عزيزي الله – مواطن مجهول 17


سامي الذيب
الحوار المتمدن - العدد: 5553 - 2017 / 6 / 16 - 08:49
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

سلسلة مقالات من كتاب: عزيزي الله: رحلتي من الإيمان الى الشك - مواطن مجهول، 52 صفحة
يمكن الحصول على النسخة الورقية من موقع أمازون https://goo.gl/W619cB
كما يمكن تحميل النسخة المجانية من موقعي http://wp.me/p1gLKx-hSc
.
أنا والمجتمع
---------
عزيزي الله،
عشت حياتي لم أذق فيها قطرة واحدة من مادة كحولية ولم أمارس الجنس سوى مع زوجتي وملتزم أخلاقياً بحكم فطرتي الذاتية التي تحب الخير للمخلوقات حولي .. لا أقبل الضرر لهم مثلما لا أقبله لي، بل أحسب أني لو اضطررت أن أختار بين أن أَظلم أو أُظلم لاخترت الثاني. كنت أظن أني أمتنع عن ممارسة الجنس مع غير زوجتي بسببك .. لكني اليوم وبعد أن تحرّرت من قبضة رجالك، تغيّرت قناعاتي فأنا مثلا لا أمارس الجنس مع غير زوجتي وفاءا لها وتقديرا لمشاعرها .. أحترمها وأقدّر العقد الذي بيني وبينها فهو عقد أرضي وليس صك من السماء كما يزعمون. لو وافقتْ هي طواعية وباختيارها على أن أمارس الجنس مع غيرها لربما فعلت، .. أقول لربما ومن دون إحساس بالذنب الذي تخلصت من عقدته، فما لك يا رب ولا لرجالك دخل فيما بيني وبين زوجتي. أما امتناعي عن الخمر فلتوقفي عن ذلك في زمن مبكر لكني لن أحس بالذنب لو فعلته .. إحساسي بالذنب يأتي من شعوري بالإضرار بآخر وليس من عقدة يزرعها فيّ آخر عنك.

أقرب ما لي هو دين أبو العلاء .. نبيّه العقل وأقصى اجتهاده أن يظنّ ويحدسا، أما اليقين فلا. أنا واحد من الذين قال فيهم اثنان أهل الأرض عاقل بلا دين له. ديني هو أن أفعل الخير من دون مقابل وغايتي هي أن أعيش حياتي بطولها وعرضها ما دام أن ليس هناك غيرها .. لا أعلق آمالي والامي وأحلامي على حياة غيبية في عالم آخر وراء حُجب لا أجد دليلا عليها بل أحاول أن أصنع من حياتي الفانية أفضل ما أستطيع لي ولغيري وأستغل وقتي القصير في هذه الدنيا من أجل إصلاح ما يمكن إصلاحه وإضافة أقصى ما أستطيع من خير ومعرفة وحب وسلام لأسلمها لمن سيأتي بعدي أفضل مما وجدتها. أستخدم عقلي في ذلك ولا أسمح لأحد أن يستحوذ عليه أو يلوّثه .. أستمتع بما تقدمه لي دنياي من مباهج ومفاتن وأتلذذ بها باعتدال من دون قيود وهمية وعقد يحيكها أهل الدين، نبراسي في ذلك أخلاقي التي أستقيها من علاقتي بالآخرين وتعايشي المشترك معهم وليس من كائن مختبئ في السماء. أتألم وأفرح، أسعد وأحزن، أرقص وأبكي .. أصلي لمن أشاء وكيفما أشاء وقتما أشاء .. أؤمن أن الموت هو مصير كل حي ونهايته المحتومة وعزائي حين أفقد أحدا من أحبابي أن ليس بأيدينا أن أتينا للدنيا كما ليس بأيدينا أن ننتهي منها أو نتألم أثنائها .. كل ما ليس بيدي حيلة فيه فلست ملوما عليه سواء بفقده أو عدم تغييره، لكن بيدي حق استخدام عقلي في الحكم على الأمور وأن أجدّ وأسعى في تحقيق العدل ورفع الظلم وإزالة المعاناة والألم .. الآن وليس غدا كما يحاول أن يشيع أهل الدين حين يرجئون تسوية المظالم ليوم تشخص فيه الأبصار.

