العلمانية: الانسان أولا (5/2)


السيد نصر الدين السيد
الحوار المتمدن - العدد: 5599 - 2017 / 8 / 2 - 19:53
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

(العلمانية: النشأة والمسيرة)
(ملحوظة هامة: تعرض هذه المقالة لأحداث تاريخية ولا تنطوي على أي اسقاطات على واقعنا المعاصر على الرغم من وجود بعض أوجه الشبه. لذا تقع مسئولية أي اسقاطات على القارئ فقط!)

عشرة قرون (1500-500 م) انفردت فيها الكنيسة الكاثوليكية برعاياها في القارة الاوربية وأخضعتهم لسلطانها المطلق، وحجبت عنهم ما كتبه الاولون من اغريق ورومان. وهكذا أصبحوا سجناء لرؤاها التي كان عليهم تبنيها كما هي دون أي نقاش. فهي رؤى مقدسة يعتبر قبولها من شروط صحيح الايمان ويعتبر أي تشكيك في صحتها خروج عن الملة وهرطقة تستوجب المثول امام محاكم التفتيش الباباوية وهي المحاكم التي انشأها البابا جريجوري التاسع سنة 1184 لتتبع المهرطقين. والهرطقة هي "رأي ديني مدان كنسيا على أنه مناقض للإيمان الكاثوليكي" أو "خطأ ارادي ومتشبث به، متعارض مع مبدأ ايماني موحى به وتعلمه الكنيسة بصفته هذه" (ولتر, 2007).

وتطول قائمة من اوقعتهم أفكارهم في قبضة محاكم التفتيش ومن أبرز هؤلاء الضحايا جوردانو برونو (1600-1548) وجاليليو (1642-1564) (عوض, 1987). والأول تم إعدامه حرقا في 17 فبراير 1600 بتهمة انكاره للعقائد الكاثوليكية الأساسية ومنها اعتناقه نظرية كوبرنيكوس عن دوران الأرض. اما الثاني فقد حوكم امام محكمة الفاتيكان سنة 1633 بتهمة الهرطقة والخروج عما هو معلوم من الدين بالضرورة. فلقد تجرأ السيد جاليليو وأعلن في كتابه الشهير ال "حوار حول النظاميين الرئيسيين للعالم" أن الأرض تدور حول الشمس مخالفا بذلك تعاليم الكنيسة التي كانت تؤمن بعكس ذلك. وأسفرت المحاكمة عن الحكم القاضي بحبسه مدي الحياة الذي خفف بعد ذلك إلى تحديد إقامته في منزله.

ولم تكتفي السلطات الكنسية بحرمان رعاياها من الاطلاع على حكمة الاسلاف بل حرمتهم أيضا من حق الاطلاع على الكتب المقدسة وذلك باعتمادها اللغة اللاتينية كلغتها الرسمية وعدم اعترافها باللغات المنطوقة التي يستخدمها رعاياها في حياتهم اليومية. هذا بالإضافة الى تجريم ترجمة الكتب المقدسة الى هذه اللغات حتى يحتكر رجال الدين مهمة شرح ما جاء بها من أفكار وتعاليم.

كانت هذه ملامح إنسان القرون الوسطي الذي روعته قسوة ووحشية محاكم التفتيش فتوقف عقله عن التفكير، والذي اقنعته الكنيسة بأن مصيره ليس بيده وأنها هي فقط من سيقوده الى ملكوت السماء. وهكذا فقد إنسان القرون الوسطي استقلاله في الفكر وفي الفعل. فأفكاره هي صورة طبق الأصل من أفكار الكنيسة وأفعاله هي تلك التي تقرها الكنيسة. وهي الملامح التي ستبين قدر التغيير الجذري الذي أحدثته "الحركة الإنسانية" Humanism التي أعادت للإنسان حقه الطبيعي في تقرير مصيره بنفسه وحملته مسئولية اتخاذ القرار فيما يخصه من أمور. الا ان الحديث عن "الحركة الإنسانية" لا يستقيم دون الحديث عن الحالة التي شكلتها. انها حالة أوروبا وهي في وضع الفوران الذي بدأ في القرن الرابع عشر وانتهى في القرن السابع عشر وعُرفت في ادبيات التاريخ بالـ "رنيسانس" Renaissance (أو عصر النهضة الاوروبية). حالة اعتبرها الكثيرون حلقة الاتصال بين العصور الوسطى والعصر الحديث.
حالة كانت بدايتها استرجاع أوروبا لتراثها الحضاري (الاغريقي والروماني)، الذي حاولت الكنيسة حجبه، فترى فيه فكرا جدير بالنقاش وفنا يستحق الاقتضاء ومنظومات قيمية تسترعي الانتباه.

حالة أسهمت فيها احداثا مؤثرة مثل نهاية حرب المئة عام بين فرنسا وإنجلترا، التي دام 116 سنةَ مِنْ 1337 إلى 1453، سقوط القسطنطينية ونهاية الإمبراطورية البيزنطية 1453، ظهور اول طبعة من الكتاب المقدس (1456)، اكتشاف كولومبوس للعالم الجديد 1492، وصول فاسكو دي جاما الوصول الى الهند 1497.

