بدء التدوين


نايف سلوم
الحوار المتمدن - العدد: 5547 - 2017 / 6 / 10 - 00:38
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات     

الباب الخامس من كتابي المنشور "أوزبر جبرائيل- تفسير رواية عزازيل"
بدء التدوين
"صبغة الله، ، ومن أحسن من الله صبغة.."
"وحدها حروف مكتوبة تقدر على هذه الشاكلة أن تجتذب سقراط"
التدوين دُونَ الكتابة ، الصَّنْعة الأكثر مُداناة وقرباً من الكتابة. ولكي نتحدث عن الكتابة علينا أن نعرض استهلالاً لـ "صيدلية أفلاطون" La Pharmacie de Platon
في ذكر البِذار، البَذْر. La dissémination . المفردة اليونانية semen (البذار أو النطفة) و العلامة (séme) . خلافاً لما اعتقد البعض من أن المفردة تدل على "البعثرة" بمعناها السلبي البسيط. الكتابة أحياناً تدلّ samainei دائماً على الشيء نفسه، وأحياناً (كناية عن)؛ هي "لعب" paidia (تلاعب بالألفاظ).
Texture نسيج ، و texte نصّ؛ مفردتان تعودان إلى الجذر اللغوي نفسه. في محاورة "السياسي " لأفلاطون يدور الحديث عن مثال "النسّاج"؛ ومثال "المَثّال" ومثال النحّات، وهو مثال الكتابة. يكتب فرويد مستعيراً "النسيج": "والحق أن أفكار الحلم التي نكشف عنها ونحن نفسره لا يمكن أن تكون لها نهاية مرسومة، ولا يمكن إلا أن تتشعب في المسالك المتشابكة لعالمنا الفكري ضاربة في كل اتجاه. وإنما تبزغ رغبة الحلم في موضع من هذا النسيج يزيد سمكاً على غيره. "
"إن كاتباً شيخاً ما كان ليدين الكتابة، كما فعل أفلاطون في (محاورة) "الفيدروس" . الحق أول؛ وحدها قراءة عمياء أو خرقاء كانت قادرة أن تُشيع أن أفلاطون يدين نشاط الكاتب ببساطة. الكتابة باعتبارها اللعب الأفضل والأنبل." في الفيدروس، سقراط يعرّف الأثر الفني ككائن حي. إن العجز عن تنفيذ ما أُحسن تصوّره إنما هو دليل على الهرم. الكتابة كفعل ترجمة إذا لم تُنفّذ بشكل حسن ومتقن فهي مدانة وشائنة (الأدب الرديء). "الفيدروس" تُضَفّر البراهين بأناة. فيها تتأكد براعة البرهان وتمحّى، في آن معاً، بمرونة وتكتُّم وسريّة. إنها تجرّب وتُجري البروفات العديدة قبل إظهار الكتابة لخضراء الجمهور." لقد ظلت مقدرة فرجيل على نظم الشعر تتقدم تقدماً بطيئاً، كان يكتب على مهل بشيء من التردد، كان دائماً غير راضٍ رضاء تاماً عما يكتبه "
القسم الأخير من المحاورة "الفيدروس" كله وما يليه مخصص كما هو معروف للكتابة، وتاريخها وقيمتها، كل هذه المحاكمة المقامة للكتابة، ينبغي أن يُكفّ ذات يوم النظر إليها كتخييل أسطوري نافل.
