية.
فماهي الفروقات التي يكشف عنها أرسطو بين منطق ضعيف للاحتمال ومنطق قوي للبرهان؟
المنطق البرهاني هو الفكر القادر على الحكم في القضايا والبت في الأحكام والتمييز بين الحقائق. وبما أن الوجود يقال على أنحاء عدة ولما افتقد فعل الوجود المعنى نفسه بين عبارة "هذا أبيض" وعبارة "انه إنسان" وعبارة "انه جالس" فإنه يجب تعريفه عبر المحمولات التي يمكن أن تمنح له.
في هذا الصدد يميز أرسطو بين عشرة من المحمولات لا تعني لوحدها شيئا ولذلك ينبغي أن تدخل في علاقة مع محمولات أخرى ويجب أن تخضع إرادة القول لبنية الخطاب عن الوجود لكي تمتلك معنى.
تتبلور قائمة المقولات العشرة على النحو التالي: الجوهر، الكم، الكيف، العلاقة، المكان، الزمان، الوضع، الملكية، الفعل ، الانفعال. وتمثل هذه المقولات أجوبة على الأسئلة التي يمكن طرحها حول أي كائن بالشكل الآتي: من؟ ماذا؟ كيف؟ كم؟ مع من؟ أين؟ متى؟ بأي طريقة؟ من ماذا؟ وبماذا؟
يتكون المنطق الأرسطي من تعريفات وقضايا واستدلالات ونتائج، ويتمثل الاستدلال في التفكير أو الإحالة إلى مرجع واقعي من أجل استخلاص قضايا معينة تتكون من جملة من الملاحظات التجريبية والأوليات الرياضية التي يتم استنتاجها من قضية بديهية أخرى تكون لازمة بصورة ضرورية عنها.
إن الاستدلال هو مرور من المعلوم إلى المجهول ومن الضمني إلى المعلن ومن الباطن إلى الظاهر عبر آلية القياس التي تتكون من ثلاثة عناصر مترابطة فيما بينها بشكل منطقي ومتساوق: وهي المقدمة الكبرى تشير إلى القاعدة العامة التي والمقدمة الصغرى التي تمثل الواقعة الخاصة والنتيجة.
يبلور القياس ترابطا بين طرفين يشكل الطرف الأول الموضوع ويمثل الطرف الثاني المحمول على النتيجة وبعبارة أخرى يجب إيجاد الحد الأوسط بين ذات القضية الكبرى ومحمول القضية الصغرى.
إذا كان الاستنباط عملية ذهنية خالصة تتم داخل التجربة الفكرية بالانتقال من العام إلى الخاص فإن الاستقراء هو تعميم عقلاني يجري داخل التجربة الميدانية ويقوم على استخلاص الكلي من الجزئي.
لقد رفض أرسطو نظرية المثل الأفلاطونية التي تفترض وجود معقول مغاير للوجود المحسوس وبين أن الكائنات تتكون بامتزاج وتشاكل بين المادة والصورة في كيفيات الليونة والسيولة والتجمد والتبخر.
لقد كان أرسطو المنظر الأول لعمل التجريد عن طريق انتزاع صور المحسوسات من الأشياء المادية والاستنجاد بالتذكر والتخيل والتصور والانتقال من حال الوجود بالقوة إلى وضع من الوجود بالفعل.
إن الفكرة أو المثال بالنسبة إلى أرسطو لا يتنزه لوحده في السماء العقلي بمرافقة الآلهة وإنما يكمن في الوجود ذاته ويقوم بتحديد نوعه و ضبط جنسه ضمن نظام الوجود بواسطة الخاصة والعرض الذاتي.
المعرفة الفكرية تتطلب استخلاص الصور من المحسوسات بتجريدها من مواد الأشياء دون الاعتقاد بإعادتها إلى عالم مثالي وقع افتراضه مسبقا والاجتهاد بإخراجها من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل.
من هذا المنطلق تبدو الفلسفة الأرسطية فلسفة غائية لأن الأهم من وجود الموجودات ومعرفتها هو الغاية التي تصل إلى تحقيقها وتتشوق إلى محاكاتها ولذلك عرف الفلسفة بأنها علم المعلوم الأسمى.
يفهم أرسطو كلمة غاية بمعنيين: الهدف الذي يتطلب توفير جملة من الوسائل قصد بلوغه والعلة التي تمنح الوجود وتفسره ولذلك كان قد صرح أن الطبيعة لا تفعل شيئا عبثا وأنها تتحرك من أجل غايات.
