مفهوم المركز والهامش : نظرة نقدية..


تاج السر عثمان
الحوار المتمدن - العدد: 5603 - 2017 / 8 / 7 - 11:30
المحور: القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير     


1- المركز والهامش : المفهوم والمصطلح :-
على مستوى الفكر الاقتصادي برز مصطلح المركز والهامش كمفهوم لنظرية تعمل على تفسير التخلف , وتعتمد على فكرة وحدة الاقتصاد العالمي الذي يتكون من الدول الرأسمالية المتقدمة التي تمثل مركز هذا الاقتصاد والدول المتخلفة “ما يسمى دول العالم الثالث أو الدول النامية ...الخ” والتي تكون هامش أو محيط هذا الاقتصاد .
إن تقدم القوى الإنتاجية للمركز وتخلفها في الهامش مكن ويمكن الدول المتقدمة من استغلال الدول المتخلفة , كما مكنها من السيطرة على تطور الهامش بما يناسب مصالح وتطور المركز , وهكذا نجد البلدان الهامشية نفسها في علاقات استغلال وتبعية كلما تعاملت مع دول المركز مباشرة أو من خلال السوق الرأسمالية العالمية , ووحدة النظام لا تنفي التناقض والتباين داخله , كما تؤكد النظرية” راجع كريستيان باولو: الاقتصاد الرأسمالي العالمي , ترجمة عادل المهدي – دار ابن خلدون , 1978م” .
-أشار بروفيسور مصطفى حسن بادي “كلية الطب – جامعة الخرطوم”بصحيفة الرأي العام" بتاريخ 16/5/2003م إلى التهميش بقوله : “التهميش كمفهوم سياسي اجتماعي علينا أن نفهمه جيدا ونتعرف على أسبابه وكيفية معالجته حتى نتمكن من دفع التطور الديمقراطي في السودان في الاتجاه الصحيح وحتى لا نعود إلى المربع الأول لممارسات الماضي , إذا لم يستطع المواطنون الاستمتاع بكل العوامل والظروف التي تمكنهم من الإدراك والفهم والمعرفة الواضحة والمشاركة الفعالة والمؤثرة في جميع شئون حياتهم , فهم مهمشون ولا يغير من شانهم إذا كان هذا التهميش باختيارهم أو كان مفروضاً عليهم”.
وهذه نقطة جيدة تصلح أساسا لدراسة التهميش ومعرفة أسبابه وكيفية معالجته حتى نتمكن من دفع التطور الديمقراطي في السودان في الاتجاه الصحيح .
كما أصبح مصطلح “المناطق المهمشة” متداولا في السياسة السودانية منذ بيان الحركة الشعبية” المانفستو “ الصادر بتاريخ31/7/1983م حيث حددت المناطق المهمشة بأنها كل السودان ماعدا وسطه “ مديرية الخرطوم ومديرية النيل الأزرق” حيث توجد العاصمة ومشروع الجزيرة , كما حمّل البيان الاستعمار البريطاني مسئولية تهميش تلك المناطق ، ثم حّمل المسئولية من بعد الاستعمار لما أطلق عليه “أنظمة شُلل الأقلية” في الوسط بداية من العام 1956م .
كما أشار البيان إلى الحل الجذري الذي يتبنى مفهوم السودان الموحد باتجاه اشتراكي وحل ديمقراطي لكل القضايا القومية والدينية .
وللتأكيد على هذا النهج الوطني أدان “المانفستو” الحركات الانفصالية في جنوب وغرب وشرق السودان باعتبار أنها ستقود إلى تفتيت السودان مع النص على أن الضرورة فقط هي التي أملت قيام الحركة في جنوب السودان . إلا أنها تستهدف تحرير السودان كله .
مصطلح المركز والهامش مضلل لأنه في مركز العالم الرأسمالي نفسه وعلى مستوى كل دولة يوجد استقطاب طبقي حاد مثال : في أمريكا 1% من السكان يستحوذون على 40% من الثروة ، وأغلبية مهمشة من عاملين بأجر يتعرضون للاستغلال الرأسمالي وتستحوذ الطبقات الرأسمالية أو الشركات المتعددة الجنسيات على فائض القيمة منهم , إضافة للمهمشين من العطالة والمهمشين من الأقليات والنساء .