تستعمل "الفيدروس" أسطورتين، واحدة عن "الزيزان" (أزيز الزيزان)، وأسطورة توت Theut ؛ أو تحوت Tahot أسطورة من صعيد مصر. وهناك في مصر أسطورة "أبو منجل" وهو اسم تحوت بالهيروغليفية، على شكل أبو منجل ينظر إلى يمينه وخلفه نصف دائرة وخطين متوازيين للأسفل واليسار تقريباً. Dhwtj
بداية المحاورة موجهة لصرف جميع العناصر الأسطورية. لا لإدانتها بالكامل، وإنما ليحررها، إذ يقوم هو بصرفها (لا يستجيب لطلبها، يتغاضى عنها؛ يغضُّ بصره عنها؛ يصرف ذهنه عنها)، ليتحرر من السذاجة مفرطة الجديّة، سذاجة الفيزياويين، "العقلانيين" وفي الأوان ذاته ليتحرر هو نفسه منها في علاقته بذاته ومعرفة ذاته." الفعل (صَرَف): معظم بابه يدل على رَجْعُ الشيء؛ صرفت القوم صرفاً: إذا رجَعْتهم فرجعوا(مع بداية المحاورة؛ هم قادمون فأمرتهم بالرجوع فرجَعوا)، صرف الكلام: تزيينه والزيادة فيه، لأنه إذا زُيّن صرف الأسماع إلى استماعه (انصراف السماع عنه والاستماع إلى زينته)، ويقال لحدث الدهر صرف (صروف الدهر): لأنه يقلقهم ويرددهم (يقلبهم من حال إلى حال (ذهابا وإيابا)، ليس له قرار كالبئر الشطون)، ومنه صَرْف الدراهم : تحويلها من واحدة إلى كثرة."
تَحرّر اللوغوس logos من الأسطورة؛ تحريره من سذاجة الفيزيائيين "العقلانيين" ؛ وصرف الأسطورة مؤقتاً لكي لا تعيق فهم اللوغوس لذاته. ومفردة اللوغوغرافيا (اللوغوغراف)، تعني: الكاتب العمومي ؛ الناسخ . يروي سقراط كيف أن البشر ينقذفون خارج ذواتهم عبر المتعة، ليغيبوا عن أنفسهم؛ ينسوها، ويموتوا في لذاذة الفناء."
ما يزال سقراط يلتزم الحياد؛ لا تشكل الكتابة بحد ذاتها عملاً شائناً، مجانباً للحياء ومخزياً (مسخرة) aiskhron ، إنما يشين المرء عندما يكتب على شاكلة مشينة." . الكل حاضر: أسطورة (الزيزان) وموضوعات البسيكوغوجيا (التلاعب بالأرواح والأنفس) والجدل والخطابة."
إن الإيعاز بصرف الأساطير إنما يحدث، في بداية الفيدروس، باسم الحقيقة. وسينبغي التفكير بحقيقة كون الأساطير تؤوب في لحظة الكتابة و باسم الكتابة؛ مع الكتابة؛ وبها تعود الأساطير وترجع. تخرج الأساطير وتُصرف لحظة إنتاج أو توليد الحقيقة، وتعود لحظة الكتابة وتؤوب. و (أَوَب): أصل واحد هو الرجوع. وكل غائب يؤوب " بعد غيبة أو تغييب الأسطورة وصرفها مع حضور الحق، تعود مع حجب الحق بالكتابة وتؤوب. والتأويب: تسبيح (تكرار اسم الحق بالكلام المُكرّر أو بالكتابة؛ وتنزيهه عن الحسيّات). والتسبيح هنا هو إحضار للحق بذكر اسمه وبنفس الوقت إبعاده عن النعوت و الصفات؛ أي تنزيهه. هذا ما نقوم به عند تلاوة التراتيل وتكرار التغنّي بها. الكتابة تكرار؛ نسخة أو صورة أو مثل للحق، والتدوين نسخ الصورة أو النسخة. سُبُّوح: اسم من أسماء الله؛ معناه: تنزّه من كل شيء لا ينبغي له." والإسطيرة: ما يُكْتَب"
يحدث الإيعاز إلى الأسطورة بالانصراف باسم الحقيقة (باسم الحق) (باسم حقيقتها ومعرفتها)، وبتحديد أكثر، باسم الحقيقة ضمن معرفة المرء نفسه (تعرُّف الحقيقة في النفس) هذا ما يوضحه سقراط".. فكتابة دلفي، أو حكمتها المكتوبة: Delphikon gramma ليست شيئاً آخر سوى وحي إلهي وتوجُّه، كمن يوجه أمراً، كلاً من رؤية الذات ومعرفة الذات" . هذه الرؤية والمعرفة للذات توضع في مقابل المغامرة التأويلية للأساطير (للكتابة/ النصّ)؛ للمكتوب."