إذا كان أناكساغور قد رأى بأن الإنسان يفكر لأنه يمتلك يدين فإن أرسطو قد تصور العكس وقد أقر بأن الإنسان يحوز على يدين لأنه يفكر وبالتالي لا يكتفي بابتكار جملة من الأدوات والوسائل وإنما يتبع سلم تراتبي من الغايات ويحول غايات نسبية إلى وسائل بغية بلوغ غايات أسمى وأهداف مطلقة.
بطبيعة الحال ترتب عن ذلك تغيير في نظرة الفلسفة الى وجود الله فإذا كان ما قبل السقراطيين يؤمنون بتعدد الآلهة على غرار ديونوزوس وأبولون وزوس ويدرجوها ضمن تصورات أسطورية فإن أرسطو في كتاب الميتافيزيقا يتحدث عن الله في المفرد لا في الجمع ويعرفه وفق ثلاثة صيغ ملغزة: محرك أول يحرك بقية الكائنات وهو لا يتحرك، العقل الذي يعقل ذاته، الحركة الخالصة. بهذا المعنى تم نفي الطابع المشخص للألوهية الذي كان موجودا في معظم التصورات الإغريقية الخرافية ولم يعد الله شخصا ولا يملك أي خاصية أخلاقية ولم تعد له قدرة خلاقة للكون وبقي له دور تنظيمي.
لقد أبقى أرسطو لله وظيفة كوسمولوجية بحيث يمثل الضرورة الفكرية وأساس السببية الطبيعية وأصل حركة الأشياء والعلة الأولى ومصدر التناغم والانسجام والنظام في الكون والمعشوق الأول للكائنات.
من جهة ثانية قدم أرسطو فكرة عن عالمين ينتميان إلى حقيقة فيزيائية واحدة ويوجد الأول فوق القمر وتكون حركة الأجسام فيه دائرية وكاملة وترمز الى الأبدية بينما ينتمي العالم الثاني إلى ما تحت القمر وتتحرك الأجسام الأرضية بصورة اضطرارية بالدفع أو الجذب في وضع ناقص باحثة عن كمال أول وفق مسارات متنوعة وتكون من الأسفل إلى الأعلى أو العكس ومن اليمين إلى الشمال أو العكس.
لقد كان أرسطو قد ميز بين أربعة أنواع من الحركة: الأولى هي العلة الغائية وتتمثل في اكتمال مشروع التمثال ، الثانية هي العلة المادة وتتمثل في المادة التي صنع منها التمثال، والثالثة هي العلة الفاعلة وتتمثل في يد النحات التي قامت بصنع التمثال، والرابعة هي العلة الصورة ويمثل في الشكل.
تمثل العلة الفاعلة ، في التصور العادي، العلة الحقيقية لإحداث الشيء أو الفعل وتظل العلل الأخرى مجرد ظروف محيطة وشروط محددة ووضعيات معينة تحدث فيها الأشياء وتقع الأحداث والأفعال.
بيد أن أرسطو يخالف الموقف المعتاد ويعتبر العلة الغائية هي الأكثر أهمية بينما يطلق تسمية الأسباب على العلة المادية والعلة الصورية ويبرر ذلك بأن السبب هو الذي يمنح الشيء وجوده ويتيح معرفته.
اللافت للنظر أن التصور الأرسطي للعالم يندرج ضمن نظرية السطوح التي صاغها أيدوكس والتي جعلت الكون متشكلا من مركز هو الأرض ومن مجموعة من السطوح الصغيرة التي تدور حولها.
لقد أخذ أرسطو كذلك عن بارمنيدس وأفلاطون نموذج الكون المسطح الذي يتضمن جملة من الأبعاد والعناصر والأحجام التي تكون صورة العالم من جهة كليته وكماله وتناهيه وأبديته وانغلاقه وتساوقه.
بناء على ذلك كان لأرسطو السبق في تشييد علم جديد اصطلح على تسميته فيما بعد بالميتافيزيقا ولقد تراوح معناها بين الفلسفة الأولى التي تدرس الوجود من حيث هو موجود وبالتالي الأنطولوجيا التي تهتم بمعرفة الماهيات والجواهر و مابعد الطبيعة تماشيا مع ما كان أندرونيكوس الروديسي قد قام به عندما وضعها في ترتيب المباحث بعد الفيزياء وجعلها تعني العلم الذي يدرس حقائق الوجود الواحد.
بهذا المعنى يفيد لفظmeta ما بعد الطبيعة وما وراء الظواهر وما فوق المحسوس ولقد عني هذا التقدم المجال الزمني والبعد المكاني والنظام المنطقي واقتصر في النهاية على الله والروح والعالم.
