فيروسات الإيمان بالله والأديان


جواد بشارة
الحوار المتمدن - العدد: 5602 - 2017 / 8 / 5 - 20:22
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

فيروسات الإيمان بالله والأديان
د. جواد بشارة
من المتعدد إلى الواحد ومن ثم إلى النفي والإنكار، من الأحادي إلى المركب، من البسيط إلى المعقد ، من المحدود إلى اللانهائي، من المشخص إلى المجرد أو التجريدي غير القابل للتعريف أو التحديد، الخ هذه هي ماهية الإله كما تخيلته الإنسانية منذ فجر البشرية إلى يوم الناس هذا. هناك في الكون المرئي مجرة تشبه العين في بنيتها وشكلها كما صورها تلسكوب هابل في أعماق الكون المرئي والتي تقع في سديم هليس Hélice أطلق عليها العلماء المتدينون إسم عين الله. فهذا الأخير موجود في كل مكان وزمان منذ أن نشأ الوعي البشري وبدأ يفكر ويتأمل. لقد تجاوز عدد من يؤمنون بوجوده الأربعة مليار نسمة على سطح الكرة الأرضية وهم من أتباع الديانات السماوية الثلاثة ، اليهودية والمسيحية والإسلام، إلى جانب مليارات أخرى من المؤمنين بالأديان الوضعية كالبوذية والهندوسية وغيرها، وبهذا الصدد قام الممثل العالمي الشهير مورغان فريمان، عبر سلسلة من الأفلام الوثائقية الجادة، في رحلة بحث عن الإله لدى مختلف الأديان السماوية والوضعية قام فيها باستجواب رجالات ومفكرين من تلك الأديان وكهنتها ورجال الدين القائمين عليها وخلص إلى نتيجة كللها بتجربة مختبرية أجريت على نشاطه الدماغي ليثبت أن الدين والإيمان والله ما هي إلا إفرازات دماغية محضة من اختلاق البشر عبر رحلتهم في هذه الحياة منذ النشأة إلى يوم الناس هذا. ولكن هناك أقلية بشرية واعية لا يمكن تصنيفها ضمن هذه المجاميع المؤمنة فهم إما لا أدريون أو ملحدون والسؤال هو: لماذا يكون المرء مؤمنا أو ملحداً أو لا أدرياً؟ من الناحية التقنية أو الفنية البحتة الكل له نفس الإجابة على حد سواء ولكن لا يستبعد أحدهما الآخر بل لدى كل امريء منهم مقاربة مختلفة عن الآخر للأشياء والمفاهيم ،هناك تعامل مع مفهوم أعم هو المعرفة. فيما تتم مهاجمة الاعتقاد والإيمان. اللاأدريون لا يعرفون ما إذا كان هناك إله أم لا . الملحدون لا يعتقدون ولا يؤمنون بوجود إله، ولكن يجب التأكيد على نقطة مهمة هنا وهي أن الإلحاد l athéisme ليس قناعة بعدم وجود أي إله بل هو افتقاد الإيمان بوجود إله. ومن هنا يمكننا القول أننا جميعاً لا أدريون agnostiques بمعنى أن لا أحد يعرف تماماً إذا كان هناك إله أم لا بدون دليل أو إثبات، بل يختارون عدم الاعتقاد بوجود إله والحال أنه لو قدمت لهم البراهين والإثباتات فمن المفترض بديهياً أن يؤمنوا، وفي الواقع هم لا يعتقدون ولم تعد المسألة بالنسبة لهم سوى مسألة معرفة. لذا لا ينبغي طرح السؤال بصيغة هل الله موجود أم لا ؟ لأن الجميع سوف يجيبون بــ لا نعرف. وإنما يجب أن يطرح السؤال كالتالي: هل تعتقدون أو تؤمنون بوجود إله؟ فالملحدون سوف يردون بالسلب ويقولون كلا، والمؤمنون سوف يردون بالإيجاب ويقولون نعم، أما اللاأدريون فهم مرغمون على اتخاذ قرار أو موقف ولا يمكنهم الإجابة بــ لا نعرف فلا يوجد معنى لمفهوم أعتقد أو لا أعتقد . ولا ننسى ليس بوسع أحد أن يثبت عدم وجود شيء ولماذا يجب أن يكون كذلك؟ مثلما لا يمكن لأحد أن يثبت وجو أو عدم وجود أحد الآلهة، مثلما لا يمكننا إثبات عدم وجود وحيد القرن الأسطوري والتنين والجنيات وبابا نويل. فالإلحاد هو بحد ذاته موقف إيماني أو اعتقاد بعدم الإعتقاد وبعدم الإيمان لأنه لايوجد ملحد يعلن على نحو قاطع وصارم بعدم وجود شيء ما وليس بوسعه أن ثبت ذلك. فالملحدون لايريدون أن يعترفوا صراحة بأن موقفهم يتطلب درجة من الاعتقاد الجازم لأن ذلك سيشكل ضدهم ذريعة يستخدمونها هم ضد المؤمنين بأن الاعتقاد بوجود الله يتطلب حالة من الإيمان حتى لو لم يكن من الممكن إثبات وجود الله .