تلك هي الحقيقة المرة التي يخشاها الناس .. من ينشد الحقيقة فعليه أن يقبل بحلوها ومرها أما من ينشد الراحة فليلجأ الى الدين كي يخفف عنه مصائب الدنيا عبر خيالات ووعود تمنّيه بلقاء من فقد وتعوّضه عن النقص الذي يحياه فيسلو على أمل وأوهام، .. هو مثل من يتعاطى مادة مخدرة أو يلجأ للخمر أو الحشيش لينسى آلامه في دنياه ويعيش في عالمٍ من الخيال. كلنا يا رب راضين بحالنا، وهل يسعنا غير ذلك .. أنا أرضى بما أنا فيه مثلما أن المتدين راض بما هو فيه .. هو ينسب رضاه لك ويجيّر ما يصيبه لقضائك وقدرك الذي صنعه غيره وغرسه في عقله ثم استغل ذلك المستفيد من أتباعك الساسة والحكام ليوهموه بأن هناك محكمة أخرى في عالم آخر فيمررون له أنواعا من الظلم والمعاناة يرتكبونها بحقه ويتعايش المسكين معها في دنياه ويُرجئها لعالم غيبي مصطنع حيث تأخذ العدالة مجراها هناك بينما أشعر أنا بالرضا في قرارة نفسي لأني أعي أن ليس بيدي تغيير ما ليس بيدي، لكني أسعى جاهدا لتغيير ما يمكن وإزالة الظلم الذي أقدر عليه .. اليوم وليس غدا في الآخرة. رضاي عن يقين ورضا غيري يسري عليه الشك والريبة .. رضاي قد بلغ منتهاه أما رضا غيري فهو منقوص غير كامل .. هو رضا الضعيف الذي شاهد العنب ولم يطله أو حتى يحاول أن يصله فقال عنه لعله حامض أو لم ينضج. أنا يا رب راض تماما بحالي مثلما أن المتدين راض بحاله، لكني أرفض أن يستغل أحد ضعفي أو فقدي لأحد أحبتي في رسم صورة متخيلة من عنده لم يقدّم برهانا عليها مثل طفل صغير أخذتَ منه لعبته ثم بدأت في ترضيته بشيء وهمي. إما أن تعطيه شيئا حقيقيا يسلّي نفسه أو دعه يبكي لتغسل الدموع أوجاعه.

عوّدت نفسي عدم التعلق بالأشياء والتعود على مفارقتها والهرب من الركون اليها وترك فسحة بيني وبين الناس أخلو فيها بنفسي مهما طال العهد بهم ولو كانوا من الأهل والأحباب والأصدقاء لأني على يقين من مفارقتهم، لعل هذا يخفف عني مصاب فقدان من أحببت، ويجعلني أحرص أن لا أُضيع أي فرصة أحياها معهم. أما الأشياء فهي تملكني بقدر ما أملكها فإن تعودت على فقدها ولو هي قابعة في حسابي البنكي لما راعني تفلّتها من بين يدي. عزائي أن ليس بيدي أن أتيت فلم أختار من أكون وكيف سأكون والى ماذا أنا كائن، فنحن الأحياء محكومون بالبيولوجيا .. من يؤمن ومن لا يؤمن، أتباعك ومخالفيهم، كلهم تسري عليهم قوانين الحياة والممات. يختلفون بينهم في ما يتخيلونه من أفكار مجردة وغيبيات افتراضية صنعوها في عقولهم لكنهم يشتركون في سجن الحياة الواقعية وأتون عالم الشهادة الذي لا ينفك منه أحد. كلهم مربوط بحبل الحياة، تُطبق عليهم مشاعرهم في شكلها البدائي الخام وفوق هذا تترسب طبقات عليا من البيئة والثقافة المحلية واللغة والدين والمجتمع تسيّرهم كل حسب موقعه في هذا العالم. يشتركون في الطبقة السفلى من البيولوجيا التي أنتجتهم ويختلفون في الطبقات العليا من بنائهم الفكري الذي أنتجوه .. هم متشابهون في ما ليس بيدهم شأن به، مختلفون فيما يملكون صنعه وتغييره.

