كيف سوف يكون شكل سورية بعد الأزمة


منذر خدام
الحوار المتمدن - العدد: 5582 - 2017 / 7 / 16 - 09:54
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

كيف سيكون شكل سورية بعد تجاوز الأزمة
منذر خدام
من اخطر الأسئلة التي تطرح على كل الصعد الداخلية والخارجية، وأكثرها وجاهة، السؤال المتعلق بشكل سورية بعد تجاوز الأزمة الراهنة. والشكل المقصود هنا يتعدى النظام السياسي إلى بناء الدولة، وإلى العلاقات بين مختلف أشكال الوجود الاجتماعي للمواطنين السوريين، في حال بقى لهذا المصطلح أي مضمون. ولا يجوز أن نغفل أيضا أن السؤال ذاته يبحث عن جواب له في علاقات سورية كدولة مع جيرانها بما في ذلك إسرائيل، ومع الدول العربية، وكذلك مع دول العالم.
بداية ينبغي القول أن الأزمة التي عصفت بسورية خلال السنوات الماضية كشفت هشاشة البناء الاجتماعي والسياسي للدولة السورية وللمجتمع السوري.لقد برهنت الأزمة على أن الهويات الصغرى الطائفية والمذهبية والاثنية والقبلية والعشائرية وحتى الهويات الضيقة ذات الطابع الثقافي والسياسي للنخب وأشخاصها هي الهويات الحقيقية الفاعلة، وما عداها لا يعدو كونه مجرد هويات متخيلة. لنتذكر كيف تحول الحراك الشعبي المطالب بالحرية والديمقراطية بسهولة ويسر إلى حراك لمجموعات متطرفة وإرهابية لكل منها أجندته الخاصة الحقيقية على خلاف ما هو معلن من أجندة متخيلة لمشروع سياسي إسلامي، يقاس صخبه الإعلامي، بقدر تمويله من دول باتت معروفة للجمهور العام. وحتى النظام الذي يفترض به أن يمثل الدولة كقوة جامعة ذات طابع وطني، لجأ أيضا إلى الهويات الصغرى الطائفية والمذهبية المحلية والخارجية للدفاع عنه، في تقاطع للمصالح السياسية والإستراتيجية هي الأخرى باتت معلومة للجمهور العام. مشهد سورية اليوم ترسم معالمه قوتان رئيسيتان هما: النظام وحلفاؤه من جهة، والمجموعات المسلحة وداعميها من جهة أخرى، وهي معالم لم تستقر بعد من جراء الصراع المستمر مع داعش والنصرة بصورة رئيسة.وحتى ما تم التوصل إليه عبر مسار أستانة من تحديد لمناطق خفض التصعيد أو التوتر، لا يعدو كونه نوعا من الاعتراف بأن سورية الدولة والمجتمع قد تغيرت كثيرا بحيث صارت لا تشبه نفسها قبل الأزمة . سورية اليوم صارت موزعة إلى مناطق نفوذ شبه متبلورة، منطقة نفوذ أمريكي في الشمال الشرقي محمولة على أطراف كردية، منطقة نفوذ تركية في الشمال الغربي من سورية، محمولة على مجموعات متطرفة وإرهابية غير مستقرة، منطقة نفوذ أمريكية إسرائيلية في الجنوب الغربي من سورية محمولة أيضا على قوى متطرفة وإرهابية، ومنطقة نفوذ روسية إيرانية محمولة على النظام السوري. بطبيعة الحال ليست مناطق النفوذ هذه على المستوى ذاته، من الناحية السياسية، ولا من ناحية دورها في صوغ شكل سورية في المستقبل. المنطقتان الثانية والثالثة مكرستان بالكامل لخدمة أجندات غير سورية، فتركيا توظف نفوذها في المنطقة الثانية للحيلولة دون قيام أي كيان كردي بحسب ما يصرح به قادتها، فهم لم يعودوا مهتمين جديا بأي تغيير في النظام السوري ولا بقيادته، إلا بما يخدم هدفهم المركزي، الذي على ما يبدوا لم يكن في حسبانهم عندما تدخلوا في سورية دعما لقوى التطرف والإرهاب، أو ، وهو الصحيح في الأغلب الأعم، لم يحسبوا احتمال تنامي القوة الكردية من خلال دفاعها عن نفسها ضد هذه القوى التي كانت تدعمها تركيا وراهنت عليها للجم طموحات الأكراد السياسية، بحيث صارت اليوم القوة الثانية الفاعلة على الأرض بعد النظام، ولها مطالبها السياسية الخاصة بها إلى جانب المطالب السياسية العامة على مستوى سورية.
