حق تقرير المصير بالمفهوم الماركسي


حسقيل قوجمان
الحوار المتمدن - العدد: 5564 - 2017 / 6 / 27 - 01:26
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

نشر الموضوع لأول مرة في 2007

سألني قارئ عزيز عن موضوع الاقليات القومية والاثنية فاجبته بما اراه في موضوع اضطهاد الاقليات الاثنية والقومية. وبعد نشر ترجمة المقال في جريدة كردية في العراق ارسلت النص العربي الى المواقع العربية فأثار انتقادات عنيفة لم ترق الى مستوى حوار متمدن. وكل ما استطيع التعليق على هذه الانتقادات هو ذكر المثل الشعبي القائل "الكوز ينضح بما فيه".
ليس في نيتي في هذا المقال الرد على هذه الانتقادات او مناقشتها لانها لم توضع بشكل يسمح بمناقشتها او الرد عليها. فانها كانت مجرد تهجمات شخصية جارحة واتهامات مختلقة لا اساس لها وليس فيها انتقاد حقيقي للاراء الواردة في المقال. ومع ذلك جاءت في الانتقادات بعض النقاط التي رايت من واجبي ان اناقشها واوضحها لعل في ذلك فائدة لقرائي الاعزاء.
اتهمني احدهم بسلوك اسلوب ستاليني في بحث المقال. لقد اصاب هذا المنتقد كبد الحقيقة. فانا فعلا احاول جهدي ان اسلك في تحليلاتي عموما سلوكا ستالينيا اي سلوكا ماركسيا وخصوصا فيما يتعلق بحق تقرير المصير والقضية القومية. ان المعلمين الاربعة كلهم ينظرون الى حق تقرير المصير والقضية القومية بنفس الطريقة لان الماركسية لا تتقبل طريقتين لفهم القضية القومية وحق تقرير المصير ولكن كان من نصيب ستالين انه كتب ابحاثا مفصلة وبلغة بسيطة سريعة الفهم لهذا الموضوع بحيث اعتبر بحق الاخصائي في موضوع القضية القومية في الحزب البولشفي. وانا مثل جميع الماركسيين سابقا وحاليا وفي المستقبل ايضا درست وتعلمت بحث القضية القومية من ستالين. واعتبر كتاب ستالين حول القضية القومية منارا لكل ماركسي يبغي فهم هذا الموضوع الماركسي الهام.
بعد ان بين ستالين الصفات التي تجعل من مجتمع معين امة او قومية كالارض المشتركة واللغة المشتركة والتاريخ المشترك وغيرها وضع شعاره بان من حق كل امة (قومية) تقرير مصيرها بما في ذلك حق الانفصال وتكوين دولة مستقلة. كثيرون هم الذين يتحدثون عن حق الامة او القومية بتقرير مصيرها بدون ذكر حق الانفصال وتكوين دولة مستقلة. اما الماركسيين فهم يؤكدون دائما على حق الانفصال وتكوين دولة مستقلة. ان حق الانفصال لا يعني الانفصال بالضرورة بل انه حق من الحقوق الممكنة لتقرير المصير. ان تقرير المصير هو اعم واشمل من حق الانفصال لان حق الانفصال هو احد صور تقرير المصير. فتقرير المصير قد يكون النضال من اجل الحصول على حقوق متساوية مع القومية المسيطرة او القوميات الموجودة. وقد يعني تقرير المصير النضال من اجل الحصول على استقلال ذاتي تضمن فيه حقوق القومية التي تشكل اقلية في مجتمع معين. ان مطاليب نضال القوميات تختلف باختلاف الظروف. ولكن الكثيرين ممن يعترفون بحق تقرير المصير ينسون ذلك حين تطالب امة بالانفصال وتكوين دولتها المستقلة. اما الماركسيين فانهم يؤكدون دائما على هذا الحق.
