من وحي ترجماتي للقرآن 6: الآيات الناقصة


سامي الذيب
الحوار المتمدن - العدد: 5603 - 2017 / 8 / 6 - 12:27
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

هناك حديث عَنْ عَائِشَةَ أنها قَالَتْ: لَقَدْ نَزَلَتْ آيَةُ الرَّجْمِ، وَرَضَاعَةُ الْكَبِيرِ عَشْرًا، وَلَقَدْ كَانَ فِي صَحِيفَةٍ تَحْتَ سَرِيرِي، فَلَمَّا مَاتَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَتَشَاغَلْنَا بِمَوْتِهِ، دَخَلَ دَاجِنٌ فَأَكَلَهَا.
ولن ندخل في صحة أو ضعف هذا الحديث:
- فالفقهاء عامة متفقون على الرجم جاء في آية نسخ لفظها وبقي حكمها. أي بالعربي الفصيح طارت. كيف طارت غير مهم. ونصها قبل الطيران: الشيخ ‏والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة، ‏نكالاً من الله، والله عزيز حكيم (انظر هذه الفتوى https://goo.gl/4KFgPf).
- والفقهاء عامة متفقون على تحريم الزواج بالرضاعة على أساس آية اخرى نسخ لفظها وبقي حكمها. أي بالعربي الفصيح طارت هي أيضا. كيف طارت مش مهم. وتذكر فتوى أساس هذا التحريم قول عائشة: كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ، ثم نسخن بخمس معلومات ، فتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وهنّ مما يتلى من القرآن (انظر هذه الفتوى https://goo.gl/6zLcEc)
.
لن ندخل هنا في الآيات أو سور القرآن التي اختفت من القرآن لسبب أو آخر وفقا للمصادر السنية والشيعية. ويمكن تقدير ما اختفى من القرآن بقرابة نصف القرآن وفقا للمصادر السنية، وثلثي القرآن وفقا للمصادر الشيعية. وقد فصلت ذلك في مقدمة طبعتي العربية للقرآن. وهذا الأمر ليس من المشاكل التي تهم المترجم. فهو لا يستطيع ترجمة نص لم يعد في القرآن وفقا للرواية التي يعتمد عليها في ترجمته.وهو يطبق هنا المقولة: ما فات مات، وعفا الله عمّا سلف.
.
ولكن هناك مشكلة اخرى لا تقل تعقيدا بالنسبة للمترجم: نقص عناصر بعض الآيات، وهو ما حاول المفسرون مداراته من خلال نظرية الحذف والتقدير. ونشير هنا إلى أن عٌشر آيات القرآن ينقصها بعض عناصرها، مما يجعل فهمها صعبا، إن لم يكن مستحيلا، دون اضافة عناصر لها في التفسير. واكثر التفاسير عناية بهذا الأمر قد يكون تفسير ابن عاشور التحرير والتنوير. وعند وقوعه على نقص احد عناصر الآية لآسباب مختلفة (وهو عامة خطأ لغوي)، يشير المفسر إلى وجود حذف في النص ويقوم بتقديره. وعامة لا يتفق المفسرون على كيفية تكميل النص القرآني الناقص. ونجد نفس الأمر عند المترجمين. فكل منهم يقدر المحذوف حسب ذمته، خاصة انه لا توجد طبعة عربية رسمية محققة تحل هذه المشكلة. وكان من واجب ناشري القرآن إضافة اقواس بهذا الشكل [...] للإشارة إلى تلك النواقص، ثم وضع التقدير في الهوامش. ولكن هذا الأمر لا نجده في أي من طبعات القرآن بإستثناء
- طبعتي العربية للقرآن حيث وضعت علامة [...] لأبين وجود ذلك النقص مع تكملته في الهامش معتمدا على المفسرين المعتبرين سنة وشيعة،
- وكتاب محمد عابد الجابري في ثلاث مجلدات المعنون فهم القرآن الحكيم: التفسير الواضح حسب ترتيب النزول، الذي أضاف مباشرة النص الناقص مع بعض التفسير بين قوسين في النص القرآني. وهذا الحل غير موفق لأنه يعتمد فقط على تقديره هو، وليس على تقدير المفسرين المعتمدين. وهو لا يكتفي بإضافة النواقص ولكن يضع تفسير مختصر لها. ولذلك لا يمكن اعتبار طبعة الجابري نصا محققا، بل مفسرا.
.
وقد اعتمدت في طبعتي العربية للقرآن على مصادر مختلفة لتحديد المحاذيف والمقدرات في القرآن، أهمها
- كتاب السيوطي: «الإتقان في علوم القرآن»
- وتفسير ابن عاشور: «التحرير والتنوير»
- ومقال محمد لعجال: «ظاهرة الحذف البلاغي في القرآن الكريم»
- وكتاب علي عبد الفتاح محيي الشمري: «دلالة الاكتفاء في الجملة القرآنية».
وهذا المصدر الأخير يرفض استعمال مصطلح «حذف» الذي لا يليق بالقرآن، ويفضل عليه مصطلح «اكتفاء»، وهو في الواقع استبدال كلمة سلبية بكلمة إيجابية توصل إلى نفس النتيجة، إلا أن هذا المؤلف يشكك في كل ما اعتبر محذوفًا في القرآن ويبرره. فهو يقول:
أنَّ مصطلحَ الحذفِ كما عُرِف عند النحويين، لا يتناسبُ مطلقًا مع القرآنِ الكريم، فالقرآنُ كلامُ الله تعالى الذي «لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ» (61-41: 42)، وسيغيرُ «أحسن الحديث» (59-39: 23)، فهذا المصطلحُ يُشعِرُ بالطَّرْح . لا يُمكن – تحت أيِّ عنوان كان – أنْ يكونَ لنا شأنٌ – ونحن مخلوقون – أو تدخلٌ في الحكم على كلامه تعالى من جهةِ القولِ بحذفِ شيءٍ منه، أو أنَّ فيه زيادةً يمكن طرحُها مع بقاءِ المعنى سليمًا . إنَّ المعاني القرآنيةَ ساميةٌ متكاملةٌ لأنها «مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ» (48-27: 6) لا يعتَوِرُها نقصٌ. فالنصُّ القرآنيُّ بألفاظِه المذكورةِ دالٌّ على المُرادِ بِما يُغني عن تقديرِ مَحذوفٍ مزعومٍ.