أما المنطقة الثالثة فسوف توظفها أمريكا وإسرائيل لمنع امتداد الوجود الإيراني المباشر، أو غير المباشر، عبر حزب الله والمليشيات الأخرى المتحالفة معه، إلى الحدود الإسرائيلية كهدف مركزي، وسوف تحاول فرض ذلك على وجود الجيش السوري ذاته كهدف ثانوي.
بغض النظر عن الطموحات السياسية لكل من تركيا وإسرائيل وأمريكا فإن هذه الطموحات تتأسس على حوامل إرهابية، مما يجعلها غير ثابتة وغير أكيدة على المدى المتوسط والبعيد. فمجرد أن تستقر التسوية السياسية سوف يعود القرار لجمهور السكان في تلك المناطق وليس للمسلحين الذين في أحسن الخيارات المتاحة أمامهم سوف يتم استيعابهم في الجيش السوري، وهو احتمال ضعيف، أو التحول إلى أحزاب سياسية، وهو الاحتمال الأقوى. لكن في هذه الحالة سوف تكون غير قادرة على منافسة الأحزاب الأخرى القومية أو الليبرالية الديمقراطية أو حتى الإخوان المسلمين، في حال تم التوافق على السماح لهم بالعمل السياسي، وهو احتمال ضعيف على كل حال، مما يعجل بخروجها من المشهد السياسي السوري.
أما بالنسبة لمنطقة النفوذ الروسي الإيراني وهي المنطقة الأهم ليس فقط من ناحية عدد السكان المتواجدين فيها ، وشمولها للمدن السورية الرئيسة، بل أيضا من ناحية ما تمتلكه من عوامل القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية. أضف إلى ذلك فإن النظام في هذه المنطقة هو قوة حقيقية، له دوره الحاكم فيها، بحيث يكاد يكون النفوذ الروسي والإيراني في خدمته وليس العكس. بعبارة أخرى سوف يحاول النظام جاهدا أن لا يغير جوهريا بتكوين النظام السياسي الأمني القائم، وهذا ما يفعله على الأرض وفي محادثات مسار جنيف، ويحظى مسعاه هذا بدعم قوي من إيران وبتفهم من روسيا. بالنسبة لإيران تكاد تكون قضية تغيير النظام قضية داخلية ولذلك فهي لن تتساهل بشأنها لاعتبارات إستراتيجية تتعلق بالمجال الحيوي لنفوذها. إن ما يسمى بمحور المقاومة والممانعة لا يعدو كونه مجالا للنفوذ الإيراني، وسوف يتعزز هذا المجال مستقبلا لأن القوى المعاكسة له حاولت تقويضه بأدوات متطرفة وإرهابية، مما ساهم موضوعيا في تعزيزه وتقويته بدلا من تحجيمه والقضاء عليه. فكما أن غزو أمريكا للعراق في عام 2003 بدعم مكشوف من دول الخليج العربي جعل العراق بكامله منطقة نفوذ إيرانية، فهي اليوم من خلال دعمها لقوى الإرهاب والتطرف، تساهم موضوعيا في تعزيز هذا النفوذ. بكلام آخر فإن الصراع ضد الإرهاب جعل موازين القوى السياسية والعسكرية تميل لصالح ما يسمى محور المقاومة. فنجاحات العراق الميدانية ضد داعش، وكذلك نجاحات الجيش السوري والقوى الرديفة له، سوف يجعل دور هذا المحور قويا في صوغ مستقبل سورية ونظامها السياسي.