حين يكون الماركسيون خارج سلطة الدولة، اي حين يناضل الماركسيون في ظل نظام طبقي اقطاعي او راسمالي او امبريالي لا يكون بوسعهم منح هدف تقرير المصير لاية قومية. ولكن دورهم يكون في تثقيف الطبقة العاملة وحلفاءها بحقوقهم وتوعيتهم وقيادة نضالهم من اجل تحقيق تلك الحقوق ومن ضمنها حق تقرير المصير بالشكل الذي يرونه مناسبا لظروف المرحلة التي يجري فيها النضال. ولكن السلطات الحاكمة كلها بدون استثناء لا تسمح للاقليات القومية بممارسة حقها في تقرير مصيرها حتى بابسط اشكاله وبقى موضوع تقرير المصير هدفا تناضل القوميات من اجل الحصول عليه كسائر حقوق الطبقات المحكومة. قد يؤدي النضال الدائم والمستمر من اجل الحصول على الحقوق القومية الى تحقيق بعض حقوق الاقليات القومية اثناء النضال كما قد يؤدي النضال العام الى تحقيق بعض حقوق الطبقات المحكومة ولكن طبيعة السلطات الطبقية هي تشديد الاستغلال وزيادته من اجل زيادة ارباح الطبقة الحاكمة وليس تحقيق بعض اهداف الطبقات المحكومة، وسلاح فرق تسد واضطهاد الاقليات القومية من اهم اسلحتها. ان ما تحصل عليه هذه الطبقات ومنها القوميات لا تحصل عليه الا بالنضال العسير وتقديم اغلى التضحيات. وتاريخ النضال الطبقي على مدى التاريخ برهان على ذلك. ولكن ليس من واجب او حق اي حزب يدعي تمثيل او قيادة الطبقة العاملة ان يشارك حكومته في حرب ضد شعب يطالب بحقوقه او اقلية تناضل في سبيل الحصول على حقوقها باية صورة كانت.
فدور الماركسيين في مثل هذه المجتمعات فيما يتعلق بحق تقرير المصير مقصور على وضع الشعارات الصحيحة في الفترة المعنية وتثقيف عناصر القوميات الكادحة سواء اكانوا من القومية الكبيرة ام من الاقليات القومية بهذه الشعارات وتنظيمهم وقيادتهم في سبيل الحصول عليها.
ولكن الامر يختلف حين تستلم الطبقة العاملة السلطة سواء في مرحلة الثورة البرجوازية ام في مرحلة الثورة الاشتراكية تحت قيادة ماركسية. انذاك يترتب على الماركسيين ان يطبقوا شعار حق تقرير المصير بكامل محتواه اي بما فيه حق الانفصال وتكوين دول مستقلة. ما كان سابقا مجرد شعار يقود الماركسيون الكادحين من اجل تحقيقه اصبح في هذه الحالة محكا لجدية الماركسيين في شعاراتهم ومنها حق كل قومية في الانفصال وتكوين دولة مستقلة.
اكبر مثل في التاريخ لمثل هذه الحالة كانت ثورة اكتوبر الاشتراكية بقيادة الحزب البولشفي وعلى راسه لينين وستالين. ونظرا للاعتراف بان ستالين كان القدوة في رفع شعار تقرير المصير والتثقيف به والنضال من اجل تحقيقه عين منذ اول حكومة سوفييتية وزيرا للقوميات. وكانت سياسة ستالين بهذا الصدد مثلا رائعا على صدق وجدية الماركسيين في رفع شعار تقرير المصير للقوميات بما في ذلك حق الانفصال وتكوين دول مستقلة. ان تاريخ الاتحاد السوفييتي تحت قيادة الحزب البولشفي في عهد لينين ثم في عهد ستالين اروع مثل على ذلك. ان الدولة السوفييتية منذ اول يوم لنشوئها عاملت جميع القوميات معاملة متساوية في الحقوق ومنحت اكثر القوميات تاخرا في سيبريا، قوميات كانت تعيش في العصر الحجري بحيث لم يكن للقوميات فيها حتى لغات مكتوبة نفس الحقوق التي تتمتع بها القومية الروسية. فماذا كانت النتيجة؟ كانت ان هذه القوميات شعرت بان مصالحها هي في البقاء مع الاتحاد السوفييتي وممارسة حقوقها التي منحتها اياها دكتاتورية البروليتاريا رغم ان الدولة السوفييتية منحت هذه القوميات حق تقرير مصيرها بما في ذلك حقها في الانفصال وتكوين دول مستقلة. وقد اختارت بعض القوميات الاوروبية فعلا حق الانفصال واعلنت انفصالها بدون ان تعارضها الدولة السوفييتية واصرت بعضها على البقاء منفصلة عن الاتحاد السوفييتي وفضل البعض الاخر الاندماج في الاتحاد السوفييتي عن طواعية لاحقا.