يرفع أحدهم يديه ليناجيك ويحدثك، يُدلي لك بمكنون قلبه ليبقى معك على اتصال دائم وهو يسألك متى يا رب .. متى تحقق لي أمنيتي، متى تشفي مريضي، متى تُزيل همي .. متى تستجيب دعائي .. لو قال أحد أتباعك هذا الكلام لما استنكر أحد عليه ذلك ولما احتج أو اعترض. لكنه لو استبدل كفيه المرفوعتين نحوك بهاتفه الجوال وأعاد نفس الكلام معك وهو يتحدث في جواله لقامت القيامة عليه ورُمي بالزندقة والهرطقة والخروج من الملة .. ما الفرق يا رب بين الحالتين مع أن الفعل واحد والكلام واحد؟ في الأولى هو طبيعي وفي الثانية هو مريض، في الأولى هو مؤمن صالح وفي الثانية هو زنديق ضال .. ألأنه في الأولى يتواصل معك من طرف واحد فقط بدعاء أو صلاة أو مناجاة أما الثانية فتستدعي طرفين اثنين .. تستدعي تواصلك أنت أيضا معه مثلما هو معك. يستنكر الناس ذلك ويغضبون لو إدّعى أحدهم أنك تتواصل معه وتتحدثان سويا بل الويل له وكأنهم لا يريدون لك أن تظهر لأحد منهم .. هم يريدونك أن تبقى مختفيا عن الأنظار، منزويا مختبئا لا يبرز منك أي مظهر ولا تتواصل مع أي أحد سوى لقائك الأول القديم مع رسولك الذي بعثت معه بكتابك أما غيره وبعده فلا. ألهذا السبب أنت مختفي .. لأن أتباعك يريدون ذلك لك ويخشون لو ظهرتَ وأزحت الستار عن طلعتك، لبان لهم شيئا لا يريدونه؟ أنت هكذا بالنسبة لنا كمن يتحدث في هاتفه مع طرف آخر وهاتفه مقطوع عن الخدمة، وهو يعرف أنه مقطوع عن الخدمة، ويريده أن يبقى مقطوعا عن الخدمة .. ومع ذلك يأمل أن يسمع الطرف الآخر كلامه.