لكن من جهة أخرى فإن كلا من النظام وإيران بحاجة حيوية للدور الروسي، وبالتالي لا يمكنهما تجاهل مصالح روسيا الإستراتيجية في سورية، وهي ليست بالضرورة متطابقة مع مصالح إيران ولا مع مصالح النظام ذاته.روسيا بلا شك استفادت من الأزمة السورية لكي تفرض نفسها كقوة عظمى على المسرح الدولي، بعد الاهانات السياسية التي ألحقتها أمريكا بها في البلقان وفي ليبيا وفي جورجيا، وكان أول رد اعتبار لها بهذا المعنى، وفي هذا السياق تدخلها في أوكرانيا وفي جورجيا، وهذا ما وجه رسائل واضحة تعبر عن جدية المواقف الروسية، وانه لا تساهل بعد الآن في كل ما له علاقة بالمصالح الروسية.
وإذا كانت إيران ومعها النظام السوري سوف يقاومان إلى النهاية أي احتمال لإجراء تغييرات أساسية في بنية وقوام النظام السياسي في سورية، تحوله من نظام استبدادي شديد المحافظة، متمركز حول الرئيس، إلى نظام منفتح على خيارات ديمقراطية يمكن أن تفتح احتمالات للتعددية السياسية ولتبادل السلطة سلميا عبر صناديق الاقتراع، فإن روسية لديها رؤية مختلفة بعض الشيء. ترى روسيا ضرورة انفتاح النظام على إجراء تغييرات حقيقية في بنيته وقوامه بحيث يمكن أن يتطور لاحقا إلى نظام ديمقراطي، فهي تعتقد أن حماية مصالحها على المدى البعيد في سورية لا يضمنها النظام الحالي، فهو نظام أيل إلى الزوال في المستقبل. وهي إذ ترى ضرورة استمرار رأس النظام فذلك بهدف الحفاظ على تماسك الدولة السورية، فهو اللاحم الأكبر والأقوى لهوياتها الصغرى، وكذلك لأجهزتها وبصورة خاصة للجيش والأجهزة الأمنية،التي تشكل العمود الفقري لبقاء الدولة ، فإزاحته، بحسب القيادة الروسية، بدون تأمين بديل مناسب، لم يسمح النظام بوجوده أصلا، ولم تؤمنه المعارضة للأسف، سوف يعني انهيار الدولة وفشلها. من هذا المنطلق رفضت روسية أية دعوة لإزاحة الرئيس في بداية أية عملية تسوية للازمة، كما كانت تطالب بذلك دول إقليمية وبعيدة، وترجع صداه بعض قوى المعارضة السورية، وبصورة خاصة معارضة ما يسمى بمنصة الرياض. ورفضت روسية أيضا أية عملية انتقال سياسي تفضي إلى إزاحته من رأس السلطة والنظام، بل على العكس كانت ترى ولا تزال ضرورة قيادته لأية عملية إصلاح سياسي محتملة في المستقبل. لهذه الاعتبارات تركز روسيا في كل نشاطها السياسي المتعلق بالأزمة السورية على ضرورة أن يجري التغيير السياسي في سورية بطيئا، يبدأ بتوافق السوريين على دستور جديد، وتشكيل حكومة وحدة وطنية تقود مرحلة انتقالية يتم الاتفاق عليها أيضا، حتى موعد الانتخابات القادمة، التي سوف يكون من حق الرئيس أن يرشح نفسه فيها. وبحسب بعض المصادر فإن الروس قد طرحوا على كل من النظام وإيران استلهام النظام الروسي، بحيث يتناوب الرئيس الحالي واحد رجالات نظامه على موقع الرئاسة، وبذلك يستمر النظام لأمد طويل في المستقبل.
