ماركس: -الدين أفيون الشعوب-! 2


طلال الربيعي
الحوار المتمدن - العدد: 5611 - 2017 / 8 / 16 - 06:50
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

وفي حين كان الأفيون دواء هاما في أوروبا في منتصف القرن التاسع عشر، إلا أنه لم يكن دواء بدون مشاكله الاجتماعية. اثنتان من هذه تبرز على وجه الخصوص. الأولى هي قلق بخصوص نقاء الأفيون في السوق وفي "الصيدليات" المنزلية. والثانية هي القلق بشأن اعطاء الافيون للاطفال. وكان الأفيون المغشوش مصدر قلق مشترك خلال معظم القرن التاسع عشر، لأنه يؤدي إلى جرعات غير منتظمة جدا، والأفيون المغشوش للغاية لن يكون فعالا. في حاشية رأس المال: المجلد 1، يكتب ماركس:
"من خلال تقارير اللجنة البرلمانية الأخيرة بشأن غش مواد العيش، سوف نرى أن الغش حتى في الأدوية هو القاعدة، وليس الاستثناء في انكلترا. على سبيل المثال، أظهر فحص 34 عينة من الأفيون التي تم شراؤها من العديد من الكيميائيين في لندن أن 31 غشت برؤس الخشخاش، طحين القمح, الصمغ، الطين والرمل. والعديد منها لم يحتوي حتى على ذرة مورفين" (1:601).

موقع النص في خضم قسم "حول سوء الحالة الغذائية للطبقة العاملة" امر مهم. وبالنظر إلى النزعة السائدة في المجتمع الرأسمالي لاستخدام كل الوسائل المتاحة في السعي لتحقيق الربح، كان التجار من البرجوازية الصغيرة يغشون المرضى في الأدوية التي يحتاجون إليها بشدة. وفي القرن التاسع عشر، كانت الأدوية القائمة على الأفيون تستخدم عادة للأطفال، وكانت هناك العديد من العلامات التجارية التي يتم تسويقها خصيصا لاستخدام الأطفال. وهناك قائمة جزئية جدا من تلك التي تباع في انكلترا تشمل غودفري كورديال، دالبي كارمينيتيف، إليكسير دافي، حاضنة الرضع أتكينسون، والسيدة وينسلو المهدئة سيروب، سلوي للرضع, والهدوء في الشوارع. وبخصوص ازدياد وفيات الاطفال, يكتب ماركس في المجلد الأول من رأس المال:
". . . فإن ارتفاع معدلات الوفيات، عدا الأسباب المحلية، يرجع أساسا إلى تشغيل الأمهات بعيدا عن ديارهن، وإلى الإهمال وسوء المعاملة، نتيجة لعدم وجودهن، ومن بين أمور أخرى، عدم كفاية التغذية، والغذاء غير المناسب، وجرعات المواد الأفيونية" (1:398).

في حين أن هذا المقطع يستند في المقام الأول إلى تقرير حكومي من عام 1861، فقد كتب إنجلز عن تعاطي المخدرات في حالة "الطبقة العاملة في انكلترا (1845)، وقد بدأ ينظر إليه على أنه مشكلة اجتماعية ابتداء من ثلاثينيات القرن التاسع عشر. وخلافا للعديد من الإصلاحيين الليبراليين، لا يلقي ماركس وإنجلز اللوم على "الأمهات السيئات" أو جهل الطبقة العاملة في تعاطيها المنشطات. فأولا، أدى انخفاض مستوى المعيشة بين الطبقات العاملة إلى ضرورة أن تعمل المرأة في المصانع، وترك أطفالها في المنزل، أو في رعاية جليسة الأطفال او المربية. وقد ذاعت اخبار بخصوص استخدام مربيات الطبقة العاملة للادوية المهدئة للاطفال القائمة على الأفيون للحفاظ على العديد من الأطفال في رعايتهن بحالة هادئة للتقليل من جهدهن في رعايتهن لهم. وثانيا، في حين كان ماركس يشعر بالقلق إزاء غش الأفيون من أجل تحقيق الربح، قال إنجلز أيضا إن الصيادلة الذين يحركهم الربح يشجعون الاستخدام غير الملائم للمواد الأفيونية للأطفال - مرة أخرى من أجل تحقيق الربح. وبالإضافة إلى الاستخدامات والتجاوزات الهامة للأفيون كدواء في القرن التاسع عشر، كان للأفيون أهمية اقتصادية وسياسية وثقافية أوسع. وكان الأفيون سلعة بالغة الأهمية، لا سيما بالنسبة للإمبراطورية البريطانية، فضلا عن كونه سبب لحرب الأفيون. وأخيرا، كان لهذا علاقة هامة بالحياة الثقافية والفكرية - ولا سيما على النحو الذي تم إثباته من خلال حياة وعمل الشعراء الرومانسيين. فبالنسبة للإمبراطورية البريطانية، على سبيل المثال، كان تداول الأفيون مشروعا مربحا للغاية، مما ولد سابع الإيرادات الإجمالية للحكومة البريطانية الهندية. ومن الأمور الحاسمة جدا أن الجيش البريطاني خاض حربي الأفيون ضد الحكومة الصينية من أجل الدفاع عن هذه الايرادات. اندلعت الحرب الأولى في عام 1839 وانتهت بمعاهدة نانكينغ في عام 1842، وهو العام الذي سبق قول ماركس "أفيون الشعوب". الحرب الثانية كانت بين عامي 1856 و 1860؛ ومع ذلك، فإن العديد من الناس (بما في ذلك ماركس) قد توقع ذلك قبل عدة سنوات. كانت كتابات ماركس (و إنجلز) حول تجارة الأفيون وحروب الأفيون خلال خمسينيات القرن التاسع عشر، وكلها ظهرت في صحيفة نيويورك ديلي تريبيون، تتعلق أساسا بالأفيون كمثال للإمبريالية الاقتصادية.