لقد أشار أرسطو إلى أن طبيعة الفلسفة من حيث الأصل الذي تنبع منه هي دهشة النظر في الوجود ونقد نظرية المثل الأفلاطونية التي تستمد موضوعيتها من قسمة الموجودات إلى المحسوس والمعقول واعتبر الشيء الحسي هو صورة الموجود الواقعي وأقر بالمحايثة بين الفكرة الحقيقية والشيء المادي. ولقد تعامل مع الفلسفة الأولى من حيث هي معالجة ليس للوجود كماهو وإنما للوجود بما هو موجود وللوجود بصفة عامة ، ويتضمن هذا المبحث أيضا مبادئ الاستدلال التي تتحكم في كل فكر إنساني وتتمثل في مبدأ عم التناقض الذي يقر باستحالة تضمين محمول إلى نفس الموضوع ونفيه في ذات الوقت وضمن نفس العلاقة ، ومبدأ الثالث المرفوع الذي يؤكد على أن قضيتين متناقضتين تكون واحة منهما صائبة وتكون القضية الثانية كاذبة ، ومبدأ الهوية الذي يقر باستمرارية تطابق الشيء مع نفسه.
بعد ذلك قام أرسطو بالتمييز بين ثلاثة أنماط من الأنفس تماشيا مع ما يوجد في الطبيعة من النباتات والحيوانات والبشر وأوضح أن النفس النباتية حساسة والنفس الحيوانية محركة والنفس العاقلة مدركة.
إذا كانت النفس النباتية تسمح للكائن الحي بالتغذي والنمو والتكاثر وإذا كانت النفس الحيوانية أهم منها لأنها تسمح بالحركة والتنقل والتأقلم مع الظروف فإن النفس العاقلة أكثر أهمية بالنظر إلى أنها تسمح للكائن البشري بالتفكير والمعرفة وتمنحه الإحساس بالكرامة والحرية والكلام والوعي بالكمال.
إذا كان النموذج الرياضي يهيمن على فلسفة أفلاطون ويمنح المثل صور تامة التشكل ويجعلها حقائق أبدية ويمنح الكيانات العقلية أسبقية وجودية ويطلب من الكيانات الحسية محاكاتها والتشبه بها على قدر استطاعتها فإن النموذج العلمي المهيمن على فلسفة الحياة عند أرسطو هو النموذج البيولوجي الذي يجعل الصورة نتيجة تكوين معرفي وإدراك تجريبي للواقع الخارجي ويعطي قيمة للبعد المادي.
هكذا يميز أرسطو بين العضو والأداة ويرى أن العضو لا يصبح عضوا إلا إذا استكمل وظيفته على أحسن وجه وأن اليد البشرية تختلف عن اليد الصناعية من حيث صورتها وحركتها وفاعليتها وغايتها وينتبه إلى أن الجسم هو أكثر كلية من الكل وأنه يتفوق على عدد العناصر التي يتكون منها مجتمعة وبالتالي يفرق بين الكل والمجموع الذي يتكون من عدة عناصر مجموعة مع بعضها البعض فحسب.
بطبيعة الحال يضع أرسطو الكل الطبيعي في مرتبة متقدمة على الكل الاصطناعي وذلك للتداخل والاندماج في العناصر التي يتكون منها في حين يمكن إنقاص أو زيادة عنصر في تكوين الثاني. وتجدر الإشارة إلى أن الفن الكلاسيكي عند الإغريق يرى أن الثر الفني لا يكون جميلا إلا إذا شكل كلا تاما ولذلك ظل الفن رهين الطبيعة ضمن نظرية المحاكاة وظل الكل الطبيعي مرجعا أولا للجمال، في حين تم معاملة الآثار اللاّمكتملة والناقصة والمبتورة والمشوهة بوصفها غير جملية وغير لائقة.
غاية مراد الحكمة النظرية عند أرسطو هي نفي وجود اللانهائي على المستوى البيولجي والفيزيائي والاستطيقي وذلك بالنظر إلى أن اللانهائي مترامي الأطراف وهوته متسعة بينما النهائي تام ومكتمل.