من الواضح أن الرؤية الروسية بدأت تحظى بقبول من أطراف دولية عديدة، فلم يعد يحظى مطلب إزاحة الرئيس في بداية أية عملية سياسية بالأولوية في كل من فرنسا وبريطانيا وأمريكا، وهي دول فاعلة في الأزمة السورية، بل محاربة الإرهاب. وذهب ماكرون الرئيس الفرنسي الجديد أبعد من ذلك إذ وجد في بقاء الرئيس السوري في موقعه ضرورة لكي لا تتحول سورية إلى دولة فاشلة. يلاحظ الأمر ذاته بالنسبة للسعودية وتركيا وقطر وغيرها من الدول الإقليمية، خصوصا بعد تفجر الأزمة بينها.
أما بالنسبة لمنطقة النفوذ الأولى، اعني منطقة النفوذ الكردي الأمريكي فهي اعقد منطقة وأكثرها التباسا، مع ذلك سوف يكون لها دورها الأكيد في صوغ مستقبل سورية وشكل نظامها السياسي. فمن جهة الكرد الذين يملكون قوى فاعلة على الأرض تحارب الإرهاب ونجحت في تحرير مناطق واسعة في شمال شرق سورية من إرهاب داعش لديهم طموحات سياسية خاصة بهم تتعلق أساسا بحل ما يعدونه قضيتهم العادلة يتمثل جوهرها في حقهم بإدارة شؤونهم الخاصة.هذا الحق الطبيعي تراه مختلف القوى الكردية من زوايا مختلفة، يصل بعضها حد الدعوة إلى الانفصال عن سورية والانضمام إلى العراق، لكن القوى الكردية الرئيسة ترى أنه لا يمكن تحقيقه إلا ضمن سورية الموحدة إنما على أساس فيدرالي، يتضمن نوعا من الإدارة الذاتية لشؤونهم الخاصة. ومع أن القوى الكردية الرئيسة المسيطرة على الأرض في شمال شرق سورية قد شرعت في تطبيق الإدارة الذاتية كما يرونها وأنشأوا هيئات للحكم ، إلا أن الأطراف السورية الأخرى سواء في النظام أو في المعارضة لا توافق على طرح الكرد، ويذهب الغلاة منهم إلى حد مساواتهم بداعش كما تفعل معارضة منصة الرياض، أو بالصهاينة كما يفعل بعض أوساط النظام.
الكرد ممثلون بحركة المجتمع الديمقراطي وقوات سورية الديمقراطية وغيرهما من قوى محلية تختلف حقيقتهم عما ينسب لهم من قبل بعض أطراف النظام، أو المعارضة، فهم وطنيون سوريون أولا، وديمقراطيون علمانيون ثانيا، وهم القوة المعارضة الوحيدة التي لديها قوة حقيقية على الأرض تحارب الإرهاب متمثلا بداعش ثالثاً. وأخيرا هم القوة المعارضة الوحيدة التي قدمت رؤية لبناء الدولة السورية ولشكل نظام الحكم في سورية مستقبلا، وهي رؤية جدية تستحق المناقشة لا الرفض المسبق.
في منطقة النفوذ هذه لا يزال يوجد حضور لمؤسسات الدولة السورية المختلفة، وهو حضور محدود، على أية حال، بعد أن انسحب الجيش السوري من هذه المناطق في مرحلة من مراحل تطور الأزمة السورية. وبالمناسبة الكرد لم يسيطروا على شمال شرق سورية نتيجة صراع مسلح مع قوات النظام بل من خلال الدفاع عن أنفسهم ضد داعش أساسا، وضد بعض القوى التي تحظى بدعم تركي تاليا.
إن استمرار وجود بعض مؤسسات الدولة السورية في منطقة نفوذ الكرد مهم لما يحمله من رسائل سياسية، وبصورة خاصة لجهة التأكيد على وحدة سورية من جهة، ومن جهة ثانية يؤشر ذلك إلى وجود احتمالات حقيقية وواقعية لتعاون الكرد والنظام لحل القضية الكردية. في هذا المجال تفيد بعض المصادر من داخل النظام على أنه جاهز لمنح الكرد شكلا من أشكال الحكم الذاتي، وهذا يتوافق مع ما توصل إليه فريق من الخبراء الكرد، وليس على الفدرالية كما يطرحونها.
