في معنى الغياب والحضور


نايف سلوم
الحوار المتمدن - العدد: 5598 - 2017 / 8 / 1 - 02:05
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات     

بيّن الراغب الاصفهانيّ في معجمه الجليل (مفردات ألفاظ القرآن) اعتبار المُضاعف (الحرف المشدّد) هجاءً واحداً فمادة (غَبّ) تعتبر (غَبْ) ولم يبالِ بتكرار حرفه الأخير.
(غ ب): أصل واحد يدل على زمان وفترة فيه ، وهذه الفترة هي غياب وانتظار قصير. كالفترة في الوحي وغيابه على أثر موت ورقا بن نوفل. وتقول العرب: "رويد الشِّعر يغِبّ" وذلك أن يُترك إنشاده حتى يأتي عليه وقت . كأن إنشاده غاب لفترة من الزمن.
والغبّ؛ هو أن تُردّ الإبل يوماً وتُدع يوماً.
على هذا الأصل يكون معنى (غب) أن يحجب الشيء عن الحضور إلى وقت(فترة) يلزم حضوره بعدها . الغبّ: هو تردد أو تناوب في الحضور والغياب إلى الماء أو الاحتجاب والظهور.
و (غَيب): أصل واحد يدل على تستّر الشيء عن العيون . ويقال غابت الشمس أي حُجبت. وفي قصّة يوسف: "وألقوه في غيابة الجُبّ.." والجُبّ: البئر ، والجَبّ: القطع كأنه جبّه بحسنه وقطعه عن مُساماته ومفاخرته ، والجُبّة تغطي الجسم وتستره وتظهرُ على هيئته ،. والغابة (الأجمة) سُميت كذلك لأنّه يُغاب بها . هكذا نقول أن الغياب ستر واحتجاب والحضور ظهور وتمثيل وتنظير.
والحضور أقرب إلى مفهوم المضارعة والمعيّة أو الوجود بالمعيّة(مع) والاقتران ، وهذا حاصل في الكناية حيث يقترن الحسيّ مع المعنوي ، فنفهم الوجودين معاً ، لكن، واحد يستلزم الحواس وآخر يستلزم العقل. الحاضر الظاهر ميم حضر بمعية آخر خفي هو عين (غيب محتجب) خفيّ باطن أحضره ميم وظهر كأنّه يضارعه على جهة التمثيل والتنظير والتلازم. يقول رومان جاكبسون: "لقد صاغ المفكر الفرنسي جوزيف دي مايستر في كتابه "قصص من سان بطرسبورغ 1821 " مبدأً ناجعاً بما يخصّ علاقة الاسم بالمعنى، قلّما كان بإمكان البحث اللاحق أن يتجاهله، ومفاده: و هكذا دعونا لا نتحدث عن المصادفة، ولا عن العلامات الاعتباطية" (الاتجاهات الأساسية في علم اللغة، ص 40 ) هذا التلازم بين الاسم والمعنى حاصل في اللغة الواحدة للجماعة الواحدة. فالعلاقة بين الكيانات التصويرية والكيانات الصوتية في لغة أمة من الأمم ليست اعتباطية كما هو شائع. ويجب الانتباه إلى تحذير بيرس القائل: إن الدلالة التامّة هي محصلة علامة ما ، فكل كلمة لها معنى مفرد. فاكتمال الاسم هو المعنى. المعنى صامت والاسم ناطق.
يقول جاكبسون: بوسع المرء عبر استخدام التمييز الشائع اليوم في أسلوب اللسانيات ، بين البنية العميقة والبنية السطحية ، ان يُقرّر أن أغلب التناقضات المتضاربة والظاهرية تبدو مقتصرة على السطح الخارجي من عملنا، بينما تُبدي اللسانيات في العقود الأخيرة انتظاماً مذهلاً في أسسها العميقة. (الاتجاهات الأساسية في علم اللغة ص 15-16 )
في التمثيل والتشبيه والتنظير؛ هو ممثل حاضر على خشبة المسرح ، يضارع الشخص الذي يقوم مقام شخصه كنظير أو صنو وهو الأدّق . ف"الصنو" الصنم، التمثال مختلف كليا عن الصورة ، إنّه يعمل على صعيدين متباينين في الوقت نفسه، ففي الوقت الذي يظهر فيه حاضراً ، يبدو وكأنّه ليس من هنا، كأنه ينتمي إلى الآخرة؛ إلى مكان آخر (باطن) يستحيل ولوجه.