ليس هنا مجال الحديث بالتفصيل عن كيفية تحقيق المساواة بين القوميات صغيرها وكبيرها وعدم تمييز قومية كبرى على قومية صغرى في الاتحاد السوفييتي تحت قيادة الحزب البولشفي وستالين قبل ان تستولي زمرة خروشوف التحريفية وتقلب كل ذلك رأسا على عقب وتنتشر سياسة الترويس التي مارستها الدولة السوفييتية في عهد بريجنيف بابشع صورها. ولكن ظاهرة واحدة يجدر ذكرها وهي ان مجلس القوميات في الاتحاد السوفييتي وهو احد المجلسين التشريعيين في الاتحاد السوفييتي كان يتألف من عدد متساو من الممثلين لكل قومية بصرف النظر عن كبر القومية او صغرها.
كانت الاوساط الامبريالية وكذلك الاوساط الانتهازية تتحدث عن اضطهاد القوميات في الاتحاد السوفييتي وخضوعها قسرا للدكتاتورية الروسية ودكتاتورية ستالين وكان الامبرياليون كلهم وبضمنهم هتلر يعتقدون ان الهجوم على الاتحاد السوفييتي سيؤدي حتما الى انتفاض جميع القوميات المضطهدة للتخلص من ظلم دكتاتورية البروليتاريا. ولكن ما حدث عند اجتياح النازيين الالمان للاتحاد السوفييتي كان عكس ذلك تماما. فان جميع قوميات الاتحاد السوفييتي وقفت وقفة رجل واحد تحت قيادة الحزب البولشفي وعلى رأسه ستالين للدفاع عن هذا الوطن الاشتراكي وكأنهم قومية واحدة. لم يشهد التاريخ حادثا تفانت به شعوب بلد متعدد القوميات للدفاع عن وطنها كما شهدته مقاومة الشعوب السوفييتية في الحرب ضد الغزاة النازيين.
ان منح القوميات حق تقرير مصيرها بما في ذلك حق الانفصال وتكوين دول مستقلة لم يؤد الى الانفصال بل ادى الى اعظم واثبت اتحاد عرفه تاريخ البشرية.



2


اتهمني بعضهم بالزعم بوجود دولة كردية وطلبوا مني البرهان تاريخيا على وجود مثل هذه الدولة. انا لم اشر في مقالي الى وجود دولة كردية ولم يكن هذا مهما بالنسبة لبحثي لحق تقرير المصير بالنسبة للقومية الكردية. وانا لست ضليعا بتاريخ الاكراد القديم ولا اعلم ما اذا كانت لهم في فترة تاريخية معينة دولة خاصة بهم. ولكن ما اعرفه ويعرفه كل مطلع على تاريخنا الحديث انه حين تحولت سلطة الدولة الى العثمانيين وتكونت الامبراطورية العثمانية لم يكن هناك دول في المستعمرات العثمانية. فلم تكن هناك دولة عربية ولا دولة كردية ولا دولة تركمانية ولا اشورية ولا بلغارية ولا البانية. كل ما كان هو ولايات تعين الدولة العثمانية لها واليا يمثل السلطان العثماني ليدير شؤونها. وقد دام هذا الوضع اربعة قرون.