كان الصراع البريطاني الصيني يسمى "حرب الأفيون" في جميع أنحاء أوروبا، وكذلك في كتابات ماركس وإنجلز. حتى أن كلمة "الأفيون" في العام التالي لانتهاء الحرب الأفيونية الأولى كان بمثابة استحضار لصور من الصراع الاجتماعي الهائل. في عام 1853، ذهب ماركس إلى حد القول بأن الاستخدام المتزايد للأفيون في الصين كان السبب الرئيسي للحرب المناهضة للإمبريالية الناشئة. ولكن لم تفت ماركس المفارقة عندما كتب أن "مناسبة هذا الصراع لا شك قد تم منحها من قبل القذائف الإنجليزية مما اضطر الصين ألى تعاطي المخدر المسمى الأفيون".

لم يكن الأفيون تعبيرا مجازيا فقط, وھو ما ی--------شی--------ر إلی-------- وجود جماعات معارضة، وخطابات معارضة حول التجارة. وفي الصين، يشير ماركس إلى أن استخدام الأفيون وتجارته كانا بمثابة "بدعة" من ناحية قانونية، مما يعني ضمنا أن استخدام الأفيون كان معارضا لأسباب دينية، كما كانت التجارة نفسها في إنجلترا. وكان الأفيون أيضا يستخدم في الترفيه, مثل الأثير المخدِِر من قبل ويليام جيمس (فيلسوف وطبيب ومؤسس علم النفس)، والحشيش من قبل الفيلسوفين والتر بنيامين وإرنست بلوخ، وال LDS في الستينيات من القرن الماضي، حيث قدم الأفيون لمحة عن "واقع آخر" للمثقفين والفنانين والشعراء في منتصف القرن التاسع عشر (كما في حالة بعض مغني البوب او الركَي في عالمنا المعاصر, مثلا). المعاني المرتبطة بهذه الرؤى عممت بشكل شائع في القرن التاسع عشر وكان من الصعب تجاهلها. وكانت بارزة بشكل خاص في رؤى الرومانسية الإنجليزية التى كان روادها يستخدمون أيضا الأفيون بشكل واسع: دي كوينسي، كولريدج، شيلي، وبايرون. كانت عادات استخدام الأفيون للاوليين معروفة بشكل خاص، وبينما ناقش ماركس في العديد من الأماكن كتابات دي كوينسي الاقتصادية، كان دي كوينسي De Quincey, معروفا في جميع أنحاء أوروبا كمؤلف كتاب السيرة الذاتية، اعترافات أكل الأفيون الإنجليزي, Confessions of an English Opium-Eater (2).

ومن الجدير بالذكر بوجه خاص أن الشعر المستوحى من الأفيون هو رؤية "اللامكان-ازالة الشعور بالمكان بتأثير الافيون" في الوقت نفسه ك "مكان جيد" بسبب تحرير الافيون او المخدر للشاعر من القيود الفيزيائية-فسيولوجية التي يمليها عليه واقعه وجسمه واحداث هلوسة او اوهام تسمح له برؤية الواقع كمصدر ابداع، كما في "يوتوبيا" الشاعر توماس مور. ويصف أبرامز، في دراسته الهامة لشعراء الأفيون ان:"هذه الأرض الرائعة ليست هي الظلال المظلمة للحلم العادي، بل هي تقريبا حقيقة حية مثل التجربة الفعلية" (3:5). ومن المسلم به أن رؤى "رومانسيي الأفيون" غالبا ما تكون غامضة، وهي ليست سوى رؤى جزئية ل "مكان جيد". كوليردج كوبلا خان Kubla Khan تحتوي على صور من الدمار والفوضى والحرب، وبعض رؤى دي كوينسي، وخاصة في الجزء الثاني من اعترافات هي مؤرقة بشكل إيجابي. فهي لا تزال غير متطورة، أو رؤى طوباوية غير كاملة.

وكان للأفيون تاريخ معقد في القرن التاسع عشر، ومع ذلك، عندما يواجه، في أوائل القران الحادي والعشرين, القراء بمفهوم"الأفيون"، ُيقرأ ذلك بطريقة مباشرة، بحرفية، (وبسلبية بشكل موحد) الذي هو امر غريب
في زمن ماركس. وبعبارة أخرى، نقرأ الأفيون على أنه التفكير في عالم بعد أن أصبح فيه التجنيد المتعمد ضد استخدام الأفيون أمرا طبيعيا. من خلال رسم موازاة بين الدين والأفيون، يلمح ماركس إلى كل الدلالات في منتصف القرن التاسع عشر التي كانت تستحوذ على قراءة الأفيون. ولذلك ينبغي أن تتعامل مع ماركس (4) بنفس تعقيد وتضارب هذا الاستعارة.
يتبع
-------
اهم المصادر
1. Marx, Karl. 1967. Capital: A Critique of Political Economy, vol. 1. trans. Samuel Moore and Edward Aveling. New York: International Publishers
2. De Quincey, Thomas. 1956 [1821]. “Confessions of An English Opium Eater: Original version.” In Confessions of An English Opium Eater, edited by Malcolm Elwin. London: McDonald
3. Abrams, M. H. 1971 [1934]. The Milk of Paradise: The Effect of Opium Visions on the Works of De Quincey, Crabbe, Francis, Thompson, and Coleridge. New York: Octag
4. A Contribution to the Critique of Hegel’s Philosophy of Right
Introduction
https://www.marxists.org/archive/marx/works/1843/critique-hpr/intro.htm