لكن ماهي تبعات الحكمة النظرية في المجال التطبيقي؟ وكيف أسس أرسطو الحكمة من حيث الفعل؟
2-الحكمة العملية:
لقد أمن أرسطو بأن الإنسان في حياته لا يرغب إلا في أن يكون سعيدا وبالتالي كان تفكيره الأخلاقي منصبا على تحصيل هذه الغايةّ، ولكن اذا كان جميع الناس يرغبون في السعادة فإنهم اختلفوا حول الوسائل التي يمكن إتباعها من اجل بلوغ هذا المطلب، فالبعض طالب بالمواطنة الفاعلة في المدينة، بينما البعض الأخر اعتقد في الحياة المنعزلة عن الناس والتمتع بالملذات الجسمانية، من جهة ثالثة حذر فريق آخر من الاستغراق في تجرد التصوف أو طلب منافع مادية تدور حول راحة الجسم لما تجلبه من ضرر وشقاء.
لقد رفض أرسطو النظرة المثالية الزهدية عند أفلاطون التي تحصر السعادة في الغبطة النفسانية ولقد قادته نظرته الواقعية إلى التفكير في أخلاق الممكن بالانطلاق من الرغبة في السعادة من حيث هي مطلب كوني تجمع بين هدوء النفس وسلامة الجسم وتربط اللذة بالحركة وتشترط إتباع الفضيلة لتحصيل السعادة.
على أثر ذلك طرح أرسطو في كتبه الأخلاقية الصريحة إيتيقا الحد الأوسط التي تعترض على أخلاق القداسة وتعتمد فضيلة التعقل والحذر قصد إصابة الحد الأوسط في كل مسألة دون إفراط أو تفريط والتي تتفادى الزيادة أو النقصان وتكتفي بالضروري والمطلوب واللازم والمتاح والممكن والطبيعي والمعقول.
من هذا المنطلق يعتبر أرسطو الفضيلة وسط بين رذيلتين، فالشجاعة هي فضيلة تتوسط رذيلة أولى هي التهور الذي ينتج عن الإفراط والزيادة في الثقة ورذيلة ثانية هي الجبن الذي ينتج عن التفريط في القوة.
اللافت للنظر أن الحد الأوسط ليس موقفا ضعيفا ولا يسير إلى تعليق الحكم كما الشأن عند الريبيين وإنما يمثل الحكمة العملية بامتياز ويتطلب دراية بالظروف وإحاطة بالكليات والجزئيات وقدرة على التصميم.
يبرهن أرسطو على ذلك بقوله: " أن عصفور واحد لا يصنع الربيع" ويشير بذلك إلى أن فضيلة واحدة بتمتع بها المرء لا تجعل منه متخلقا وكائنا فاضلا على الدوام بل يجب أن يكون الخير صادرا عن تعقله.
من أجل أن يستدل أيضا على ضرورة الفضيلة وحقيقة الخير في الاجتماع البشري في جميع الأحوال يضرب أرسطو مثال عن خضوع عصابة من السراق الى مبدأ عدالة تقسيم المسروق على الأعضاء.
بيد أن معنى العدالة يختلف عن معنى المساواة، ولذلك يميز أرسطو بين المساواة العددية الكمية التي تعترض أن يحصل الجميع على نفس الحصة والمساواة الهندسية التناسبية التي تقر بحصول كل واحد على حصة تناسب وظيفته واستحقاقه ، وبعد ذلك بكثير صارت العدالة الجزائية تفيد المساواة المطلقة وأصبحت العدالة التوزيعية تعني المساواة النسبية أي الإنصاف من حيث هو حق وليس وفق القانون.
على هذا الأساس يتضمن النسق القيمي للحياة الاجتماعية عدد كبير من الفضائل التي تتعارض فيما بينها وتطرح على المرء العديد من الإحراجات ولذلك يلجأ إلى المداولة والتروي والاختيار التفضيلي للأحسن.
على خلاف أفلاطون الذي افترض وحدة الجميل والحسن والنافع والحقيقي ضمن إطار أحدية مثال الخير الأسمى يسجل أرسطو التعارض الممكن بين الفضائل المختلفة وخاصة عندما يكون المال النافع أحد منابع الخسائر والأضرار وعندما يتحول الكاذب والزائف والوهمي في المحاكاة إلى مصدر لتشكيل الجميل. فإذا كان أفلاطون مبدئيا بجعله الخير الأسمى أساس الحياة الأخلاقية ومصدر الأفعال الحسنة فإن أرسطو اتخذ خيارا استتباعيا وأسند صفة الخير إلى الأفعال التي ترنو إلى السعادة في غاياتها وتتجنب الضرر والشقاء.
من هذا المنظور ربط أرسطو بين الخلاق والسياسة من خلال فضيلة المحبة وأضاف إليها مبدأ الصداقة وكانت النتيجة هي اعتماد أخلاق المحبة وسياسة الصداقة وفي شأن آخر أخلاق الصداقة وسياسة المحبة.
