حطّموا الأصنامَ …. يرحمُكم الله


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 5602 - 2017 / 8 / 5 - 15:07
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

================

نهارَ الجمعة. بعدما رويتُ أشجارَ شرفتي ونبتاتِها وزهورَها، وملأتُ الآنيةَ الفخارية والزجاجية بالحبوب والماء، حتى تأكل عصافيرُ الله الطليقةُ في رحاب سمائه، وتشرب، جلستُ إلى مكتبي لأضع رؤوس أفكار محاضرتي التي سألقيها غدًا السبت في صالوني الشهري بمسرح "مكتبة مصر الجديدة"، الذي يتجدد في السبت الأخير من كل شهر. فجأة، رن هاتفي ووجدت صحفيًّا يسألني تصريحًا لجريدته حول خبر يتكلم عن إنشاء مكتبة صغيرة متنقلة بحديقة الحيوان بالجيزة. ملأ الفرحُ قلبي، وفجأة وخزني نصلٌ حادٌّ حين سمعت الصحفي يقول: "لحظة يا أستاذة، المكتبة بها كتب وهابية تحثّ الناس على الجهاد وقتال الشيعة واليهود والنصارى! ما تعليقك؟" وهكذا، لا تدخّر قوى الإرهاب جهدًا ولا تُضيّع وقتًا في تحقيق هدفها في مصر باستلاب العقول وإطفاء كل وميض متبقٍ في عقول أبنائها. اليوم تبدأ غزوة حديقة الحيوان المصرية بالجيزة، بعد إتمام غزوة مترو الأنفاق، التي حاربناها بكل قوانا. وعليك أيها القارئ أن تلاحظ أنهم يشتغلون على فئتين. الشباب، الذين هم عماد روّاد مترو الأنفاق، والأطفال، الذين هم زوار حديقة الحيوان.
يوم نشر هذا المقال، الأحد، سأكون قد ألقيت بالأمس محاضرتي في صالوني، وموضوعها ليس بعيدًا عن غزوات الفكر الإرهابي وإشاعة ثقافة التباغض والتكفير والاقتتال بين جنبات مصر. ما أصل ومنشأ وأسباب تزييف الحقائق التاريخية، وتكريس أوهام وخرافات كرّسها رجالٌ كتبوا التاريخ على هواهم بعيدًا عن الواقع والحقيقية؟ الإجابة تكمن في أحد فصول كتاب "الأورجانون الجديد" الذي كتبه المفكر الإنجليزي "فرنسيس بيكون" في القرن السادس عشر، ليكون جزءًا من موسوعة المعارف التي ودّ بيكون وضع بذرتها الأولى، على أن يستكملها بعده مفكرون وفلاسفة وعلماء في عصور تالية، وأعطى الموسوعة عنوان: “الإحياء الكبير". ويُعدّ "الأورجانون الجديد" سخرية شاملة من فكر فلاسفة الإغريق مثل أفلاطون وأرسطو اللذين كان يراهما بيكون، وفق قوله: "اثنين من العجائز العاطلين يخاطبون حشدًا من الشباب الجاهل"! إذ رأى بيكون أن فلاسفة الإغريق، ورجال كهنوت القرون الوسطى مثل توما الإكويني، وغيرهم، لم يقدموا للعالم أية فائدة عملية تساهم في تطور الإنسان ليعيش حياة أكثر رغدًا وعلمًا. هنا يصلُ الكلام إلى "الأصنام الأربعة"؛ التي رأى بيكون أنها تعوّق العقل الإنساني، بوجه عام، عن مشارفة الحقيقة وتساهم في تزييف التاريخ.
حينما فكّر فرنسيس بيكون، أحد مؤسسي الفكر العلمي ابن القرن السادس عشر، في المعوقات الأربعة التي تُباعد بين الإنسان وبين الحقيقة، كان كأنما يفكر في أزمة الإنسان العربي، لا الأوروبي، وكان كأنما يفكر في اللحظة الراهنة، وليس لحظة التعافي الأوروبي من سطوة الهيمنة الدينية مع مشارف عصر النهضة الأوروبي بعد القرون الوسطى العشرة المظلمة. قبل مولده بقليل كانت إنجلترا قد نزعت عن جسدها النصالَ الغائرة التي غرسها رجال الدين في جسد المجتمع الأوروبي. وبدأت إنجلترا تصطبغ بصبغة العلم والمدنية، وراحت تزرع في المناصب السيادية العليا رجالا علمانيين تكنوقراط، بدلا من رجال الدين الذين تأبدوا في تلك المناصب وقرونًا طوالا. فعمّ، بعدئذ نظامٌ جديد يتضاءل فيه سلطانُ الكنيسة، وتتشاسع السلطات المدنية والعلمانية. ثار بيكون منذ صباه على الغيبيات ورفض منطق أرسطو الميتافيزيقي ولاهوت القديس توما الإكويني اللذين رأى فيهما فلسفة لفظية عقيمة وغير عملية؛ لا تقدم أي عون للإنسان في رحلة كفاحه المرير في محاولة السيطرة على الطبيعة وتحسين وضعه المعيشيّ والنهوض بحياته وتعمير الأرض. فراح يدعو إلى فلسفة جديدة قائمة على العلم والعقل، تُراجع الإرث القديم وتنقيه من المتهافت والركيك والناتئ عن العقلانية. وكان كتابه "الأورجانون الجديد"، "أداة" المنطق العلمي في تفسير ظواهر الكون والطبيعة. وفيه ينقضُّ على فلاسفة الإغريق وبالأخص أرسطو، فيهدم منهجه الميتافيزيقي الغيبي الذي وضعه في مجموعة كتب أسماها "الأورجانون"، وهي كلمة إغريقية تعني "الآلة"، أو "الأداة". وما حربه ضد أولئك الفلاسفة العظام، الذين رحلوا في القرن الرابع قبل الميلاد، إلا لأنه رأى أن فكرهم التغيبي مازال مسيطرًا على اللحظة الراهنة، آنذاك. فما كانت حربه إذن ضد أموات، بل ضد أحياء ذوي سلطان ونفوذ على المجتمع الراهن، وقتذاك. أما مشروع بيكون الأكبر، فكان الموسوعة المحترمة الضخمة التي أعطاها اسم "الإحياء الأعظم"، ومات دون أن يكملها، وقد أعلن بنفسه أنه عملٌ فكري علمي وإنسانيّ هائل لا يقوم به مفكر واحد، ولا جيلٌ واحد من زمن واحد، بل يستكمله بدأب وتريّث مفكرون عديدون في أزمنة مختلفة.
في كتاب "الأورجانون الجديد"، فنّد بيكون أصنامًا أربعة، أو أوهامًا أربعة، يجب على العقل الجمعي العالمي التخلص منها حتى يشارف تخوم الحقيقة. تلك الأصنام ترسّخت في العقلية الإنسانية على مر العصور، فزرعت في عقولنا جميعًا مجموعة من الأوهام والخرافات والتقاليد الفاسدة التي تباعد بيننا وبين جوهر العقل الصافي ومعدنه الأصيل الذي خلقه الُله فينا لنصل به إلى الحقيقة.
وهذا ما سنطرحه الأسبوع القادم بإذن الله.

فاطمة ناعوت
اليوم السابع