والفعل (حَضَر): يعني إيراد الشيء، كأّن آخر (باطن محتجب) جاء به وأحضره لكي تكون مشاهدة هذا الآخر ممكنة عبر تمثيله بمن أُحْضِر وأُورِد؛ هو من أحضره وأورده ليمثّله ويظهر المثل على صورته .(وقلْ ربِّ أعوذ بك من همزات الشياطين ، واعوذ بكَ ربِّ أن يحضِرون) [المؤمنون: 97 ] أي أعوذ بك أن تكون مشاهدتي خادعة بإحضار شيطانيّ ملتبس ، بالتالي ينزل بي السوء لسوء المشاهدة.
وعندما يتم في فعل الادراك البشري إدراك الصورة البهيمية الفيزيائية ومشاهدتها ، يقترن هذا الفعل بغياب واحتجاب الهيولى التي تتواري ماوراء الصورة الظاهرة. والهيولى كلمة تنظر إلى (المادة) في العربية فالهيولى هي المادة . والذين يُشيطنون الماديّة وينفرون من المذاهب الماديّة يقولون: إذا حضرت الملائكة غابت الشياطين". هكذا هو الأمر دائماً؛ لاحضور بلا غياب، وهذا هو جوهر الإدراك البشري للعالم الخارجي. ما يظهر في البدو يغدو حاضراً في المشاهدة. فلدينا كلمة الحضر تقابل البدو وتتوّجها؛ فالحضارة اكتمال البداوة.
وفي اللغة اليافثية (مقابل العدنانية المضرية)الإنكليزية يطالعنا الفعل present: يقدّم؛ واحد خفي يقدم ممثلاً له ، يعرض مسرحية على الجمهور (يمثِّل) ، يُظْهِر، يُبْدي(هو يُظهر وهو يُبدي) ، يتجلّى (هو)، يبرز للعيان. حاضر مضارع ، والمضارع هو صيغة الزمن الحاضر؛ أو هو صيغة الحضور ، فلا يحضر(هو) إلا مضارعةً.
أما المضارعة فهي التشابه بين الشيئين ، كأنهما ارتضعا من ضرع واحد. (وما قتلوه وما صلبوه ، ولكن شُبّه لهم) [النساء: 157]
والكلمة الاسم presence تعني: حضور ، وجود ، حضرة ، شبح ، طيف ، روح ، كائن إلهي.
لايمكن لهذا الروح أن يحضر إلا بالمضارعة والتمثيل والتشبيه والظهور ، فالظهور مضارعة فيها غياب وحضور في ذات الوقت.
ففي الوقت الذي يظهر فيه حاضراً
يبدو وكأنه ليس من هنا
كأنه ينتمي إلى الآخرة
إلى مكان آخر يستحيل ولوجه
فالتمثال صنوالأمر ونفسه
هائماً إلى الأبد بين عالم الأحياء وعالم الأموات
والفعل اليافثيّ hide يعني: يخفي، يكتم، يحجب ، كما تحجب الصورة الهيولى . الهيولى متوارية خلف الصورة ، فعندما يجلب الكلب الطريدة (الرُمْية) يحضر الكلب ويغيب الرجل الصيّاد الذي رمى الطريدة وأنزلها مَيْتة.
بعد تنزيله عن الصليب ميْتاً
رُفع يسوع على النعش
قال الشاعر في زجر النفس وقت الإسفار:
سفرتْ فقلتُ لها : هجٍ ، فتبرقعتْ فذكرتُ حين تبرقعت ضبّارا.
وضبّار اسم كلب، وهجٍ: زَجْر الكلب أو عكله أو عقله وعقاله . لألّا يعتقد الكلب عند اتيانه الطريدة أنه هو الصيّاد، لذلك يقال كلب صيْد على الكناية، لا كلبٌ صيّاد على الحقيقة ، فالصيّاد هو الرجل من يرمي الطائر والكلب يأتي به. "وما رميتَ إذ رميت ولكنّ الله رمى" الأنفال: 17
وزجر النفس حتى لايصيبها الغرور والزهو ووالكِبْر، وحتى لايصاب الرجل وقد جاءه الأمر من خارجه بالزُهوّ والتكبُّر والطغيان ، وحتى يعود إلى جادة التواضع والرحمة. وبِرْقع: تعني السماء الدنيا ؛ سماء ظهور النجم في الأفق على مرمى النظر. والضبْر: الجمع والقوة ؛ قوة الأخذ بالأسباب؛
" وجدتكَ قوياً بأخذ الأسباب
نور عيني زخرفة جلد حزامك
من مدينة مقدسة بطلي"
(سفر): أصل واحد يدلّ على الانكشاف والجلاء ، وسفرت المرأة عن وجهها إذا كشفته، وأسفر الصبح وذلك بانكشاف الظلام، والسَّفْر الكتابة لأنها تُسفر عن مقصد و معنى الشيء المكتوب.