وفي دول الهامش أو الدول المتخلفة هناك استقطاب طبقي حاد , حيث تستحوذ أقلية على الثروة والسلطة وتعيش الأغلبية في فقر مدقع “ على سبيل المثال في السودان 5% يستحوذون على 88% من الثروة”.
كما أن الحديث عن مناطق مهمشة في السودان مضلل أيضا إذ نجد في المناطق المهمشة فئات لها مصالح مع القوى الحاكمة في المركز تتكون من بعض الزعامات القبلية والإدارة الأهلية وأصحاب المشاريع وملاك الثروة الحيوانية , بينما الأغلبية في المناطق المهمشة تعيش في فقر مدقع والتي تتكون من فقراء المزارعين والرعاة .
إذن من المهم الفرز والتحليل الطبقي في كل حالة والصراع ضد كل أشكال الاضطهاد الطبقي والاثني والقومي والعنصري والجنسي .
جوهر الصراع إذن طبقي ويتجلي الصراع الطبقي في مختلف الميادين الاقتصادية والسياسية والثقافية.
2- تطور فكر الحزب الشيوعي السوداني حول المناطق المهمشة:

كان اهتمام الجبهة المعادية للاستعمار باكراً بالمناطق المهمشة أو التجمعات القبلية القومية الأكثر تخلفا .
جاء في بيان الجبهة المعادية للاستعمار عن موقفها من قضية الجنوب بصحيفة الصراحة –العدد رقم 422 بتاريخ 28/9/1954م مما يلي :-
-ترى الجبهة أن حل مشكلة الجنوب يتم على الأساس التالي : تطور التجمعات القومية في الجنوب نحو الحكم المحلي أو الذاتي في نطاق وحدة السودان .
-
يواصل البيان ويقول :
ونحن حينما نقدم هذا المبدأ لحل مشكلة الجنوب نقر بان الوضع الحالي للقوميات في الجنوب ليس مدروسا لدينا ولا لدى غيرنا في العاصمة، وان دراسته تقتضي الذهاب إلى هناك أو تجي هي من هناك، ولكنا نرى أن هذا المبدأ الوحيد وبطبيعته يعتمد على الظروف ، فإذا كانت ظروف قومية واحدة أو عدة قوميات في الجنوب ورغبة أهلها تقتضي قيام حكم محلي أو ذاتي فلهم الحق في ذلك ، كذلك نقر انه ليست لدينا وجهة نظر محددة عن الموقف بين القوميات السودانية الأخرى في الشمال والشرق ، إلا انه مما يظهر لا توجد مشكلة حالية بالنسبة لها . ولكن من ناحية المبدأ لا ننكر انه إذا جاء وقت ولو كان بعد الاستقلال بفترة طويلة واقتضت ظروف هذه القوميات نوعا معينا من الحكم الداخلي فيجب إن ينفذ (راجع اليسار السوداني في عشرة أعوام ، إعداد محمد سليمان ، ص60-62) .
كما أشارت وثيقة حول البرنامج آخر كتابات الشهيد عبد الخالق محجوب إلى :-
((توحيد الوطن على أسس ديمقراطية وذلك بتنمية إمكانيات وثقافات التجمعات القومية المتخلفة في حرية وبلا إرهاب أو ضغوط)) ، ص 74.
