هل سيشعل ترَمْب حرباً نووية ؟ 2-3


حسين علوان حسين
الحوار المتمدن - العدد: 5604 - 2017 / 8 / 9 - 21:23
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

النظام السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية
يمكن توصيف النظام السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية بأنه حكم أوليغارشية النخبة الرأسمالية المهيمنة على الادارات الأمريكية المتعاقبة و ذلك بالضد من مصالح السواد الأعظم من المواطنين الأمريكيين العاديين ، بل و حتى ضد مصالح كل التكتلات البشرية الكبيرة (مثل نقابات العمال و المزارعين) غير الرأسمالية التي ليس لها مطلقاً أي كلمة في قرارات السلطة . و بكلمة أخرى ، فإنه حتى عندما تقف غالبية المواطنين ضد السياسات الاقتصادية الخادمة لمصالح النخبة الرأسمالية الأمريكية ، فأنها تخرج من معاركها السياسية خاسرة على الدوام ، و آخر مثال ساطع على ذلك هو انهيار حركة "احتلوا وول ستريت" التقدمية بعد الأزمة الرأسمالية عام 2008 . هذه الاوليغارشية استطاعت طوال قرن و نصف من الزمان اتقان "لعبة الديمقراطية القذرة" السائدة في الولايات المتحدة أحسن الإتقان و على نحو مستدام بفضل تكريسها لاحتكار الحزبين الديمقراطي-الجمهوري المطلق للحكم . و هذا يعني فرض الأمر الواقع المطلوب رأسمالياً على الميدان السياسي بغض النظر عما إذا كان الجمهوريون أم الديمقراطيون هم المسيطرين على البيت الابيض و الكونغرس ، و ذلك لسبب بسيط و هو أن هذه النخبة الرأسمالية الأوليغارشية تمسك بعناني الحزبين معا في لجام واحد بفضل تبرعاتها المالية السخية لهما في آن واحد . ففي انتخابات عام (2014)، بلغت تبرعات نخبة هؤلاء الرأسماليين – ممن لا يشكلون غير عُشُر الواحد بالمائة من السكان – نسبة (30%) من مجموع التبرعات للحزبين مجتمعين ! من الواضح أن هذه النخبة تتحوط لمستقبلها بكل جد و نشاط و تحسب و أريحية ، فتستثمر في كلا الحزبين بنفس الوقت كي تضمن دوام مصالحها بغض النظر عن الفائز منهما . و بالطبع ، فإن القادة السياسيين يستجيبون دوماً لمصالح المتبرعين الكبار بالأموال لهم ، و ليس لمصالح مجتمعهم الانتخابي ، لتتحول الحملات الانتخابية إلى مجرد استعراض لذر الرماد على عيون بسطاء المواطنين بغية حجب هوية المشترين الحقيقيين للقوى السياسية . فبدون الدعم المالي للشركات العملاقة ، لا يستطيع أي سياسي أمريكي أن يفوز لا بعضوية الكونغرس و لا بالرئاسة ؛ حيث كلفت انتخابات عام (2012) ما مجموعه (2.6) بليون دولار للحملة الرئاسية ، و (3.6) بليون دولار لحملات عضوية الكونغرس ؛ في حين كلفت الحملة الرئاسية لعام (2016) ما مجموعه (2.4) بليون دولار ، و حملات عضوية الكونغرس (4.05) بليون دولار ، و الفقير له الله ! ليس هذا فحسب ، بل أن حتى قرارات أعلى سلطة قضائية في الولايات المتحدة الأمريكية – و هي المحكمة العليا – مجيرة لصالح أقطاب رأس المال ، حيث أفتت عام (2010) ، في قضية : (Citizens United v. Federal Election Commission) بأحقية الشركات المتعدية الجنسية غير الأمريكية - مثل شركتي الأدوية البريطانيتين (GlaxoSmithKline) و (AstraZeneca) و العملاق البلجيكي (Anheuser-Busch InBev) و السويسري (Credit Suisse Securities) - أن تتبرع عبر فروعها في أمريكا للحملات الانتخابية الأمريكية ، فأعطتها بذلك صفة الموطن الأمريكي المقيم . بمثل هذه القوة القضائية يتكلم رأس المال العالمي في الولايات المتحدة الأمريكية . كل هذا يؤكد صحة مقولة أن غالبية النخب السياسية الأمريكية – باستثناءات نادرة جداً – قد بلغت تلك الدرجة من التعفن التي تجعل تسنم كرسي الرئاسة من طرف رئيس أقل سوءاً من المجرم " أل كابون” معجزة ربانية ، بكل حق و حقيق ! هذه هي الحقيقة الناصعة لدكتاتورية رأس المال التي تحدث عنها ماركس و إنجلز بأسطع الكلمات منذ ما يزيد على قرن و نصف القرن .