من المعلوم أن أرسطو لا يمنح مشاعر الحب أي قيمة في فلسفته ولا يترك لها أي مكان في نسقه القيمي ولكن المحبة كانت حاضرة بقوة على اعتبار أنها فضيلة شاملة وقيمة أخلاقية وسياسية في ذات الوقت. ويبرر ذلك بأن المحبة تسمح للمرء بالتقيد بالفضائل المرادفة على غرار الحلم والطيبة والتآخي والبر والتواضع والنصيحة والتعارف وتشكل فرصة للجود ومناسبة من أجل البذل وتقوى من تلاحم الاجتماع وتشيد أرضية مشتركة يتقاسمها الناس المتساوون والأحرار وتترجم نجاح التواصل البشري بامتياز. لكن ماهو النظام السياسي الأمثل عند أرسطو؟ هل هو المدينة الدولة الإغريقية أم الحكم السياسي الفاضل؟
لقد عُدَّ أرسطو في المجال السياسي فيلسوف الحد الأوسط، ولقد كان على خلاف مع أفلاطون الذي ظل يعتقد بوجود نظام سياسي أفضل يوضع في مرتبة عليا بالمقارنة مع أنظمة سياسية أخرى اعتبرها فاسدة. لقد انطلق أرسطو من أنظمة سياسية متعددة هي الأرستقراطية والملكية والجمهورية الدستورية وحاول أن يصوغ نظاما سياسيا مختلطا يتفادى به السلبيات والرذائل التي رآها فيها ومبقيا على ايجابياتها وفضائلها.
إذا كان رذيلة الطغيان هي فساد الديمقراطية بسيطرة الأقلية على الأغلبية وإذا كانت رذيلة حكم الفوضى هو فساد الأرستقراطية باكتساح ثقافة العامة مجالس الخاصة فإن رذيلة الديمقراطية هي فساد الجمهورية بالاحتكام إلى الرأي العام بدل اعتماد العلم اليقيني ووضع ممثلي السكان بالاقتراع بدل تكليف الأكفاء.
غني عن البيان أن معيار التمييز بين الشكل الخالص للحكم والشكل الفاسد هو مكانة المصلحة العامة بالمقارنة مع المصلحة الخاصة ، فإذا هيمنت المصلحة العامة يتحقق الشكل الخالص للحكم السياسي سواء في الملكية أو في الأرستقراطية أو في الجمهورية وإذا هيمنت المصلحة الخاصة يظهر منها الشكل الفاسد للحكم السياسي سواء في الطغيان أو في حكم الفوضى أو في الديمقراطية التي تعجز عن التعبير عن الكل.
لقد انتبه أرسطو إلى أن الحشد، حيث يعجز كل عضو أن يكون إنسانا فاضلا ، بواسطة اتحاد الكل، يمكن عندئذ أن يصير في مقام أحسن من النخبة منطلقا من المدنية الطبيعية للبشر والحاجة الغريزية للتعاون، ولكنه اشترط حضور الوازع من أجل حثهم على طاعة القوانين طالما أنهم ليسوا آلهة ولا معظمهم بلهاء.
بهذا المعنى يكون الإنسان حسب أرسطو كائنا اجتماعيا بالطبع وإذا اختار الحياة بمفرده ولعيدا عن الناس فإنه يترجم عجزه عن الحياة مع الآخرين ويفشل في تلبية حاجياته ويفقد إنسانيته وينحط إلى مرتبة الأبله.
لقد عاصر أرسطو الحقبة التاريخية التي عرفت سقوط المدينة الإغريقية وتلاشيها ولكنه ظل على مستوى الإطار الفكري متعلقا ومتأثرا بالمناخ السياسي الذي شهدته أثينا في مستوى ازدهارها وتطورها المدني.
لقد راهن على أن الإنسان الأثيني لن يصير مواطنا صالحا ولن يحقق ذاته ويبلغ غايته إلا ضمن الوجود الاجتماعي وعندما يتحول إلى عنصر فاعل في المدينة ويبلغ السعادة عن طريق اكتسابه لدرجة الحرية.
هذا التصور الفلسفي السياسي دفع به إلى مواجهة تلميذه الأسكندر المقدوني الذي تخطى مستوى المدينة التي تُنظمها عدة قوانين تُجمَعُ في دستور وقام بغزو العالم ساعيا إلى بناء إمبراطورية عن طريق القوة.