فالإيمان يوحي بأنكم تؤمنون بشيء حقيقي موجود ولكن بدون أي إثبات ملموس. وغياب الدليل هو القاعدة التي يستند إليها الإلحاد الذي هو غياب الإيمان بوجود الله. الإنسان يولد بلا إيمان كخامة فكرية خاوية من أي اعتقاد وهي الحالة الطبيعية للكائن والإيمان حالة مكتسبة تأتي من المجتمع والعائلة المتشبعين بالمفاهيم الدينية فلو اختلط ملحد بمجموعة من البوذيين في التيبت، منقطعين عن العالم لمدة عشر سنوات وغاص معهم في عالمهم وفكرهم ومعتقداتهم وطقوسهم وشعائرهم، فسوف يتأثر حتماً بهم وينتقل من حالة الإلحاد إلى حالة الإيمان بمعتقد جديد هو الإيمان البوذي الذي لا يعترف هو الآخر بوجد إله . ما معنى الكينونة الحية؟ إنها مسألة مطروحة على العلم لكي يبحث عن الإجابة العلمية الصحيحة وليس عند الدين أو الفلسفة، الإيمان والإلحاد كقطبي الشحنة الكهربائية المتناقضتين أو كقطبي المغناطيس ذات الشحنتين المتنافرتين، وجهان لعملة واحدة، وفي حالة الارتداد يتحول الملحد إلى لا أدري أو إلى مؤمن حتى لو كان في هذا الخيار الأخير نوع من التقهقر الخرافي.
المأساة عند البشر هو أنهم أسقطوا ذواتهم على مخيلتهم المقيدة بمحدودية إدراكهم فكافة المؤمنين في الأديان التوحيدية الثلاثة أضفوا صفاتهم البشرية وخصائصهم وسماتهم القاصرة على الإله الذي تخيلوه قابعاً في السماء وإنه خلقهم على صورته أي أن هيئته تشبه البشر وبالتالي فهو محدود ومقيد بالثنائيات المتباينة التي توسم البشر كالحرية والعبودية، الإرادة الإنسانية والقهر الرباني، حرية الاختيار أو القدر المفروض والمكتوب، حرية الاعتقاد والإيمان القسري، العدالة الإلهية والظلم المجتمعي المنتشر في كافة المجتمعات، العقاب والثواب ، الغفران والتوبة، الحساب الآخروي ويوم القيامة، الروح والنفس والبدن، المقدس والمستباح والحلال والحرام، الخلاص الآخروي والتكفير والشعور بالذنب وتأنيب الضمير، العصمة والفاحشة، والخطيئة والتطهير، الجنة والنار والجحيم والنعيم، التقوى والزهد، القتل عمداً والتضحية والقربان، التكفير عن الذنب، النذور، البراءة والاتهام، الخير والشر، القداسة والإباحة، الجهاد والاعتكاف، الإيمان والارتداد، الشريعة والقوانين الإلهية والقوانين الوضعية ، الإيمان والإلحاد، الفقر المدقع والثراء الفاحش، البؤس الروحي والبؤس الجنسي والبؤس العقلي والبؤس الفكري،النقد والشك والتقبل الأعمى،السذاجة والتصديق الساذج والماكر، الحذاقة والرفض العقلاني، الخيال والواقع، البصر والبصيرة ، الوهم والحقيقة، الخرافات والخيالات والأساطير والحكايات الطفولية، الموت ومابعد الموت، الخلود والأبدية والأزلية، الطقوس والشعائر الرموز والدلالات والمعاني المباشرة، الحيل والمواربات،التملق والكبرياء، السخرية والانتهازية ، الأحلام والتخيلات، السحر والتنجيم ، الظلامية والتنوير، السبب والنتيجة العلة والمعلول، كل هذه المفاهيم هي مفاهيم ذات دلالات بشرية استمدها البشر من المفاهيم الفلسفية القديمة والأديان السماوية والوضعية الخاصة بالبشر. فدعامات الدين الثلاثة هي: الإيمان بوجود إله خالق، وخلود الروح التي ستحاسب في آخر الزمان يوم القيامة، وغياب حرية الإرادة والطاعة والاستسلام لإرادة الله العليا، النزعة العدمية وتقديس اللاشيء والشغف بالعدم، الكينونة والعدم، الرغبة والغريزة، الذكاء والغباء الخ، سيبقى الإله مادامت هناك عقول تخلقه وتصدق بوجوده وعقول تنكره ولا تستطيع إثبات