فيما يخص النفوذ الأمريكي في هذه المنطقة فهو متعدد الأهداف وهو ليس بالضرورة متوافق مع أهداف الكرد، بل أكاد أقول إن تحالف الكرد مع الأمريكان ليس استراتيجيا، إذ لا يمكن أن تضحي أمريكا بتحالفاتها الإستراتيجية مع تركيا من أجل أن تكسب صداقة كرد سورية. من المعلوم أن أمريكا قبل أن تتوجه نحو الكرد السوريين للتعاون معهم في محاربة داعش، كانت قد راهنت على ما يسمى الجيش الحر وغيره من قوى متطرفة، لكنها فشلت. فهذه القوى التي دربتها أمريكا وسلحتها سرعان ما التحقت بالنصرة وغيرها من قوى إرهابية ومتطرفة. لقد وجدت أمريكا في كرد سورية نوعا من تقاطع المصالح، رغم طابعه غير الاستراتيجي، فمن جهة تدعم أمريكا المطالب السياسية الكردية، في مقابل التعاون معها في محاربة داعش،هذا ما هو معلن. لكن أمريكا حقيقة تطمح إلى إضعاف الدولة السورية وإنشاء حاجز إداري بين شرق الفرات وغربه يحول دون تواصل النفوذ الإيراني(كذا). ثمة وجهة نظر تقول أن طرح الكرد للفدرالية لا يعدو كونه تبني لطرح أمريكي فرضوه على العراق، وكانت وزيرة خارجية أمريكا كلينتون قد طرحته في مؤتمر المعارضة السورية في تونس.
ثمة أمر آخر أكثر خطورة تسعى أمريكا إليه، في حال فشل الطرح الفدرالي على مستوى سورية، بما يضعف السلطة المركزية للدولة، وهو طرح لا يملك حقيقة فرص جدية لتطبيقه نظراً لمعارضة النظام له، وكذلك أغلب قوى المعارضة السورية، وهيئات المجتمع المدني الأخرى، وهو أيضا غير مقبول من قبل تركيا. فعندما تنتهي المعركة ضد الإرهاب( ضد داعش) ثمة خشية حقيقية من أن ينشب صراع جديد مدمر بين النظام وحلفاؤه من جهة والكرد من جهة ثانية، أو ما يسمى بالصراع بين غرب الفرات وشرقه. في حال نشب هكذا صراع( نأمل أن لا يحدث) سوف تتخلى أمريكا عن الكرد، فهي تدرك جيدا مواقف الدول الإقليمية من هذا الموضوع، وبالتالي لن تنخرط في صراع معها، خصوصاً وأنها لا تملك القوات الكافية على الأرض، وما لديها من خبراء لن يسمح العراق ببقائهم لأمد طويل، عداك عن أن وجودهم في سورية قليل وهم يقولون أن هذا الوجود سوف ينتهي في عام 2020. وإن ما صرح به روبرت فورد السفير الأمريكي السابق في سورية وعراب التطرف الإسلامي يشي بذلك، ولا يجوز التعامل معه باستخفاف. إن تحالف الكرد مع أمريكا يمثل نقطة ضعف كبيرة لهم، ومع أنهم يحاولون معادلته بتحالف سياسي مع روسيا، لكنهم لم ينجحوا حتى الآن بسبب عدم موافقة الروس على أطروحات الكرد.