وفي السبعينيات من القرن الماضي واصل الحزب الشيوعي اهتمامه بالمناطق المهمشة أو القطاع التقليدي وصدرت وثائق مثل :-
أ- " الثورة الوطنية الديمقراطية والقطاع التقليدي ، 1976م" التي لخصت تجارب الحزب في القطاع التقليدي ودور المعلمين والأطباء والممرضين وعمال السكة الحديد والخدمات وغيرهم في نشر الوعي في تلك المناطق ، كما لخصت تجارب الحزب في تنظيمات اتحاد جبال النوبة والتنظيمات والروابط القبلية التي برزت بعد ثورة أكتوبر 1964م مثل جبهة أبناء دارفور واتحاد جنوب وشمال الفونج كما أشارت الوثيقة إلى المتغيرات في القطاع التقليدي بسبب هجمة الرأسمالية المايوية عليه والتوسع العشوائي في الزراعة الآلية وآثار ذلك على الغطاء النباتي والبيئة وتدمير حياة المواطنين في ذلك القطاع وضيق المراعي الذي أدى إلى الاحتكاكات والصدامات القبلية والنزوح إلى المدن .
ب. صدرت وثيقة بعنوان "الحزب الشيوعي وقضية الجنوب، 1977م" تابعت فيه تطور موقف الحزب من المنظور السلمي الديمقراطي للمشكلة ، وأفاق الوضع بعد اتفاقية أديس أبابا التي وقعت في مارس 1972م .
ج. صدرت وثيقة في سلسلة كاتب الشونة بعنوان "الماركسية ومسالة اللغة في السودان 1977م " تناولت قضية هامة تتعلق بالمناطق المهمشة ، وهي تنمية ثقافاتها ولغاتها المحلية في إطار تنوع وثراء الثقافة السودانية
* اشرنا سابقا إلى أن الحزب الشيوعي كان أول من أشار إلى ضرورة الاعتراف بالفوارق الثقافية والعرقية بين الشمال والجنوب وتطور التجمعات القومية في الجنوب نحو الحكم المحلي أو الذاتي في نطاق وحدة السودان ، ولم يكتف الحزب الشيوعي بذلك الطرح المتقدم وحده وتكراره ، بل دعمه بالتركيز على القضايا الاجتماعية التي كان فيها قهر وتمييز عنصري أو اثني ضد الجنوبيين مثل :-
-المطالبة بالأجر المتساوي للعمل المتساوي بين العاملين الشماليين والجنوبيين .
-الاهتمام بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية وتوسيع التعليم والعلاج والخدمات في الجنوب .
-إلغاء ضريبة الدقنية .
-إلغاء قانون المناطق المقفولة الذي كان من الأسباب التي عرقلت التطور المتوازن بين الشمال والجنوب .
-إلغاء نشاط المستثمرين الأجانب المرتبطين بالتجسس وتأجيج الخلافات العرقية بين الشمال والجنوب .
-وحدة الحركة النقابية في الشمال والجنوب
-عدم فرض اللغة العربية والدين الإسلامي بالقهر وترك ذلك للتطور والتلاقح الطبيعي .
-استبعاد الحل العسكري وضرورة الحل السلمي الديمقراطي والعض على وحدة السودان بالنواجذ .
-أثناء تمرد 1955م دعي الحزب الشيوعي لمعالجة الموضوع بالحكمة والصبر بدلا من الاتجاهات الداعية للعنف والانتقام .
واصل الحزب الشيوعي تأكيد تلك المواقف في مؤتمره الثالث في فبراير 1956م , ومقاومة سياسة ديكتاتورية الفريق عبود لفرض الحل العسكري واللغة العربية والاسلمة القسرية، وفي مؤتمر المائدة المستديرة (1965) وخطاب عبد الخالق محجوب في المؤتمر.
وفي برنامجه الصادر 1967م أكد الحزب الشيوعي الارتباط الذي لا ينفصم بين الحكم الذاتي الإقليمي وسائر المهام الوطنية والديمقراطية للثورة السودانية , وكذلك في مناقشات الشهيد جوزيف قرنق للمثقفين الجنوبيين الداعين للانفصال في كتيبة "مأزق المثقف الجنوبي" وفي بيان 9 يونيو 1969م كما طرح الحزب الشيوعي دستور ديمقراطي وجمهورية برلمانية في مواجهة دعاة الديكتاتورية باسم الإسلام والجمهورية الرئاسية عام 1968م والتي كانت تهدد وحدة البلاد .