أنا اليوم مثل رسولك في بداية ظهور دينك حين كان يختبئ عن الناس قبل أربعة عشر قرنا بل إن وضعَ رسولك وحالته الاجتماعية أفضل مني فاختباءه المؤقت إنما هو لرسالة صادمة يريد البوح بها لغيره ودعوة ينوي أن يصدح بها بينما ليس لدي شيء أُخفيه أو رسالة أدعوا لها أو دعوة أنوي نشرها ومع ذلك فأنا مختبئ مثله. ذنبي أنني لا أريد أن أشارك الناس حولي إيمانهم بشيء غيبي رسخ في رؤوسهم بينما رسولك كان يريد من الناس حوله أن يؤمنوا بشيء غيبي رسخ في رأسه هو فقط. قل لي الآن يا رب من أكثر خطرا على من حوله .. رسولك الذي فاجأ غيره بفكرة قام بنشرها سلما ثم فرضها لاحقا، أم أنا الذي اكتشف عقلي أن ما يؤمن به غيري لا يتفق مع منطقي فامتنعت عن الإيمان بها؟ قل لي بربك يا رب، ودع عنك التباس عبارتي السابقة التي تقولّك باسم من هو ربك فقد اعتدنا هذا النوع من العبارات بيننا .. قل لي هل أنا أكثر خطرا وتهديدا للسلم الاجتماعي على من حولي حين أتوقف عن تصديق ما لا يقبله عقلي أم رسولك حين بدأ بنشر فكرة خارجة عن المعهود الذي تعوّده الناس وأدخل شيئا غيبيا في رؤوسهم من دون دليل أو برهان سوى كلام يرويه هو عنك ويدعوه قرآنا من عندك؟ قل لي من أكثر تسامحا وتقبلا للآخر، أهم كفار قريش الذين سفّه رسولك آلهتهم وألّب ضعفائهم عليهم وجمع الناس حواليه، أم رجالك وأتباعك اليوم حين يدرون عني؟ من أكثر تعايشا مع الآخر أهو أبو جهل وأبو لهب في علاقتهم برسولك الذي كفرَ بآلهتهم ولعن رجالاتهم أم أتباعك اليوم معي، أنا الذي اقترفت خطيئة رفضي لما يرفضه عقلي وما يحاول أن يلزمني به المؤمنون من أتباعك المحيطين بي؟ أليس وضعي اليوم بعد أربعة عشر قرنا من نشر كتابك أسوأ من وضع رسولك وهو مختبئ في دار الأرقم؟

لا تخش مني ومن أمثالي شيئا يا رب .. فأعداد المؤمنين بك في تزايد. هم يفرحون ببعضهم البعض أكثر مما يفرح الملحدون بنظرائهم لأن المؤمنين يحتاجون دوما لمن يؤكد لهم حالة الوهم التي يعيشونها كي يطمئنوا الى وضعهم وإلى الشعور بالإنتماء الى طائفة الغارقين في الأوهام والخيال. ألا ترى الى كمّ التعابير العفوية المستقاة من عندك ولك والتي يستخدمها المؤمن في يومه كي يربط بها غيره معه في دوامة الوهم التي نسجها حوله كي لا يفلت منها أحد .. يسبّح بك حين يرى جديدا ويبارك حين يسمع خبرا جميلا ويحوقل حين يتلقف خبرا سيئا ويشمّت حين يسمع عطسا ويدندن بورد حين يصبح ويمسي وحين يدخل منزلا أو يركب سيارة بل ويتلفظ بكلام من عندك حين يريد أن ينام مع زوجته أو ربما صديقته بل إني أعرف من لا يؤمن بك ويمارس ذلك لا شعوريا بعد أن تعود عليه. أما من لا يؤمن بك يا رب فليس بحاجة الى من يعزز لديه ذلك الإقتناع الذي توصل له بنفسه أو يؤيده فيه أو يوافقه عليه .. هو ليس بحاجة الى نسج شبكة من الأوهام ليقع فيها غيره ولا ليوحي لنفسه بما ليس فيه ولا ليكسب مؤيدين لفكرته كي يطمئن لها ويرتاح. يكفيه ما هداه اليه عقله بنفسه الخالصة من دون تأثير ورهبة وخوف من الآخرين وما توصل اليه بعد شك طويل وتردد .. لعله هو المؤمن الحق يا رب!
.
وإلى مقال قادم من كتاب: عزيزي الله: رحلتي من الإيمان الى الشك - مواطن مجهول
.
ادعموا حملة "الترشيح لنبي جديد"
https://goo.gl/X1GQUa
وحملة "انشاء جائزة نوبل للغباء"
https://goo.gl/lv4OqO
.
النبي د. سامي الذيب
مدير مركز القانون العربي والإسلامي http://www.sami-aldeeb.com
طبعتي العربية وترجمتي الفرنسية والإنكليزية للقرآن بالتسلسل التاريخي: https://goo.gl/72ya61
كتبي الاخرى بعدة لغات في http://goo.gl/cE1LSC
يمكنكم التبرع لدعم ابحاثي https://www.paypal.me/aldeeb