لقد كشفت الأزمة السورية، من بين ما كشفته، هشاشة بناء الدولة السورية ونظامها السياسي الأمني الاستبدادي. فما إن انكسر حاج الخوف لدى الجمهور السوري بتأثير من الحراك الشعبي في كل من تونس ومصر على وجه الخصوص، حتى تمرد قسم كبير منه عليه. بمعنى آخر فإن الأزمة كشفت مدى ضيق ومحدودية الحاضنة الاجتماعية الحقيقية للنظام، فهي تكاد تقتصر على الفئات البرجوازية الطفيلية والبيروقراطية وعلى فئة رجال الدين. فهو، أي النظام، لم يراهن يوما على التفاف الجماهير حوله، بل على القوة السافرة الأمنية والعسكرية، وقد بقيت وفية له رغم ما حصل فيها من انشقاقات. لقد بنيت جميع مؤسسات الدولة والسلطة بدلالة معيار واحد وهو الأمن، وهو معيار يلحظ دائما مدى الولاء للسلطة, وليس مدى الكفاءة الشخصية.فبموجب القوانين النافذة لا يستطيع أن يتعين أي سوري في أي منصب في الدولة إلا بموافقة الأمن، وهذا الأمن الذي هو فوق المحاسبة بحماية القانون، من الطبيعي والمنطقي أن يستخدم إضافة إلى أدوات التخويف والقمع، كذلك أدوات الفساد. لقد صارت المناصب في جميع أجهزة الدولة وخصوصا العليا منها موضوعا للبيع والشراء، وقد تعزز كثيرا هذا الاتجاه خلال سنوات الأزمة وصار مكشوفا وعلنياً، بل توسع نطاقه أيضا ليشمل المسائل المتعلقة بالحرب ضد القوى المتطرفة والإرهابية. لقد شكل القمع والفساد نوعا من السياسة الرسمية غير المعلنة، لكنها جارية وتطبق في الواقع. ولذلك لم يكن مستغربا أن تكون أولى شعارات الحراك الشعبي التي رفعها في مظاهراته تطالب بالحرية والكرامة ومحاربة الفساد.
في ضوء التحليل السابق آخذين بالحسبان ما فرزه مسار الأحداث في سورية من مشكلات كبيرة على كل الصعد السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغيرها، تتعلق أساساً بطبيعة النظام الاستبدادي، وبحجم المصالح الإقليمية والدولية المتعارضة في الجغرافية السورية، يمكننا من النظر في عدد من السيناريوهات المحتملة لشكل سورية الدولة والنظام السياسي في المستقبل.
السيناريو الأول: يقوم هذا السيناريو على الفرضيات الآتية:
أ-فشل النظام الاستبدادي في حماية سورية والحفاظ على وحدة نسيجها الاجتماعي من التهتك.
ب-فشل معارضة النظام في تقديم بديل مقنع وذي مصداقية.
ت-تهتك النسيج الاجتماعي بسبب الصراع المسلح بين النظام والمعارضة المسلحة
ث-بروز الهويات الصغرى الطائفية والمذهبية والاثنية والجهوية على حساب الهوية الوطنية الجامعة، وتنامي الحساسيات بينها.
ج-فشل النظام في التنمية الشاملة والمتكافئة لجميع مناطق سورية
ح-إعادة إعمار سورية يتطلب مشاركة جميع السوريين فيها بفعالية على قاعدة المصالح الخاصة.
خ- الحياة السياسية الطبيعية واحترام حقوق الإنسان قضايا أساسية لمشاركة جميع السوريين في إعادة إعمار البلد وتلافي الآثار الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والنفسية الناجمة عن الصراع المسلح.
د-ثمة مطالب حقيقية للشعب السوري تتعلق بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية تم طمسها من جراء الصراع المسلح، وهي ضرورية لمشاركة جميع السوريين في إعادة إعمار بلدهم بفعالية ونشاط.
ذ- المصالح الدولية في سورية مصالح حقيقية، ولا بد من تلبيتها، وإن أفضل طريقة إلى ذلك تأسيسها على قاعدة المصالح المتبادلة التي يؤمنها الشعب السورية بكامل حريته من خلال نظامه السياسي المناسب.
ر- سياسة المحاور لم تعد ملائمة لسورية، ولا بد من انفتاح البلد على كل الدول على قاعدة المصالح الوطنية.