لكن كيف يمكن الإفلات من اللاّتجانس بين الوطنية عند أرسطو والنزعة الكوسموبولوتية لدى الإسكندر؟
لقد ارتكب أرسطو العديد من الأخطاء السياسية أبرزها تبرير العبودية وموافقته على الاستعمار اليوناني للبلدان المجاورة والتوسع في المجال البحري المتوسطي عن طريق الآلة العسكرية وشن الحرب عليها.
لقد كان أرسطو عصريا في المجال السياسي ولكنه ظل يتبني نزعة محافظة في المجال الاجتماعي ولقد تصور العلاقة الضرورية بين الحكام والمحكومين على منوال العلاقة الهرمية التي تتم بين الأسياد والعبيد وكان يذم العمل العضلي للعبيد ويعلي من شأن العمل الذهني مصرحا بأن الآلات لو اشتغلت لوحدها لكف الاحتياج إلى العبيد وقد تبنى رؤية مادية للتاريخ تؤمن بأن العبودية قدر مع بقاء أدوات الإنتاج على حالها.
إذا كان أفلاطون قد سبق غيره في الحديث عن مواضيع ذات صبغة اقتصادية وعرضها ضمن مشاكل فلسفية في مشاريع مثالية حالمة فإن أرسطو كان أول المنظرين للعملة ضمن النشاط الاقتصادي وأقر بوظيفتها القانونية التعديلية للنشاطات المالية ضمن عمليات التبادل والتوزيع للمنافع والخيرات المادية. لقد قام أرسطو على خلاف أفلاطون بوضع العملة من حيث وسيط بين البائع والمشتري في المعاملات التجارية وعمل على تسويغ الثراء من خلال تحقيق الكثير من الأرباح وتفادي الوقوع في الخسائر.
بطبيعة الحال قام بمدح الغنى وما يجلبه من سعادة للمرء وما يدفعه إلى الحصول على الفضائل وفي المقابل عمل على تحقير الفقر وما يسببه من شقاء وتعاسة وبؤس وما ينعكس عليه من رذائل ومفاسد.
بيد أن أرسطو بقي يتحرك ضمن دائرة أخلاقوية في حكمه على القيم المادية ونصح بأن يبقى المال مجرد وسيلة ورفض تحويله إلى غاية في حد ذاته وانتبه باكرا إلى الفرق بين القيمة الاستعمالية والقيمة التبادلية.
3-الحكمة الذوقية:
إذا كان أفلاطون في مجال القيمة الفنية عمل على إدانة نظرية المحاكاة ومحاصرة المقلدين لما تفضي إليه من تشويه للطبيعة وابتعاد عن الحقيقة وانتبه إلى أن المحاكاة تشتغل على المظاهر وتهمل الوقائع الحقيقية فإن أرسطو في كتاب افن الشعر أمسك عن نعت الشعراء بالكذب وبرر المحاكاة من خلال تأكيده على أهمية التمثيل في الاقتراب من الظواهر الواقعية ومعرفتها والتحكم فيها وإعادة تشكيلها وإعادة إنتاجها.
لقد برهن على أطروحته من خلال نموذج التراجيديا في المسرح التي تتماشى مع القدرة على التقليد باعتبارها موهبة طبيعية تجعل جميع الناس يميلون إلى المحاكاة بحكم الغريزة مثل بقية الكائنات الحية ويستخدمون آلية التمثيل من اجل التحكم في الانفعالات وتسكين الأهواء والتطهير من مشاعر الخوف والكراهية والحزن وتقوية مشاعر المحبة والشفقة والفرح وتغليب الرغبة في الحياة على نازع الفناء.
لقد قدم أرسطو نقدا منهجيا للمسرحيات والنصوص الأدبية من خلال تركيزه على ثلاثة وحدات تتحكم في وصف تقنيات الإنتاج الفني لهذه المؤلفات وتتمثل في وحدة في الزمان ووحدة في المكان ووحدة في الفعل.
من ناحية أخرى ترك أرسطو نظرية في الزمان فيها الكثير من المفارقات وحيرت العقول وذلك حينما ربطها بالحركة بالنسبة للأشياء في الكون وبحدس اللحظة بالنسبة إلى شعور النفس بتدفق نهر الديمومة.
إذا كانت الفلسفة الإغريقية تفتقد إلى مباحث فكرية مستقلة وخاصة بظاهرة اللغة بالرغم من نعت بعض من السوفسطائيين بعشاق الكلام وعلى الرغم من دراسة بعض الفلاسفة طبيعة اللسان وأصوله وعلاقته بالحق والخير والجمال والنافع وجعلهم النطق ميزة إنسانية جديرة بأن ترفع الكائنات البشرية إلى مرتبة العاقلية فإن أرسطو هو الفيلسوف الأول الذي صاغ قواعد من أجل فن الخطاب ووضع شروط الإقناع وألف كتاب الخطابة من أجل قيس القدرة التي يمتلكها المرء من أجل السيطرة على الغير بالاعتماد على الكلام وأول من اعترف بوجود صلة بين الخطابة والجدل ودحض المزاعم التي رددها السفسطائيون.