على إن من الايجابيات في مواقف الحزب الشيوعي انه في معالجته لمشكلة الجنوب في تلك السنوات الباكرة من الخمسينيات من القرن الماضي ، لم ينطلق فقط من نصوص ماركس وانجلز ولينين حول تقرير المصير ، بل انطلق من واقع السودان ، والاتجاه العام الداعم للوحدة بعد مؤتمر جوبا1947م ، وكان ذلك تناولا بذهن مفتوح وتوصل لصيغة الحكم الذاتي الإقليمي في إطار السودان الموحد .
وحتى بعد أن تعقد الوضع واشتعال نيران الحرب بعد انقلاب يونيو 1989م ، طرح الحزب الشيوعي السوداني عام 1994م، شعار تقرير المصير كحق ديمقراطي إنساني ، وان يتم دعم خيار الوحدة الطوعية وتوفير المناخ الديمقراطي الصحي لممارسة حق تقرير المصير.
وبعد ثورة أكتوبر 1964م برزت تنظيمات أبناء المناطق المهمشة أو المناطق الأكثر تخلفا مثل : جبهة نهضة دارفور ، اتحاد جنوب وشمال الفونج ، واتحاد أبناء جبال النوبة ، وقبل ذلك مؤتمر البجا الذي أسهم الشيوعيون في تأسيسه في اكتوبر عام 1958 .
وفي وجه الدعاوى التي كانت تصف تلك التنظيمات بالعنصرية رحب الحزب الشيوعي بتلك التنظيمات بل شارك أعضاؤه في تلك التنظيمات باعتبارها مراكز إشعاع لوعي أبناء تلك المناطق بقضاياهم واحتياجاتهم في التنمية والتعليم والصحة وتوفير خدمات المياه والكهرباء والعناية البيطرية للماشية...الخ.
ووصف عبد الخالق محجوب تلك التنظيمات بأنها حركت المياه الراكدة في تلك المناطق ، كما أسهمت في استيقاظ دوائر واسعة من أبناء تلك المناطق للوعي بمصالحهم.
كما شارك الحزب الشيوعي في الروابط القبلية في المدن التي كانت تهدف لخدمة مناطقها وتوفير احتياجاتها الأساسية ، ولعبت تلك التنظيمات دورا في تطوير مناطقها وقراها إلى أن تم حلها بعد انقلاب 25 مايو 1969م .

وحول الهوية والثقافة أشارت الوثيقة التي قدمها الحزب للمؤتمر الدستوري 1989م إلى أن (الهوية الحضارية لشعبنا هوية سودانية ، تجمع في تكامل بين الوحدة والتنوع ، وتتأسس على واقع تعدد الثقافات والقوميات في بلادنا الذي يمكن بل ويجب أن يكون مصدر خصب وثراء لثقافاتنا السودانية , لا سببا في صراعات دامية مريرة) .(الوثيقة : ص52 - 57)
وقد تناول التقرير السياسي المجاز في المؤتمر السادس بتفصيل في باب المسألة القومية موقف الحزب من قضايا المناطق المهمشة ، وتجربة إنفصال الجنوب بعد إتفاقية نيفاشا.
خاتمة:
هكذا كان هناك الاهتمام بالمناطق المهمشة في أدبيات وبرامج الحزب الشيوعي السوداني.
ونلاحظ أن الحزب الشيوعي لم يختزل القضية في تضاد بين المركز والهامش ، ولم يتناول قضايا المناطق المهمشة فقط علي المستوي الاقتصادي، بل تناول الجانب المكمل والذي يتعلق بالجانب الاجتماعي والثقافي والاثني والتاريخي، وطرح ضرورة الاعتراف بالتنوع والفوارق الثقافية والاثنية والدينية، وحرية الضمير والمعتقد، وحق المجموعات القومية الأقل تخلفا في استخدام لغاتها المحلية في التعليم. إضافة للتمييز الايجابي للنساء وابناء المناطق المهمشة، وتوفيرإحتياجات الناس الأساسية في التنمية المتوازنة وفي التعليم والصحة والخدمات، والتداول الديمقراطي للسلطة.