رذائل ترمب
خلال حملته الانتخابية ، حرص ترمب كل الحرص المتعمد على تجاوز أبسط قواعد اللياقة و السلوك القويم ، و بانت واضحة للجميع أكاذيبه و عنصريته و تسلطيته المقيتة من خلال مهاجمته المنهجية للصحافة الجادة و للمواطنين الأمريكان من غير الأصول الأوربية ، بل و حتى مهاجمته دائرة الانتخابات الأمريكية نفسها الذي اتهمها بالتزوير علناً قبل اجراء الانتخابات بشهر قائلاً بما معناه : "إما أن أكون أنا الفائز فتكون الانتخابات غير مزورة ، أو إذا لم أفز فأن الانتخابات مزورة " ! هنا ، الفاصل بين التزوير و عدم التزوير يصبح ليس أثبات حصول هذا التزوير بالأدلة من عدمه ، بل هو فوز ترمب من عدمه ! اي أن وزارة الداخلية الأمريكية تبقى مدانة مقدماً من طرف هذا الترمب بتزويرها للانتخابات الرئاسية ، و صك براءتها الوحيد هو فوز الصنم الكلي القدرة ترمب نفسه ! و رغم كل ذلك ، فإن تعفن النظام السياسي الأمريكي سمح له بالحصول على غالبية أصوات الكلية الانتخابية (304 صوت لصالحه ، إزاء 227 صوت لصالح كلنتن) ، في حين حصلت منافسته هِلَري كلِنتن على حوالي مليونين و ثمانمائة ألف صوت أكثر منه . و من أسباب فوزه توجيهه المبرمج لكل دعايته الانتخابية لدغدغة مشاعر الطبقة الوسطى الأمريكية المهددة بالانقراض بسبب التدهور الإقتصادي المتواصل طوال عقدين ؛ كما دغدغ مشاعر الأمريكان البيض الرافضين للتعددية الثقافية ، و ادعى الدفاع عن مصالح العمال و المزارعين المهددين بفقد أشغالهم بسبب العمالة الرخيصة للمهاجرين الجدد ، و لأنه كان الأدهى في استخدام برمجيات الانترنت للدعاية الموجهة شخصياً للناخبين واحداً واحداً عبر استغلال قواعد بياناتهم الشخصية المسروقة من الفيس بوك و معرفة ما يعجبهم و مالا يعجبهم .
تسلطية ترمب
يتبع ترمب على طول الخط السياسة التسلطية على كل شيء و في كل شيء ؛ سواء في هجومه على السلطة القضائية الرافضة لقيمه الديماغوجية المنافية لأبسط قواعد الدستور و حقوق الانسان ؛ أو على وسائل الإعلام الجادة (سي أن أن ، الواشنطن بوست ، النيويورك تايمز ، إلخ) بفرية بثها للأخبار الكاذبة (fake news) ، و اتخاذ هذه الفرية كبوليصة تأمين لتمرير تسلطاته و حماقاته و الغائه للأعراف السياسية ؛ و في خدمته لمصالحه الخاصة و مصالح التنانين الرأسمالية التي تسنده لتثبيت سلطته السياسية باي ثمن كان . لذا ، تجده يستهل عهده بطرد كل مسؤول حكومي يمكن أن يفضح أكاذيبه (مثل رئيس الأف بي أي المطرود "جيمس كومي" الذي أنكر علم جهازه بتجسس إدارة أوباما على ترمب خلال فترة حملته الرئاسية عكسما كذب ترمب بذلك على التويتر) ، أو يشك بولائه ، مثلما حصل في طرده لسالي ييتس ، نائب المدعي العام ، و كذلك المدعي للولايات المتحدة "بريت بهارارا". كما