لقد أعطى باعث المعهد في النظام التعليمي لفن الخطابة استقلالية كانت غائبة عند أفلاطون واهتم بالحجج المنطقية التي تسمح بإنتاج خطاب إقناعي وفتح باب هذا الفن ليس على المختصين فحسب بل على الجميع.
والحق أنه توجد أربع حجج من أجل البرهنة على منفعة هذا الفن وتتمثل الأولى في إمكانية خدمة الخطابة للحق والعادل، والثانية تكشف أنه ليس علكا دقيقا بشكل تام بل معرفة مقنعة بالنسبة لعدد كبير من الناس. أما الحجة الثالثة فتشير إلى كون فن الخطابة قادر على الدفاع على الدحض التام للمتخاصمين الضالين وعلى البرهنة على وجهات نظر متعارضة ومواقف متناقضة وليس انحيازا لدعوى والابتعاد عن أخرى. في حين أن الحجة الرابعة تكمن في حقيقة أن الخطابة هي وسيلة سلمية للدفاع بالأساليب المدنية والنافعة وتمسك عن استعمال القوة بصورة مفرطة وتخلو من كل مظاهر العنف والكذب والأساليب الهمجية.
علاوة على الإقناع حسب أرسطو يتحقق وفق ثلاثة طرق هي التداولي والبياني والقضائي ويضع ثقته في المشاهد المتقبل من حيث هو يؤسس معيارا رئيسيا من أجل البت في القضايا الشائكة والتمييز بين الأنواع.
بهذا المعنى يفترض أن يراعي الحكم الحالة المستقبلية للمعني بالأمر في القضية المثارة وأن يتضمن القرار مجال لممارسة التروي وفرصة قصد القيام بالاختيار التفضيلي بين احتمالات على أحسن وجه.
إن وظائف ومقاصد الأنواع الكلامية متميزة عن بعضها البعض، فإذا كان النوع التداولي يؤدي وظيفة هو الترغيب والترهيب وتكون غايته إظهار النافع والضار وإذا كانت وظيفة النوع البياني هو المدح والذم وغايته إظهار الحسن والقبح فإن وظيفة النوع القضائي هي الدفاع والاتهام وغايته إظهار العادل والجور.
اللافت للنظر أن أرسطو يتحدث هاهنا عن منهج تعقلي مشترك يرجعه إلى أنماط متميزة من الإقناع ويسمي النوع الأول الحجاج المتعقل ويربط النوع الثاني بطبع الخطيب والنوع الثالث بحالة المتقبل.
لا يتعلق الأمر هنا بالاستدلال الاستنتاجي الذي يبني قياسا على أوليات يقينية وإنما يدور التعقل حول مقدمات ظنية ومنطلقات احتمالية وقضايا تقريبية تحتاج إلى تأييد المتقبلين من أجل تصير أحكام معقولة.
من هذا المنطلق أمكن لأرسطو التطرق إلى الحجاج الخطابي بدل القياس البرهاني والتثبت التجريبي، وواضح تأثير طبع والأحوال النفسية للمتقبل في مسار الحجاج ونتائجه ودور العوامل الذاتية في القرار وأهمية المعرفة التي يمتلكها الخطيب عن السامعين من أجل استمالتهم والتأثير فيه وتوجيههم إلى مراده.
لقد أحصى أرسطو أربعة عشر من الانفعالات المتعارضة التي تخرج النفس من الهدوء الى الاضطراب وتتمثل في المحبة والكراهية، والغضب والكياسة، والخشية والضمان ، واشترط على الخطيب أن يجيد استعمال هذه الانفعالات من أجل تحويل الحكم وينطلق من قناعات المتقبل وأحكامه المسبقة بغية إقناعه. لهذا أليس المطلوب من الخطيب أن يظهر بمظهر لائق وأن تكون سمعته أخلاقية حسنة لكي يقنع الناس؟
خاتمة:
لقد بقي أرسطو إلى جانب أفلاطون وسقراط من كثر المفكرين تأثيرا في العالم ومن الفلاسفة القلائل الذين تناولوا مختلف ميادين المعرفة في زمانه حينما اهتم بالبيولوجيا والفيزياء والميتافيزيقا والمنطق والرياضيات وفن الشعر والخطابة والسياسة والاقتصاد ولما جعل من الفلسفة تتساءل عن العالم وتبحث عن المعرفة من أجل المعرفة وليس من أجل منفعة أخرى وتنتج نظرة موسوعية عميقة وعلم العلوم.