وفي الحرب العالمية الاولى كانت بريطانيا تريد من العرب مساعدتها في الحرب ضد الدولة العثمانية فاجزلت الوعود للملك حسين ووعدته بتكوين دولة عربية بعد القضاء على السلطة العثمانية يكون هو ملكها. وفي نفس الوقت ولنفس الغرض، اي للحصول على مساندة يهودية في الحرب العالمية وعدت اليهود بوعد بلفور السيء الصيت. ولكنها في الوقت ذاته عقدت معاهدة سايكس بيكو سرا مع الحكومتين الفرنسية والروسية لاقتسام المستعمرات العثمانية فيما بينها. وفي هذا المجال كانت بريطانيا تلعب على الحبلين. ولكن هدفها الحقيقي هو تقسيم جميع هذه المستعمرات العثمانية الى مستعمرات امبريالية فيما بين الدول المنتصرة في الحرب العالمية الاولى. ولكن اندلاع ثورة اكتوبر ونجاح الثورة الاشتراكية في روسيا غير الموضوع اذ ان الدولة السوفييتية انسحبت من المعاهدة السرية وفضحتها. فبقيت المعاهدة بين بريطانيا وفرنسا وعلى هذا الاساس قسمت اغلب مستعمرات الدولة العثمانية الى الحصص التي اتفقت بريطانيا وفرنسا على تخصيصها لكل منهما وضربت بريطانيا وعودها للملك حسين بتكوين دولة عربية يكون ملكا عليها عرض الحائط. واكتفى الامبرياليون بتعيين ابناء الحسين ملوكا في مستعمراتهم فعين الملك فيصل اولا ملكا على سوريا ثم على العراق وعين الامير عبدالله اميرا على الاردن وهكذا. ومن المعروف ايضا ان بريطانيا لم تكن تريد انشاء دولة في العراق اصلا وانما ارادت ان تجعل العراق جزءا من الهند وكانت النقود المستعملة في العراق حتى الثلاثينات الروبية الهندية. ولكن ثورة العشرين غيرت خطط بريطانا واضطرتها الى اقامة دولة عراقية تخضع لسيطرتها.
ولكي تضمن الدولتان الامبرياليتان سيطرتهما على هذه المستعمرات استعملتا سياسة فرق تسد في هذه المنطقة. فبينما كانت اطماح الحسين تكوين دولة عربية واسعة النطاق تشمل الشعب العربي كله قامت بريطانيا بتقسيم المنطقة الى بلدان عربية صغيرة مختلفة لها اداراتها المنفصلة مما ادى الى تجزؤ المنطقة العربية واستيلاء طبقات حاكمة لا ترغب في تحقيق وحدة الدول العربية حفاظا على سلطاتها وعلى مصالحها وهذا هو الوضع الذي ساد حتى اليوم. ومن الناحية الثانية كانت ضمن المستعمرات العثمانية مساحة شاسعة تضم الملايين من الاكراد. فوزعتها بريطانيا وفرنسا في اربع دول هي تركيا وايران وسوريا والعراق. وعلى هذا الاساس نشأت الصراعات المتواصلة في جميع هذه الدول الاربع وما دامت حتى يومنا هذا من اجل حصول كل جزء من المنطقة الكردية على حقوقه ضمن الدول الاربع ومن اجل حق انفصالها عن الدول الاربع وتكوين دولة مستقلة.
ان نضالات الاجزاء الاربعة من القومية الكردية كل في البلد الذي انتمت اليه تعتبر تاريخا طويلا. وقد ادى النضال المتواصل الذي كان كثيرا ما يتحول الى صراع عسكري الى الاف الضحايا سواء من عناصر القوميات المسيطرة ام من عناصر القومية الكردية المجزأة. فهذا تاريخ لا يستطيع احد انكاره. وقد ادى هذا النضال مثلا الى تكوين جمهورية مهاباد الكردية في المنطقة الكردية الايرانية بعد الحرب العالمية الثانية لم تستطع الصمود امام الهجمات التي وجهت لها فسقطت. وحروب ملا مصطفى البرزاني معروفة مما اضطره الى اللجوء الى الاتحاد السوفييتي. ونضال الاكراد في تركيا ما زال محتدما منذ عشرات السنين والازمة الحالية بين العراق وتركيا وتهديد تركيا باجتياح المنطقة الكردية من العراق بحجة القضاء على حزب العمال الكردي التركي الذي يهاجمها من العراق هي احد مظاهر هذا النضال. ولو ان حقيقة التهديد التركي باجتياح المنطقة الكردية في الواقع تعبير عن ممانعة الدول الثلاث، ايران وتركيا وسوريا، لتكوين كيان كردي مستقل او شبه مستقل في العراق يكون نموذجا يناضل اكراد تلك الدول من اجل تحقيقه.