.
وتكملة الآيات الناقصة تختلف من مفسر إلى مفسر آخر، وتختلف عند أهل السنة عن تكملتها عند الشيعة. فعلى سبيل المثال: تقول الآية المبهمة 12-94: 7: «فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ».
اعتبرها الجلالين ناقصة وكملها كما يلي: فَإِذَا فَرَغْتَ [من الصلاة] فَانْصَبْ [في الدعاء].
وقد فسرها المنتخب كما يلي: فإذا فرغت من أمر الدعوة ومقتضيات الجهاد، فاجتهد في العبادة وأتعب نفسك فيها.
أمّا الشيعة فقد كملوها اعتمادًا على قراءة مختلفة كما يلي: فَإِذَا فَرَغْتَ [من نبوتك] فَانْصَبْ [خليفتك] (انظر هامش هذه الآية).
ونجد بعض الباحثين المسلمين في هذا المجال يضيفون عبارة «والله أعلم» عند اقتراحهم تقديرًا لمحذوف.
.
وهناك ظاهرة غريبة في القرآن. فكثير من آياته تبدأ بكلمة «إذ» أو «وإذ»، على سبيل المثال:
- إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (38-38: 71)
- وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (39-7: 141)
- وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (39-7: 161)
وهناك آيات سبق كلمة «إذ» فعل أذكر ومشتقاته أو غيره من الأفعال، على سبيل المثال:
- وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِين (39-7: 74)
- وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (44-19: 16)
- وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى - إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (45-20: 9-10)
- وَاضْرِبْ لَهُمْ مثلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ - إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (41-36: 13-14)
.
وظاهرة أخرى هو فقدان جواب الشرط في كثير من الآيات، على سبيل المثال:
- أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [...] وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (59-39: 24).
نص ناقص وتكميله: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [كمن أمن منه بدخول الجنة]
- أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ [...] قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (59-39: 9).
نص ناقص وتكميله: أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ [أفضل أم من هو كافر]
- إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ [...] وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (103-22: 25).
نص ناقص وتكميله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ [نذقهم من عذاب أليم]، إلا إذا اعتبرت الواو في كلمة ويصدون زائدة، فتكون الآية: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَصُدُّونَ.
- أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (96-13: 33).
نص ناقص وتكميله: أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ [كمن ليس كذلك] أو: أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ [ومن] جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ [سواء في استحقاق العبادة].
.
وانقل هنا ما يقوله معروف الرصافي في هذا الخصوص:
مما يختص به القرآن في تراكيبه ومبانيه دون غيره من الكتب المنزلة وغير المنزلة كثرة الحذوف والمقدرات في التراكيب. اقرأ كتب التفسير المطولة لا سيما التي عني مؤلفوها ببلاغة القرآن وفصاحته كالكشاف للزمخشري مثلًا، فإنك لا تكاد تجد آية خالية من حذف وتقدير. وإنما يقدر المفسرون هذه المحاذيف لتوجيه الكلام وتخريجه على وجه يكون به معقولًا ومفهومًا أكثر ... فبالنظر إلى هذا يجوز أن نسمي القرآن «كتاب المحاذيف والمقدرات». ونحن نعلم أن الحذف جائز في الكلام، بل قد يكون واجبًا مما تقتضيه البلاغة وتستلزمه الفصاحة، ولكن الأصل في الكلام هو عدم الحذف. فإذا كان في الكلام حذف فلا بد من أمرين أحدهما المجوز أو المرجح للحذف، والآخر وجود قرينة في الكلام تدل على المحذوف، وإلا كان الكلام من المعميات والأحاجي، وكان المتكلم به كمن يقول: أيها الناس افهموا ما في ضميري. نحن لا نقول إن محاذيف القرآن كلها من قبيل المعميات، بل فيه من المحذوف ما تقتضيه البلاغة وتدل عليه القرائن، وفيه ما ليس كذلك.
الرصافي: كتاب الشخصية المحمدية، ص 553-554 https://ebooksstream.com/down/8296.html
.
وإلى مقال قادم من وحي ترجماتي للقرآن
ملاحظة: اسمح بنشر التعليقات ولكن لا ارد عليها، تاركا للقراء إبداء رأيهم. وإن لم يتم نشر احد التعليقات من قبل إدارة الحوار المتمدن فهذا ليس بيدي.
.
ادعموا حملة "الترشيح لنبي جديد"
https://goo.gl/X1GQUa
وحملة "انشاء جائزة نوبل للغباء"
https://goo.gl/lv4OqO
.
النبي د. سامي الذيب
مدير مركز القانون العربي والإسلامي http://www.sami-aldeeb.com
طبعتي العربية وترجمتي الفرنسية والإنكليزية للقرآن بالتسلسل التاريخي: https://goo.gl/72ya61
كتبي الاخرى بعدة لغات في http://goo.gl/cE1LSC
يمكنكم التبرع لدعم ابحاثي https://www.paypal.me/aldeeb