لقد تضمنت المعرفة الفسلفية عنده ثلاثة ميادين هي العلم النظري أو التأملي الذي يمثل استعمالا حسنا للعقل في تفسير الطبيعة وتحليل الواقع ومواكبة العصر ويجمع بين الفلسفة الأولى من حيث هي ميتافزيقا وفلسفة الطبيعة التي تتضمن الفيزياء والرياضيات، والعلم العملي الذي يصوب نظره بشكل مباشر نحو الفعل ويمارس الالتزام وينخرط في البراكسيس من أجل التغيير في الميدان الأخلاقي والسياسي، أما العلم الإنشائي فهو يغطي مجالات يكثر فيها استعمال اللغة من أجل التأثير والإقناع وخاصة الخطابة والشعر.
لا يعتبر أرسطو المنطق علما وإنما آلة تسمح للعلوم الأخرى بأن تعي ذاتها وتراجع مكوناتها وتجدد نفسها ولذلك عمل أرسطو على عرضه في صورة أورغانون أو منهج يتكون من مبحثين هما القياس والمقولات.
من جهة أخرى يبدو مفهوم الطبيعة مقولة هامة في فلسفة أرسطو وتحتل مكانة بارزة وذلك لكون الأشياء المادية تمتلك في حد ذاتها مبدأ حركتها وبذلك تحوز على جملة من الماهيات وعدد من الطبائع الجوهرية.
هذه الحقيقة تسمح للفيزياء بأن تختص في دراسة الحركات الطبيعية التي تتسبب فيها المبادئ الخاصة بالمادة وتتيح للميتافيزيقا أن تهتم بالماوراء وتنظر إلى الله من حيث هو المحرك الأول الذي يمنح الحركة للأشياء في العالم دون أن يقوم هو نفسه بحركة ودون أن تؤثر حركة الكائنات الأخرى على كماله الذاتي.
من الناحية العملية يتميز الكائن البشري عن بقية الكائنات الحية بامتلاكه النفس الناطقة التي تمنحه قدرة إدراكية على التمييز وطاقة ذهنية على التعقل والفهم واستطاعة وجدانية يسيطر بها على الأهواء ويتحرر.
في نفس السياق تتمحور الحياة الإنسانية حول مبدأ الفضيلة ويرى أرسطو أنها تتحقق من خلال بلوغ توازن بين حدين فيهما زيادة أو نقصان و يعتبر الإنسان المتعقل هو الذي يجد شجاعة في إصابة الحد الأوسط بين التفريط في القوة عن طريق الخوف والإفراط في استعماله من خلال ارتكاب أعمال عنيفة.
لقد غطى مفهوم الحكمة العملية مختلف الأفعال التي يسعى بها الإنسان إلى بلوغ سعادته وتوجهت أنشطة المرء على الصعيد الأخلاقي والسياسي والاقتصادي نحو الخير الأسمى من أجل تحقيق خيرات جزئية ولكنها وجدت في مفهوم الفيليا من حيث هو محبة أو من جهة كونه صداقة قاعدة إيتيقية هامة للتصافي.
مهما يكن الأمر بالنسبة لفلسفة أرسطو فإن الفضل يعود له بإحداث ثلاثة حواضن ثقافية أساسية ظلت تقوم بأدوار تربوية وفنية وعلمية تتمثل في بناء المعهد والمكتبة والمتحف بدل الأكاديمية والمعبد والملعب. بعد ذلك قام أرسطو بوضع المعرفة على ذمة السلطة وقرب العقل من ميدان الحكم وأشركه في تدبير الشأن لمدينة ونزل الحكمة النظرية ضمن الممارسة العملية وزاوج ميدان التشكيل اللغوي بالمهارة الصناعية.
بهذا المعنى لا يلقى الفيلسوف الكبير تألقا في عصره فحسب وإنما معنى أثره يظل راهنا دون انقطاع على مر العصور الموالية ويبقى فكره موضوع للنقاش والنقد ومحل تحليل وتأويل بصورة غير قابلة للاكتمال.
المصادر والمراجع:
Aristote, œuvres complètes, sous la -dir-ection de Pierre Pellegrin, édition Flammarion, Paris, 2014

كاتب فلسفي