قد ينكر البعض وجود الاضطهاد القومي وحرمان الاقليات الكردية من الحقوق وينكر وجود نضالات في سبيل تحقيق حقوق القومية الكردية في كل بلد من هذه البلدان. ولكن الانكار لا يخفي نور الشمس بمنخل. ان الدولة التركية لا تعترف اصلا بوجود قومية كردية ولا تعتبر اكراد تركيا اكرادا اصلا ولا تسمح لهم حتى بتسمية انفسهم اكرادا او بالتكلم بلغتهم الكردية. وما زال هذا وضع القومية الكردية في تركيا حتى اليوم. وليس خافيا في ايران انه تكونت جمهورية كردية في المنطقة الكردية من ايران ولكنها لم تستطع الصمود في وجه الهجمات والجميع يعرف كم من العراقيين عربا واكرادا راحوا ضحية الصراع الكردي العربي. بل ان حكومة صدام العراقية نفسها اعترفت شكليا بوجود القومية الكردية وبحقها في الحصول على الاستقلال الذاتي والجميع يفتخر اليوم بان صدام هو الذي منح الحكم الذاتي للاكراد. وقبل ذلك في حكومة عبد الكريم قاسم بعد ثورة تموز كان اعتراف واضح بان الشعب العراقي يتضمن قوميتين اساسيتين هما القومية العربية والقومية الكردية. واستقبل ملا مصطفى البرزاني استقبال الابطال عند عودته من الاتحاد السوفييتي. ومع ذلك تجددت الصراعات حتى في ظل حكومة عبد الكريم قاسم. ان القومية الكردية العراقية في نضالاتها المتواصلة حصلت على بعض الحقوق بلغت اوجها في الحصول على الاستقلال الذاتي شكليا في السبعينات من القرن الماضي.
وليس خافيا سياسات التتريك والتعريب والتفريس التي تمارستها هذه الدول تجاه مواطنيها الاكراد. فسياسة التتريك واضحة منذ كمال اتاتورك حتى يومنا هذا. ويعرف كل انسان محاولات تعريب الاكراد وتعريب المناطق الكردية وتغيير اسماء المدن الكردية باسماء عربية ومكافأة كل عربي يتزوج من كردية في عهد صدام وادعاءاته بان اصل الاكراد عرب.
لو فرضنا جدلا ان للاكراد لم تكن دولة كردية في التاريخ. واعتذر من الشعب الكردي اذا كان هذا الافتراض غير صحيح. ولكنه مجرد افتراض. فهل يعني عدم وجود دولة كردية تاريخيا مع توفر شروطهم القومية حاليا وصلاحها لتكوين دولة كردية ان ليس من حق القومية الكردية انشاء دولة مستقلة في الحال الحاضر؟
ان البعض يلوم بريطانيا وفرنسا لانهما جزأتا البلاد العربية الى اكثر من عشرين جزء كل جزء منها اصبح دولة لها مصالحها الخاصة وطبقتها الحاكمة الخاصة والموالية للامبريالية في اكثر الاحيان. ولكنهم ينكرون شجب الاكراد لتجزئة قوميتهم بموجب معاهدة سايكس بيكو. والكل شاهد على النضالات القومية العربية تحت شعار الوحدة العربية واشد مظاهرها وجود جامعة الدول العربية. ومعروف ان محاولات الوحدة ادت الى وحدة مصر مع سورية ولبنان ولكن تبين ان هذه الوحدة لم تكن وحدة متكافئة بل كانت سيطرة دولة كبرى على دولتين صغيرتين ما ادى الى الانفصال ثانية. ونعلم ان الحركة القومية العراقية اسقطت حكومة عبد الكريم قاسم تحت شعار الوحدة مع مصر ولكن شيئا من ذلك لم يحدث. ان شعار الوحدة العربية شعار غير قابل للتحقيق ما دامت كل دولة من هذه الدول تحكم من قبل سلطة حاكمة ليس من مصلحتها تحقيق الوحدة واكثرها خاضعة للامبريالية الاميركية او البريطانية او الفرنسية.