ضرب عرض الحائط قانون الكونغرس الأمريكي بصدد عدم جواز استغلال الرئيس لمنصبه في تعيين أقاربه في البيت الأبيض أو في الترويج لمصالحه الخاصة كرجل أعمال . كما روَّج داخلياً لسيادة مجموعة ثقافات اجتماعية جديدة مكرسة لخدمة مصالحة الشخصية الأنانية : ثقافة الأمريكي الأبيض ضد الأمريكي الملون ، مهدداً وحدة البلد بالاستقطاب العرقي . هنا عرض الرجل الواحد الذي لا يقبل بالولاء لغير مصالحه الشخصية و لنفسه تحت كل الظروف يجعل غالبية أتباعه يصرحون علناً بأنهم غير قلقين من أكاذيبه المفضوحة . لدينا هنا الخلق اليومي المبرمج لثقافة اجتماعية جديدة لا تقبل فقط بالدجل و الانتهازية السياسية ، بل أنها تحبذهما . و لكن الأخطر من هذا كله هو دابه على إعادة خلق ثقافة الخطر الخارجي الموهوم ضد أمريكا و الموجب لفرض العقوبات و التلويح المضاد بالحرب : تارة التهديد الإسلامي ، و أخرى التهديد الصيني ، و أخيراً التهديد الكوري الشمالي ؛ و هو يمالئ الديمقراطيين بصدد التهديد الروسي الموهوم ضد أمريكا ، كي ينأى بنفسه عنه .

فضاضته
الرئيس ترمب مشهور بفضاضاته السلوكية و الكلامية الجمة المشفوعة بالإيماءات السريالية في حركة اليدين ، نتيجة لفشله الدائم – حتى بعد أن بلغ أرذل العمر – في استيعاب أدنى أصول و أعراف التعامل اللائق مع الغير ، سواء الأمريكان منهم ، أم الأجانب . ففي حملته الانتخابية ، لم يتورع عن رمي كل منافسيه بأقذع الطعون و البذاءات ، بل و لقد استمر في غيه هذا لحد الآن بعد فوزه بالرئاسة ، خصوصاً ضد أوباما و آل كلنتن . ليس هذا فحسب ، بل انه دائم الهجوم من منصة "تويتر" و المحطات الفضائية حتى ضد موظفيه في البيت الأبيض و الإدارة الأمريكية أنفسهم - سأعود إلى هذا الموضوع . ثم رأيناه جميعاً على شاشات الفضائيات العالمية و هو يحاول شبك كفه بكف البابا "فرانسز" بالفاتيكان أثناء وقوفهما معاً أمام المصورين ، قبل أن يضربه الأخير خفية على كفه يوم 24 /5/ 2017 مثلما يفعل الكبار في زجر و تأديب حماقات "الزعاطيط" الوقحين ؛ كما رأيناه هو يدفع جانباً رئيس وزراء جمهورية الجبل الأسود (مونتينيغرو) "دوشكو ماركوفج" بغية تصدر الجمع في اجتماع قادة حلف الأطلسي ببروكسل بعد ذلك مباشرة بيوم واحد لا أكثر ، وووو إلخ . كل هذه التسلكات جعلت العالم كله يَنام و يُصبح على فضائح ترمب : أضحوكة العالم أجمع و المادة الخام للبرامج الترفيهية و نشرات الأخبار و صحافة التابلوهات و عبارات الاستهجان السياسي ؛ و لكن المشكلة الحقيقة هي أن هذه الأضحوكة مدججة بأفتك أنواع أسلحة الدمار الشامل التي عرفها تاريخ البشر على سطح هذا الكوكب ، و هي من الانحطاط بحيث لا تتورع قيد شعرة عن استخدامها خدمة لأغراضها الشخصية ، بغض النظر عن نتائجها الكارثية .