ذلك. إقرار وإنكار، وعلم وجهل، الخضوع والتمرد والعصيان، الحجة والذريعة، البداهة والتعقيد، القدر والحتمية، الشيطان وإبليس، نزعة الإقرار بالإلوهية ونزعة نفي الإلوهية أي الإلحاد كمضاد للإيمان ، فالشيطان والله وجهين لنفس العملة، النجاسة والطهارة، العبد والسيد، الآثار والأنقاض، التراث والتاريخ والتدوين، التزييف والتزوير والسلطة، الإنصاف والافتراء، البخل والإسراف الشراهة، والوحشية والقسوة والعنف، الرحمة والصفح، الكذب والخسة والرمي بالبهتان، التشنيع والتسقيط، القذف والتشهير، الانفتاح التعصب والتشدد والتطرف والاعتدال، الوثنية والصنمية والإشراك، إلوهي وربوبي ومشرك متعدد الآلهة، طوطمي إحيائي وثني،زنديق هرطقي، وماذا بعد؟ صفات الإله التي عزاها البشر له هي صفات بشرية محضة وينعكس ذلك في أسمائه الحسنى فهو كالمهيمن الجبار المتكبر القهار المذل المنتقم المتعالي المعذب الخ هل يمكن أن يكون الله على هذه الصورة الوحشية والسادية التي تتلذذ بآلام ومعاناة البشر وتعذيبهم؟ لقد أعلن بابا الكنيسة الكاثوليكية مؤخرا أن لا وجود للجنة والنار وإن قصة آدم وحواء وإبليس ما هي سوى حكاية أسطورية جميلة ورمزية، وهذه انعطافة فكرية مهمة ستكون لها تداعيات وارتدادات فكرية وأخلاقية عميقة ومؤثرة على المنظومات الاجتماعية ... اللاأدريون هم ملحدون لكنهم يفتقدون الشجاعة والحزم ليعترفوا بأنهم لا يؤمنون بوجود إله والبوح علناً بما يفكرون به خفية .
حواس الإنسان الخمسة غير كافية لسبر أغوار الطبيعة وألغازها وأسرارها فما بالك بما هو ما وراء الطبيعة وخارجها، سواء على الأرض أو في الفضاء الخارجي؟ الإنسان عاجز عن تمثل الإله وتجسيده صورياً في مخيلته فكل ما يخطر على بال الإنسان فالله مغاير لذلك. وعلى امتداد التاريخ حاول الفقهاء ورجال الدين والمؤرخين الغربيين اقتراح عدة فرضيان لنشأة فكرة التوحيد وهيمنة الإله الواحد الذي يحكم الأرض والسماء. إن تاريخ الأديان البشرية هو كالنهر الهادي الجاري دوماً، بدأ بالمتعدد وانتهى بالواحد، من عبادة مجمع الآلهة إلى عبادة الإله الكوني الواحد وانتشار فكرة التوحيد على حساب فكرة تعدد الآلهة، منذ آدم ونوح وإبراهيم مروراً بأنبياء إسرائيل وعلى رأسهم موسى الذي يشك العديد بحقيقة وجوده التاريخي، وعيسى نبي المسيحيين وانتهاءاً بمحمد نبي الإسلام. لكن فكرة التوحيد أقدم من ذلك بكثير.
مفكروا القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر في الغرب يرجحون فكرة أن البشرية، في بداياتها، كانت مشركة أي تؤمن بعدد كبير من الآلهة ناسفين فكرة الخطيئة الأولى التي أدت بالبشرية إلى الانزلاق نحو الهاوية والانحطاط والبدء بعبادة الحيوانات والشمس والقمر والكواكب وقوى الطبيعة الغاشمة إلى أن أعلن الجد الأول للعبرانيين أبراهام ، أي إبراهيم، فكرة التوحيد وعبادة الإله الواحد القابع في السماء لا محدود القدرة.
نشر الفيلسوف والمؤرخ الاسكتلندي دافيد يوم سنة 1757 كتابه الشهير " التاريخ الطبيعي للأديان" وقال أن شكل الاعتقاد البشري لأول دين بشري كان تعددياً مشركاً، وأكد ذلك في القرن العشرين دوركهايم في كتابه الموسوعي " الأشكال الأولية للحياة الدينية " وكذلك مؤرخ الأديان ميرسيا إلياد. تساءل دافيد هيوم ما السبب الذي يجعل أسلافنا الأقدمون يسقطون في هوة الشرك بعد أن ذاقوا طعم التوحيد في زمن آدم لو كانت قصة الخليقة الربانية حقيقية؟ من العبث التصديق بذلك. صحيح أن الفكر التوحيدي، كشكل من أشكال الدين و الاعتقاد أو الإيمان، أكثر فعالية لكنه أكثر عدائية وتعصباً وقسرية ومنتج للعنف والاستبعاد، فإله التوراة يبدو غيوراً ومنتقماً.