ينكر البعض حق الاكراد في تقرير مصيرهم بما في ذلك حق الانفصال وتكوين دولة مستقلة على اساس تاريخي. فالعراق هو اول دولة شرعت القوانين وعلمت العالم الكتابة وكانت لها حضارة خالدة. وهذا كله انجازات مجيدة تبعث على الفخر. ولكن هذه الامجاد امجاد تاريخية لم تعد قائمة في العراق اليوم. فالعراق منذ استيلاء العثمانيين على الحكم والى يومنا هذا كان بلدا فقيرا مستعمرا خاضعا لهذه الدولة الاستعمارية او تلك وتسوده طبقة حاكمة مستبدة وخاضعة للامبريالية ربما فيما عدا فترة من مدة حكم عبد الكريم قاسم بعد ثورة تموز. اما اليوم فالعراق يخضع لابشع انواع الاستعمار، الاستعمار الاميركي المباشر وعملائه من عراقيين عرب واكراد ومن ايرانيين وغيرهم. ان العراق اليوم يعاني من تدمير دولته وبناه التحتية وكل مؤسساته. يعاني من نهر من الدماء يسيل كل يوم بفعل المحتلين الاميركان والمرتزقة الذين تعاقدت معهم والقوات العلنية والسرية الايرانية والميليشيات وعصابات النهب والسلب واستخبارات مختلف الدول بما فيها الموساد الاسرائيلي. فماذا بقي من امجاد العراق اليوم؟ ان المحتلين الاميركان يريدون انهاء هوية ووجود العراق اصلا. ان الامبريالية الاميركية تريد اليوم اعادة تجزئة الكيانات المجزأة سابقا وفق معاهدة سايكس بيكو. تريد ان تجعل من العراق ثلاث دويلات طائفية صغيرة ضعيفة تحارب بعضها بعضا. تريد تقسيم العراق وسائر بلدان الشرق الاوسط وفقا لهدف الشرق الاوسط الكبير او الشرق الاوسط الجديد.
ان الامجاد التاريخية على عظمتها لا تغير من الاوضاع الحالية ومن يريد ان يحدد مستقبل العراق لا يمكنه ان يحدده وفقا لتلك الامجاد بل عليه ان يحدده وفقا للاوضاع الحالية، اوضاع الاحتلال الاميركي الايراني للبلاد. ان مستقبل العراق بعربه واكراده وتركمانه وسائر الاقليات القومية الاخرى رهن بالنضال في سبيل تحريره من الاحتلال الاميركي البريطاني الايراني.
انا لم ازعم بوجود دولة كردية سابقا ولا يدخل هذا الموضوع ضمن ما اوردته في مقالي. وحل المشكلة الكردية لا يتغير فيما اذا كانت للاكراد دولة سابقا ام لم تكن. ان ما اشرت اليه في مقالي هو وجود مساحة جغرافية متواصلة يسكنها اكثر من عشرين مليون كردي. وهذا واقع سواء اكان اصل شمال العراق اشوريا ام كلدانيا ام اي شيء اخر. وهؤلاء الملايين يتحدثون اللغة الكردية ويعتبرون انفسهم اكرادا ولهم تاريخهم المشترك وعاداتهم وتقاليدهم المشتركة. فلماذا لا يحق لهم من الناحية الانسانية ان يكونوا دولة واحدة تضمهم جميعا؟ ان الذين يعارضون ذلك يعارضون لانهم يرون في هذه الاجزاء الكردية من اراضيهم ملكا لهم ولا يرون ان من حق البشر الذين يعيشون عليها ان تكون ارضهم.