ز-الإقرار بأن المجتمع السوري متعدد التكوين الإثني والطائفي والمذهبي واللغوي، وان ثمة قضايا قومية للكرد والسريان الأثورين والتركمان وغيرهم ينبغي حلها في الإطار الوطني.
س- إن مبادئ الحكم الرشيد( الحوكمة) مبادئ أساسية في بناء هذا السيناريو.
في ضوء الفرضيات السابقة فإن شكل الدولة ينبغي أن يتغير باتجاه مزيد من نقل الصلاحيات من المركز إلى الأطراف، على قاعدة إعادة بناء الدولة على أسس مختلفة،بحيث تعد الوحدات الإدارية على مستوى المحافظات القائمة أو التي يمكن استحداثها، وحدات حكم محلية وليس مجرد وحدات إدارية تنفذ ما يقرره المركز. بناء على ذلك ينبغي أن يكون لكل محافظة مجلسها التشريعي المنتخب وحكومتها المحلية وحاكمها المنتخب. تناط بالحكومة المحلية كل الصلاحيات التي لها علاقة مباشرة بحياة المواطنين فيها مثل الخدمات البلدية والصحية وإدارة العملية التعليمية، والتنمية الاقتصادية المحلية، وغيرها يحددها الدستور الوطني بالتفصيل، كما يحدد طبيعة ولاية السلطات المركزية على السلطات المحلية.
يحتفظ المركز بما له علاقة بسيادة الدولة، وخصوصا الجيش والمؤسسات الأمنية الوطنية والتمثيل الدبلوماسي، والسياسة الخارجية، والمالية، ورسم السياسيات الكلية للدولة سواء في المجال الاقتصادي، أو الاجتماعي أو الأمني وغيرها، يحددها الدستور الوطني بالتفصيل.
يتطلب هذا السيناريو بناء نظام سياسي ديمقراطي برلماني يعتمد النسبية ، وسورية دائرة انتخابية واحدة، فيما يخص الانتخابات البرلمانية الوطنية، والمحافظة دائرة انتخابية واحدة بالنسبة لانتخابات هيئات الحكم المحلية، والدوائر الصغرى بالنسبة لإدارة البلديات، ونظام القوائم الحزبية أو المدنية. يتطلب هذا السيناريو أيضا الاعتراف بالحقوق القومية لكل المكونات القومية للشعب السوري وخصوصا الحقوق القومية للكرد السوريين، بما يسمح لهم بإدارة شؤونه الخاصة، وكل ما له علاقة بازدهار هويتهم.لتحقيق ذلك قد يكون من المناسب إنشاء محافظات جديدة ذات غالبية كردية وإدارتها ذاتياً كوحدات إدارية منفصلة، أو توحيدها في إقليم خاص بهم. في إطار هذا النظام للحكم تتولى السلطات المركزية التشريعية إصدار القوانين الكلية النموذجية، على أن يترك للحكومات المحلية أن تشتق منها ما يلائم ظروفها، أو أن تطلب من المشرعين الوطنيين أن يلحظوا فيما يصدرونه من قوانين وتشريعات الخصوصيات المحلية. يتطلب هذا النموذج للحكم تكوين أحزاب محلية إلى جانب الأحزاب الوطنية.