عندما صاغ عالم الأحياء والطبيعة البريطاني تشارلس دارون، في القرن التاسع عشر، نظريته في التطور والانتخاب الطبيعي داخل المجتمع الفيكتوري المتدين والمتزمت، نشأت بالتوازي فكرة التطور الروحاني مقارنة لفكرة تطور الأنواع، كما كتب المؤرخ الفرنسي فردريك لونوار في كتابه" بحث مختصر في تاريخ الأديان" الصادر عام 2008 في باريس. وتم التركيز على تطور خطي قاد البشرية تدريجياً من الإيمان التعددي إلى الإيمان التوحيدي، حيث تخلص الكثير من البشر من عبادة الطبيعة وتحرروا من الخضوع لظواهرها التدميرية. أي الانتقال من الإيحائية إلى الشركية التعددية ، حيث الوثنية إحدى مظاهرها، ومن ثم إلى التوحيدية. من هنا يمكننا القول أن الاعتقاد بالإله الواحد لم يكن الدين الأصلي الأولي للبشرية عكس من أدعاه عالم اللغويات والمبشر الألماني فلهيلم شميد في كتاب" أصل فكرة الإله الواحد" الصادر بين 1912 و 1918 وقال إن البشر عبدوا منذ بدء الخلق الله الواحد. وفي سنة 1920 مول البابا بنديكت الحادي عشر بعثة تبشيرية قام بها الأب بول شيبستا لقلب أفريقيا لنشر الدين المسيحي والهدف غير المعلن للحملة هو التأكد والتحقق هل كان سكان بامبوتي الأقزام Pygmées يؤمنون بمعتقدات قريبة من معتقدات البشر الأوائل في فجر البشرية وهل كانوا يؤمنون بإله واحد أم بآلهة متعددة، وادعى قائد البعثة التبشيرية أن الرب الأعلى لتلك الأقوام قريب من الرب المذكور في الكتاب المقدس العهد القديم. وفي القرن العشرين حاول البعض أن يثبت حقيقة وقوع ألأحداث التي ذكرت في الكتب السماوية المقدسة في التاريخ عبر ما يسمى بحفريات التوراة لكن علماء الآثار دحضوا ذلك وأكدوا عدم وجود آثار وبقايا أثرية لما روي في التوراة والإنجيل والقرآن من قصص وروايات هي أقرب للخرافات والأساطير منها للحوادث التاريخية ، ونفى البعض منهم الوجود التاريخي لشخصيات مثل إبراهيم ونوح وموسى ، بل وربما حتى المسيح نفسه. ولقد تأكد العلماء والمختصين ، أن موسى لم يكتب الكتب الخمسة الرئيسية للعهد القديم، كما لا يمكن التأكيد على أن العبرانيين كانوا هم أول الموحدين في نهاية الألفية الثانية قبل الميلاد. وربما كان الفرعون آخناتون هو أول من دعا لعبادة الإله الواحد آتون في التاريخ في القرن الرابع عشر قبل الميلاد 1350، بديلاً لإله الشمس الذين كان المصريون القدماء يعبدونه كما قال سيغموند فرويد في كتابه موسى والتوحيد الصادر سنة 1939. لقد تطورت الدراسات الحالية عن أصل وجذور المعتقدات التوحيدية اليوم عما كانت عليه في القرن التاسع عشر. فدراسة الهندوسية والبوذية والطاوية ، ولما توصلت إليه مؤخرا الأبحاث الإثنولوجية حول الأنظمة الدينية للأقوام البدائية قد دحضت فكرة تفوق الفكر والاعتقاد التوحيدي كما استنتج الباحث في علم الأديان المقارن فردريك لونوار وفق ما توصل إليه مؤرخو الأديان المعاصرين. ويعتقد بعض الخبراء أن ظهور الفكر التوحيدي قد بدأ في الشرق الأوسط حوالي القرن السادس قبل الميلاد عندما أشاع العبرانيون أن يهوه، إله التوراة والعهد القديم هو الإله الخاص بالأقوام العبرية إبان القرن السابع قبل الميلاد. ثم أصبح فيما بعد هو الإله الوحيد إبان القرن السادس والقرن الخامس قبل الميلاد.