الحرب ضد الإرهاب: الإباحة والإبادة


ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن - العدد: 5575 - 2017 / 7 / 8 - 19:03
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

ليست "الحرب ضد الإرهاب" هي كل السياسة الأميركية في سورية فقط، وإنما الميل الغالب هو أن كل سياسة صحيحة في البلد المنكوب تابعة للحرب ضد الإرهاب، على نحو وفر مظلة واسعة من محاربي الإرهاب لم يبق أحد خارجها غير... "الإرهابيين" أنفسهم، وهم بالتحديد داعش والقاعدة. أميركا ليست بالضرورة على وفاق مع كل محاربي الإرهاب الآخرين في سورية، لكنها هي من "وضعت الأجندة" على نحو تفاخر به باراك أوباما قبل ثلاث سنوات باعتباره دليلاً على الدور الأميركي القيادي في العالم. والأجندة المشتركة التي تقسم العالم إلى إرهابيين ومحاربي إرهاب تُقرِّب بين نادي المحاربين هؤلاء أكثر مما تفرقهم احتكاكات وصراعات على النفوذ وحماية الأتباع.
ثم أنه لا يجري تضييق تعريف الإرهاب في طوره الجديد على نحو يحابي الدول كلها فيستبعد من المبدأ أن توصف أي منها بالإرهاب، ولا حتى على نحو يستبعد منظمات ما دون الدولة التي كانت ولا تزال على قوائم الإرهاب قبل طور محاربته الحالي (حزب الله، حزب العمال الكردستاني)، ولا حتى على نحو يقصر الإرهاب على السلفية الجهادية السنية فقط، بل يجري فوق ذلك تضييق تعريف ضحايا هذا الإرهاب السلفي الجهادي، فيُخرَج منه العرب السنيون في مناطق مثل الرقة ودير الزور... وعموم سورية، ممن وقعوا تحت سيطرة داعش. قد توصف هذه البيئة بأنها حاضنة داعش (والقاعدة) أو لا توصف، لكن لم يعرض محاربو الإرهاب أي اهتمام بالضحايا منهم، ولا يبدو لمخطوفي داعش ومقتوليها قيمة سياسية أو حقوقية في أجندة محاربي الإرهاب.
السياسة هنا ليست استمراراً للحرب على ما رأى ميشيل فوكو قالباً قضية كلاوسفتز الأقدم، بل هي استمرار للحرب ضد الإرهاب التي هي حرب متحررة من قوانين الحرب بين الدول (قلما روعيت هذه القوانين في الشرق الأوسط)، وتستهدف إبادة الإرهابيين المفترضين. هذه يُسهّله تضييق مفهوم الإرهاب ونزع صفة الضجيا عن صنف بعينه من هؤلاء الضحايا. جرائم الحرب ضد الإرهاب التي يرتكبها محاربو الإرهاب ليست جرائم حرب، والأميركيون قبل حين غيروا قواعد الاشتباك في سورية على نحو يتساهل أكثر مع إيقاع ضحايا مدنيين، أي على نحو ينزع عن جرائمهم المحتملة صفة الجرائم، ويحيلها إلى "أضرار جانبية"، قد تكون مؤسفة لكنها محتومة، ولا يلام أحد في شأن وقوعها. هذا الاستثناء الذاتي يفتح الباب أيضاً لنزع صفة الجريمة عما ترتكب الدولة الأسدية وأية أطراف مضادة لداعش والسلفية الجهادية من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. الإرهاب بتعريفه الضيق فوق هو وحده الجريمة التي تعاقب سياسياً.
وبما أن الحرب ضد الإرهاب مكونة أساساً وحصراً من أفعال إبادة وتدمير، منفصلة عن أي رؤية قانونية أو سياسية أو أخلاقية لما بعد، فليس هناك مدخل على أرضيتها لاستبعاد الدولة الأسدية، بالعكس كانت الحرب ضد الإرهاب مدخلاً لإعداة تأهيل نظام متمرس بالإبادة وله فيها تاريخ. واتساع محاربي الإرهاب ضمن التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة وخارجه (إيران وموسكو والنظام الأسدي، والدول العربية كلها وتركيا) يظهر ميل الدول كلها إلى اغتنام فرص القتل أو ما يتيحه رد السياسة إلى الحرب ضد الإرهاب لتحقيق أهداف متنوعة: احتلال أراض، تعزيز حكم عميل، تصفية حسابات مع طرف آخر على أرض أخرى، السيطرة الطائفية، الاستيلاء على موارد وأخذها غنائم...، مما كان يظنها المرء ممارسات انطوت منذ زمن التوسع الامبريالي في الربع الأخير من القرن التاسع عشر.