إتصاله الهاتفي مع الرئيس المكسيكي و رئيس الوزراء الأسترالي
إستناداً إلى تقرير الواشنطن بوست ، أجرى ترمب بتاريخ 27 من شهر كانون الثاني 2017 – أي بعد سبعة ايام فقط من تسنمه كرسي الرئاسة – اتصالاً هاتفيا مع الرئيس المكسيكي "إنريك بينيا نيتو" ؛ و كان محور الحديث هو التجارة المتبادلة و الهجرة . ثم انتقل الكلام بينهما إلى موضوع بناء جدار العزل العنصري الذي طالب ترمب بإقامته على الحدود بين البلدين تيمناً منه بجدار الفصل العنصري للكيان الصهيوني . في هذه النقطة ، أصر ترمب على قيام المكسيك بدفع تكاليف إقامة هذا الجدار ، رغم أن الرئيس المكسيكي كان قد أعلن على الملأ رفض بلاده تكبد مثل هذه التكاليف في قضية لا ناقة لبلاده فيها و لا جمل . قال له ترمب و هو يناديه باسمه الاول بالحرف الواحد : " أنت لا تستطيع أن تتفوه بذلك (أي التصريح العلني برفض بلادك دفع تكاليف إقامة جدار العزل) للصحافة لكون الصحافة ستؤيد قولك هذا ، و أنا لا أستطيع أن أعيش مع هذه الحالة ! أنت لا تستطيع أن تقول ذلك للصحافة لأنني لا أستطيع التفاوض تحت هذه الظروف !" لاحظوا هنا المظاهر الكلامية للتسلطية الخانقة في نواهي ترمب للرئيس نيتو ! و لم ينس ترمب التبجح مراراً و تكراراً في تلك المكالمة بكونه قد فاز بالانتخابات الرئاسية ، كما لو كان هذه الموضوع خبراً جديداً يود الإعلان عنه و كان الرئيس المكسيكي مسؤولاً عن تبعاته ! كما أبلغ الرئيس المكسيكي بكونه قد فاز بأصوات المواطنين الامريكان الناطقين بالإسبانية في ولاية نيوهامبشير بسبب وعوده لهم بمحاربة الاتجار بالمخدرات ، و أطلق على أهل تلك الولاية الامريكية وصف : (drug-infested den) ؛ أي "الوكر الموبوء بالمخدرات " ! مثل هذه الفضاضة الفجة غير مسبوقة في المحافل الدبلوماسية الغربية ؛ حيث لم يعرف التاريخ الأمريكي رئيساً يسمح لنفسه أن يهين أمام رئيس دولة أخرى مواطنيه أنفسهم القاطنين في ولاية أمريكية كاملة بمثل هذه الإهانة التي تعكس مدى احتقاره للذين انتخبوه أنفسهم ، و كل ذلك يحصل بلا أدنى موجب و لا مسوغ !
و بنفس ذلك اليوم ، أجرى ترمب مكالمة هاتفية أخرى مع رئيس الوزراء الأسترالي "مالكلم تيرنبول" ، حيث تطرق إلى الاتفاقية الموقعة بين حكومة الولايات المتحدة الأمريكية في عهد أوباما و الحكومة الاسترالية و القاضية بقبول (1250) لاجئ آسيوي محصور هناك ، قائلاً له بأن تنفيذه لتلك الاتفاقية سيعرضه للانتقاد السياسي في ضوء وعوده الانتخابية المناوئة للمهاجرين ! "يا ولد ، إن ذلك (أي الالتزام بتنفيذ الاتفاقية الثنائية) سيجعلنا نبدو سيئين جداً ، حيث طالبت هنا بفرض الحضر و عدم قبول أي شخص ، ثم نقبل 2000 شخص" ، يقول ترمب لرئيس الوزراء الأسترالي ! لاحظوا هنا أن ترمب ينادي رئيس الوزراء الأسترالي بـ "الولد" ، في حين أنه يستخدم صيغة الجمع (نحن) للإشارة إلى نفسه ؛ و يصعِّد الرقم (1250) إلى (2000) لاجئ على طريقته في تضخيم الأمور الصغيرة و فشله في استذكار واجباته البيتية على نحو صحيح ! ليس هذا فحسب ، بل أن فضاضة ترمب لم تمنعه من غلق السماعة بعدئذ فجأة على رئيس الوزراء الأسترالي ! إنه رئيس إمبريالي سافر السفالة ، "بايع و مخلص" !
السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو : "كيف تسربت تفاصيل هاتين المكالمتين للصحافة ؟ هذا الموضوع يؤشر إلى فشل إداري رهيب لترمب في ادارة شؤون البيت الأبيض مثلما سأبين في الحلقة الأخيرة القادمة .

يتبع ، لطفاً .