استسلم الاكراد بجميع اجزائهم الاربعة للوضع القائم واعتبروا انفسهم جزءا من الدولة التي وضعهم المستعمرون فيها. فاكراد العراق عراقيون واكراد تركيا اتراك واكراد ايران ايرانيون واكراد سوريا سوريون. ولكن هذه الدول لم تعتبرهم مواطنين متساوين في الحقوق مع الاغلبيات السائدة في هذه البلدان. وهذا كان بيت القصيد من التجزئة التي اجرتها الدول الامبريالية. وهذا ما ادى الى احتدام النضال بكافة اشكاله طيلة تاريخ هذه الدول منذ انتهاء الحرب العالمية الاولى وحتى اليوم. فهل من مصلحة عرب العراق مثلا ابقاء الاكراد قسرا ومواصلة التضحيات الكبيرة من العرب ومن مواردهم في سبيل ابقاء الاكراد ضمن الشعب العراقي؟ اذا ارادت القوميات الكبرى في هذه الدول الاربع فعلا ابقاء الاكراد مواطنين مخلصين في بلدانها فعليها ان تمنحهم حقوقا متساوية مع القوميات الكبرى وليس اعتبارهم اقليات محرومة من الحقوق جزئيا او كليا او مواطنين من الدرجة الثانية او الثالثة.
كلنا نطرب حين نسمع محمد عبد الوهاب يغني لنا "اذا الشعب يوما اراد الحياة فلابد ان يستجيب القدر" وربما يطربنا اكثر لو انه غنى اذا الشعب العربي يوما اراد الحياة فلابد ان يستجيب القدر. ولكننا قد ننزعج ونغضب لو انه غنى اذا الشعب الكردي يوما اراد الحياة فلابد ان يستجيب القدر. ان هذا البيت الشعري تعبير علمي دقيق عن سنة الحياة. ولكن الواقع هو انه اذا اراد الشعب الكردي الحياة ايضا فلابد ان يستجيب القدر. الا ان القدر لا يمنح الحياة وانما يستجيب الى ارادة الشعوب التي تريد الحياة. وقد يكون هنا من المناسب ان نطرب على ام كلثوم وهي تغني شعر شوقي قائلة "وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا". فلا يكفي للشعوب ان تتمنى الحياة وتريدها بل عليها ان تأخذ الدنيا غلابا اي ان تتوحد وتزيل جميع مستغليها ايا كان شكلهم لكي تحقق ادارة نفسها بنفسها.
ما الذي يحدث لو ان شعوب منطقتنا اخذت الدنيا غلابا، فازاحت كل مستغليها المحليين والاجانب وحققت حكم الكادحين الاشتراكي؟ اذ ذاك يكون لكل قومية صغيرة ام كبيرة حق تقرير مصيرها بما في ذلك حق الانفصال وتكوين دول مستقلة. فلا تبقى ضرورة لحركة قومية عربية تعمل على وحدة الامة العربية لان الوحدة العربية تتحقق انذاك تلقائيا بدون ان تجد من يعارضها او يقف ضدها او تدعو مصالحه الى الوقوف ضدها. ويصبح للقومية الكردية حق تقرير مصيرها بما في ذلك حق الانفصال وتكوين دولة مستقلة لان وحدتها القومية تتحقق تلقائيا هي الاخرى. وتزول اية اضطهادات قومية لاية قومية مهما كانت صغيرة غير كافية لتكوين دول مستقلة كالاشوريين والارمن وغيرهم في العراق. واذ ذاك يصبح تمتع كل القوميات بحق تقرير مصيرها بما في ذلك حق الانفصال وتكوين دول مستقلة اعظم حافز على اتحاد حقيقي طوعي متين وثابت، تعمل كل اجزائه على تطوير العنصر البشري وتقدمه واسعاده كما حدث لفترة حوالى ثلاثين عاما في الاتحاد السوفييتي.