الدولة الأسدية قامت تكوينياً على إلحاق مجال السياسة التعددي بحيز السيادة الواحدي، بحث يصير كل عمل سياسي مستقل تمردا على الدولة. لكن هذا ما تتجه إليه السياسة في كل مكان عبر الحرب ضد الإرهاب. ونمو الصفة الأمنية للسياسة في البلدان "الديمقراطية"، وعودة سياسات الحدود، فضلاً عن الإسلاموفوبيا المترسخة، يشير إلى سير العالم في اتجاه سوري بفعل، جزئي على الأقل، من تعثر سير سورية في ما كان يبدو اتجاهاً عالمياً نحو الديمقراطية. منذ الآن يبدو هذا زمناً غابراً.
وما يخيف ليس فرض أجندة خارجية على السوريين، "الحرب ضد الإرهاب"، تجعل كفاحهم غير مرئي، بل ما يبدو من أن دماء الضحايا ذهبت هدراً، لا قيمة لموتهم، وهو لا يفتدي غيرهم. هو أن كل ما رى خلال ست سنوات وأربعة أشهر هو خسائر لا معنى لها ولا يبنى عليها شيء، ولا يستند إليها لحماية من لا يزالون أحياء. إعادة التأهيل الصاعدة للنظام لا تقول إلا أن كل آلامنا لا قيمة لها، وأن من يعطيها القيمة هم أناس في واشنطن وموسكو وغيرها، وأنه قر قرارهم على أنه لا قيمة لها. هذا مفزع. وهو بمثابة تعميم نموذج "الإنسان المباح" الذي تكلم عليه جيورجيو أغامبن، الشخص الذي لا حماية قانونية لها ولا يعاقب من يقتله، ولا يحوز موته قيمة قربانية، فلا يكون فداء لغيره. نصف مليون لا يفتدون الباقين، فلا يتغير شيء من الأوضاع الذي تسببت بقتلهم، ولا يعاب أحد على القتل، ولا يتغير شيء من أقدار الأحياء. بالعكس يجري فرض النظام ذاته الذي هيأ ظروف قتلهم. قد يكون هذا أسوأ حتى من الإبادة من حيث أنه إذ يحرم موت السوريين من المعنى يحرم حياتهم أيضاً من المعنى، ويبقي النزف مفتوحاً إلى أن يقرر محاربو الإرهاب الاكتفاء.
وعلى كل حال ما كانت الإبادة الجارية منذ 76 شهراً، وبرعاية دولية منذ الصفقة الكمياوية المشنية قبل نحو اربع سنوات، ما كان لهذه الإبادة أن تدخل حيز الوقع لولا الإباحة التي تتجاوز الإطار السوري غلأى اللاجئين في البلدان المجاورةظن لبنان بخاصة. مشهد لاجئين سوريين مباحين لعسكر الجيش اللباني قبل يام يصلح صورة رمزية للأباحة التامة.
وعلى أية حال تصمد المذبحة السورية المستمرة، كماً ونوعاً وأمداً، للمقارنة مع كبريات عمليات الإبادة في القرن العشرين. وتتفوق عليها من حيث أنها تجري برعاية دولية (وهو ما سأتناوله في مقالة مستقلة).
لكن إن صح أن سورية تؤشر على اتجاه عالمي، فإن تآكل مجال السياسة لمصحلة مجال السيادة بفضل "الحرب ضد الإرهاب" قد يأخذ شكلا جديداُ، تبدو سورية طليعية فيه أيضاً: أمننة شاملة، لكن دون مركز سياسي، أو بمركز سياسي لا يعدو كونه مظلة وعنواناً عاماً. نحصل على تعددية أمنية وواحدية سياسية. السيادة العائدة عالمياً بقوة لا تأخذ بالضرورة شكل دول قومية مركزية أقل ديمقراطية من ذي قبل، بل ربما شكل خصخصة الأمن وتفتيت الحقل السياسي على نحو يبقيه تحت سيطرة مقدمي الخدمات الأمنية من أجهزة شبه حكومية وشركات خاصة ومرتزقة. لكن ما هذه السيادة الجديدة؟ عرف أشيل ممبه، الفيلسوف السياسي الكاميروني، هذه السيادة بأنها سلطة إملاء من يمكن أن يعيش ومن يجب أن يموت.
لكن ألم يكن هذا تعريف السيد الإقطاعي؟ ومالك العبيد؟