معوقات السيناريو: من الواضح أن هذا السيناريو مبني على فرضيات تستلهم مصلحة الشعب السوري بالدرجة الأولى،ومشتقة من المبادئ العامة للحوكمة، ولأنه كذلك كما نزعم تواجهه بعض المعوقات التي قد تحول دون تحققه. من هذه المعوقات ما له طبيعة ثقافية عامة تتعلق بضعف قبول ثقافة التعدد والاختلاف في مجتمعنا،بسبب هيمنة الثقافة الإسلامية وأنماط التفكير الدينية المنتجة لها. ومنها ما له طبيعة سياسية تتعلق أساسا بالنظام الذي يراهن على بقاء الاستبداد مع بعض التعديلات غير الجوهرية عليه، ومنه ما له علاقة بالمعارضة التي لا تختلف جوهريا عن النظام فهي مثله متكونة استبدادياً، عداك عن النخب الاجتماعية المختلفة التي شوهها الاستبداد والثقافة الإسلامية المهيمنة. إضافة إلى هذه المعوقات الداخلية التي ذكرناها والتي لم نذكرها، هناك معوقات خارجية. هذا النموذج في حال استقراره سوف يحول البلد إلى قوة حضارية وتنموية وإنسانية غير مسبوقة في المنطقة، مما يجعله غير مرغوب من أغلب الدول الإقليمية وبصورة خاصة من قبل تركيا وإسرائيل والدول العربية القريبة. لن يكون مقبولا أيضا، ربما، من أمريكا وروسيا لأنه يضع مقدرات البلد كله في يد الشعب مما يصعب عليهم صون مصالحهم الإستراتيجية في المستقبل. لكل هذه الاعتبارات يمكن الاستنتاج أن هذا السيناريو لا يملك فرصا كبيرة لتبنيه وتطبيقه في أية تسوية سياسية قادمة، لكنه سوف يظل سيناريو مستقبلي محتمل.
السيناريو الآخر المحتمل من وجهة نظر النظام وحلفاؤه في ما يسمى محور المقاومة، وترجحه موازين القوى على الأرض، في المدى القريب والمتوسط هو إجراء إصلاحات غير جوهرية على النظام السياسي القائم، مع بقاء بناء الدولة على حاله. بموجب هذا السيناريو سوف يتم فسح المجال أمام نوع من الانتخابات الأقل تزويرا، لكن نتائجها سوف تكون معلومة، خصوصاً في حال بقاء الولاية على الجيش والأجهزة الأمنية للنظام ذاته، وسيطرة الحزب على النقابات ومؤسسات الدولة وأجهزتها. يحوز هذا السيناريو على قبول واسع من قبل إيران وحزب الله، إضافة إلى القوى المحلية التي تأسس عليها النظام خلال الخمسين سنة الماضية أي قوى البرجوازية الطفيلية الكمبرادورية ورجال الدين، وكثير من غوغاء القوى المجتمعية المحلية التي سوف يحركها النظام في ما بعد الانتهاء من محاربة الإرهاب لتملآ الشوارع صخبا بهتافاتها بالروح والدم نفديك...
هذا السيناريو يحظى ببعض المعوقات الخارجية فأمريكا وحلفاؤها في المنطقة من الصعوبة بمكان القبول ببقاء سورية في إطار النفوذ الإيراني وسوف يضغطون في مفاوضات التسوية على تفضيل نظام سياسي يؤدي في مساره على المدى البعيد وربما المتوسط إلى تغيير السلطة الحاكمة ومنظومتها السياسية والأمنية. إضافة إلى ذلك سوف تستخدم وسائل ضغط كبيرة أخرى تتعلق بالمساهمة في إعمار البلد وإعادة تأهيله للحيلولة دونه. يواجه هذا السيناريو بعض العقبات الأخرى يتعلق بعضها برفض أغلب قوى المعارضة السورية له إضافة إلى كثير من القوى المجتمعية التي تضررت من الصراع المسلح، و بعض الدول الإقليمية والبعيدة، ولكل أسبابه الخاصة.
السيناريو الأكثر واقعية في ظل التوازنات المحلية والإقليمية والدولية هو المحافظة على بناء الدولة كما هو دون تغيير، مع تبني نوع من الأنظمة الديمقراطية، أغلب الظن سوف يكون برلماني، ينظمه دستور جديد، قد يلحظ شكلا مخففا من الإدارة الذاتية للكرد السوريين. هذا السيناريو سوف يكون حصيلة تفاهمات دولية أكثر منه سورية محلية، ولا حتى إقليمية وعربية. بموجب هذا النظام من المرجح بقاء نظام الحكم الحالي في المدى المتوسط على الأقل، خصوصا إذا بقيت الولاية على الجيش والأجهزة الأمنية للسلطة الحالية.