قد يلومني البعض لاني اهملت التحدث عن الديانات كالمسلمين والمسيحيين والصابئة واليزيديين وتحدثت فقط عن الانتماءات القومية. تجنبت الحديث عن الاديان لان الدين ليس من مقومات وشروط نشوء الامة كما الارض المشتركة واللغة المشتركة والتاريخ المشترك. فالدين ليس من شأنه ان يغير الصفة القومية لاي مجتمع. لنأخذ مثلا العراق. فالقومية العربية في العراق تتالف من مسلمين ومسيحيين وصابئة ويهود قبل تسفيرهم الى اسرائيل. وكذلك تتألف القومية الكردية من ديانات مختلفة. وكان اليهود في المناطق التركمانية من العراق مثلا تركمانا كما كان اليهود في المناطق الكردية اكرادا. وقد افلح العرب في عصر الفتوح الاسلامية بنشر الاسلام من الصين الى الاندلس ولكنهم لم يستطيعوا تعريب القوميات نتيجة لانتشار الاسلام فيها. فاللاكراد بقوا اكرادا والتركمان بقوا تركمانا والفرس بقوا فرسا والترك بقوا تركا والافغان بقوا افغانا ونفس الشيء يمكن قوله عن مختلف القوميات في اسيا كالباكستان والهند واندونيسيا وتاجكستان واوزبكستان. فالدين ليس صفة اساسية من صفات القومية.
قد يسخر مني البعض لاني اتحدث عن احلام وردية لا يمكن تحقيقها لان الظروف العالمية تغيرت او لانه لم تعد توجد طبقة عاملة في العالم او لان هذه المفاهيم اكل عليها الدهر وشرب وعلينا ان نبحث عن حلول قابلة للتحقيق في ايامنا او لان الاشتراكية اثبتت فشلها لدى انهيار الاتحاد السوفييتي او لان الراسمالية اثبتت تفوقها على الاشتراكية او لان الظروف العالمية جعلت بالامكان التآلف والانسجام بين الطبقات الراسمالية المستغلة والطبقات الكادحة المستغلة وغير ذلك من المفاهيم الكثيرة التي تهدف الى احباط ارادة الحياة لدى الشعوب الكادحة.
والواقع ان العالم اليوم يسير في اتجاهين، اما الاشتراكية على النطاق العالمي والقضاء على النظام الراسمالي بكل اشكاله واما الفناء التام للحياة على كوكب الارض. والامبريالية اليوم وعلى راسها الولايات المتحدة تسير بالعالم وتقوده نحو الفناء. فملايين القتلى في الحروب وفي الاشعة التي تبثها اسلحة الدمار الشامل المستخدمة يوميا وفي ازعاج قشرة الكرة الارضية بالتجارب النووية وقنابل الاعماق الهائلة التي تستخدم يوميا في عالمنا الحالي. وفي الملايين التي تموت جوعا كل سنة وفي الجوع والفقر والجهل والمرض الذي تسببه الامبريالية بنهب ثروات كافة الشعوب من اجل زيادة اثراء قوارين الاموال الذين يستعبدون العالم كله او في التدمير البيئي الذي يهدد الحياة على الكرة الارضية كلها بالفناء. وبين اتجاه الكادحين من اجل القضاء على جميع الطبقات المستغلة وتحقيق حرية الحياة والعمل على اعادة تهيئة الكرة الارضية لمواصلة الحياة ولتحاشي الفناء.
الاشتراكية هي المستقبل الضروري الحتمي تاريخيا للحياة على الكرة الارضية ولسكان الكرة الارضية. فاما ان تفلح الانسانية في تحقيق الاشتراكية بعد القضاء على جميع انواع الاستغلال واما عليها ان تواجه خطر الفناء الذي يتحقق جزئيا امام اعيننا كل يوم ويسير العالم الراسمالي حثيثا في اتجاه تحقيقه تحقيقا كاملا بفناء الكرة الارضية ومن عليها. قد لا تستطيع الراسمالية ازالة كوكب الارض من الوجود ولكن استمرار سياساتها الحالية يؤدي الى فناء الحياة على هذا الكوكب. ان النضال من اجل تحقيق الاشتراكية قائم في جميع انحاء العالم ولكنه لم يصل لحد الان الى المستوى الذي يستطيع قهر الراسمالية والقضاء عليها. ولكن غدا لناظره قريب.

2007