كما لعبت أربعة تكنولوجيات أدوارا هامة في تشكيل هذه الحالة وهي: البارود، البوصلة المغناطيسية، الساعة الميكانيكية والطباعة. فقد أسهمت أولى التكنولوجيات، البارود، في القضاء على النظام الاقطاعي اذ لم تعد قلاع النبلاء قادرة على حمايتهم من قنابل المدافع. اما البوصلة المغناطيسية فقد قدمت أداة دقيقة لتحديد الاتجاه فيسرت من عملية الملاحة ومن ثم شجعت الكثيرين على الإبحار وعلى اكتشاف شعوب اخرى وثقافات مختلفة. وحررت الساعة الميكانيكية الانسان من الاعتماد على ايقاعات الطبيعة لقياس الزمن وأصبح في مقدوره خلق ازمنته الخاصة. وآخر هذه التكنولوجيات هي تكنولوجيا الطباعة بالحروف المتحركة التي يعزي الفضل في اختراعها الى جوتنبرج سنة 1450. ولقد أحدثت هذه التكنولوجيا ثورة معلومات وذلك بقدرتها على انتاج عدد كبير من أي كتاب في وقت قصير وبتكلفة منخفضة. فمطبعة جوتنبرج، على سبيل المثال، كان بمقدورها طبع 300 نسخة من أي كتاب في اليوم. وفي سنة 1500 كان في اوروبا ستة ملايين كتاب مطبوع.

كان هذا وصف مختصر لحالة أوروبا في القر ن الرابع عشر. وهي الحالة التي كان من مظاهرها "الحركة الإنسانية" ومعها كلا من "العلمانية" Secularism (زيادة الاهتمام بالأمور غير الدينية)، و"الفَرْدانِيَّة" Individualism (الاهتمام بخصائص الانسان الفريدة وعلى قدراته).

ولقد كان من أطلق على هذه الحالة اسم "الرنيسانس" Renaissance، والتي تعني "إعادة الميلاد"، موفقا تماما في اختياره. فهي لم تكن مجرد فترة زمنية عادية من فترات تاريخ الانسان بل كانت الفترة التي أعاد فيها الانسان اكتشاف نفسه وتعرف على قدراته. انها الفترة التي تحرر فيها هذا الانسان من قيود الكنيسة فاستعاد استقلاله في مجالي الفكر والفعل فكانت التحولات الجذرية في كافة المجالات الفنون والآداب والعلم والتكنولوجيا. ففي مجال الفنون ساد مبدأ "الواقعية" بما يعنيه من” محاكاة الطبيعة“ واستخدام ”علم المنظور الهندسي“. وفي مجال الآداب تحولت اللهجات المحلية الى لغات حية لها قواعدها الخاصة والمؤلفات المكتوبة بها. اما في مجال العلم فقد برزت أهمية جمع البيانات عن أي ظاهرة وذلك بـ "مُرَاقَبَة" سلوكها ثم "استقراء" تلك البيانات لتفسير أسباب هذا السلوك ممهدة بذلك الطريق لظهور المنهج العلمي.

وقد قامت الحركة الإنسانية لعصر النهضة على الأسس التالية:
 احترام واستلهام الموروث الحضاري لكلا من الحضارتين الاغريقية والرومانية،
 الايمان بجمال وكمال عقل الانسان وجسده ومن ثم ضرورة الحفاظ على كرامته في الحياة الدنيا،
 قدرة الانسان على معرفة اسرار الكون (بالملاحظة والتفكير المنطقي) وعلى التمييز بين الصواب والخطأ دون الرجوع كائنات غيبية،
 مسئولية الانسان عن افعاله ومن ثم قدرته على تحديد مصيره،
 القناعة بقدرة الانسان الفرد على التحسن والتفوق وعلى خلق التقدم،
 تعليم الفنون المتحررة Liberal Arts هو (النحو، البلاغة، المنطق، الحساب، الهندسة الرياضية، الموسيقى، علم الفلك) هو وسيلة الانسان لتحقيق ذاته ولإحداث التقدم على مستوى المجتمع.

ونختم المقالة بتعريف لويس عوض لمضمون الحركة الإنسانية التي تشكلت اثناء الرينيساس واسهمت هي الأخرى في تشكيله. فالحركة الإنسانية طبقا له هي الايمان بأن الانسان قيمة في ذاته وأن الانسان سيد مصيره وأن لحياة الإنسان وعلومه وفنونه وآدابه وفلسفاته ومساعيه قيمة في ذاتها لا تغني عنها علوم الدين ولا نسك الرهبان ولا اعتبار الحياة الدنيا مجرد معبر للآخرة" (عوض, 1987) ص. 229.

المراجع
عوض, ل. 1987. ثورة الفكر في عصر النهضة. القاهرة: مركز الاهرام للترجمة والنشر.
ولتر, ج. 2007. الهرطقة في المسيحية. بيروت: دار التنوير.