الجغرافيا المسرحية؛ أسطورة الزيزان والحديث عن صرف الأسطورة (صرف الكتابة)؛ الأزّ واستحضار الكتابة عن الذات (كتابة سيرة ذاتية)؛ وصرف التسبيح أو وقفه؛ الانكفاء صوب صورة الذات، وفي الحديث النبويّ: "كان يصلّي ولجوفه أزيز كأزيز المرْجل من البكاء".
نقرأ في الصيدلية: "عند مشهد الإليسوس (أسرار مدينة إليسوس)، وعلى سبيل التهكّم يقترح سقراط حينئذ تفسيراً متفقهاً للأسطورة بالأسلوب العقلاني والفيزياوي الخاص بالسفسطائيين". كان المريدون لهذه الديانة السّرية يمثلون قصة أسطورية لكي يبعثوا في نفوسهم العواطف التي انفعلت بها الإلهة (الربّة) (وهو نوع من تحيين الحدث البدئي المقدس) ويتلون عبارات مبهمة، ويرقصون ويصيحون على صوت موسيقى صاخبة، لكي يحققوا حالة من الجذب أو الاتحاد بالإلهة (الربّة) ." ففي اللحظة التي كانت أوريتس تلعب فيها مع فارماسيه دفعتها ريح الشمال إلى الهاوية."
يتعرض الكتاب الرابع من كتب الأينيدة لفرجيل لقصة الملكة ديدو: غرامها ويأسها بعد هجر آينياس لها وانتحارها بعد تصميم آينياس على الرحيل عن قرطاجة "
أما أنا فأرى يا فيدروس أن في تفسيرات كهذه ما يجذب، لكن يلزم لذلك الكثير من العبقرية والتمحيص الدؤوب، ولا أحد يلقى هاهنا التوفيق كله." إن سقراط يعلّق هنا على التفسير الفيزياوي "العقلاني " للأسطورة؛ و يسخر من السفسطائيين.
في "الفيدروس" لنتمسك بحقيقة أن لطخة صغيرة ، أي عقدة [في النسيج] macula توجّه في خلفية اللوحة وطوال المحاورة، مشهد هذه العذراء المدفوع بها إلى الهاوية، والتي فاجأها الموت فيما تلعب وفارماسيه". فقد حكم على سقراط بالموت بأن يشرب قدح الشوكران المسموم ، لقد ترك هذا لُطخة لا يزول أثرها على سمعة العدالة الأثينية." هكذا يكون فارماسيه قد دفع إلى الموت طهارة بتولية وباطناً لم يمسّ. " التاريخ يبدأ مع الكتابة، والدين التاريخي يبدأ مع ظهور الأنبياء. أوريتيس تتحول إلى باطن (إلى طهارة بتولية) بموتها على يد فارماسيه. العذراء البتول المقدسة سوف تمثل في الكتاب كباطن كتابة مقدسة ، إثر موتها بفعل تقديم عقار.
و فارماسيه في اليونانية pharmakeia هو أيضاً اسم شائع يدل على تقديم الفارماكون أو العقار: العلاج أو السم (ترياق/ سم). لم يكن "التسميم" هو المعنى الأقل شيوعاً لفارماسيه."
لكن علينا أن نرى كيف يقارب القاموس العربي مفردة الأسطورة. "السطر: الصف من الشيء كالكتاب والشجر وغيره.. الجمع أسطر وسطور وأسطار ، جمع الجمع أساطير. والسطر: الخط والكتابة.. و ستطره: كتبه . والأساطير: الأحاديث التي لا نظام لها (قبل التكوين؛ والصحف العربية قبل التدوين) هي جمع لإسطار، وإسطير، وللكل: أسطورة. وسطّر تسطيراً: ألّف.. وسطر علينا: أتانا بالأساطير.. والمسيطر: المتسلِّط (لست عليهم بمسيطر). وأسطر فلان اسمي: أخطأ في قراءته (صحّفه) "
صرف الأسطورة باسم (الحق) ؛ صرف التمثيل والتصوير والتشبيه والمجاز؛ أي تنزيه الحقيقة عن كل تصوير أو تمثيل أو تسطير، من ثم عودة الصورة والتمثيل والتسطير بالكتابة، لأن الأسطورة تسطير وكتابة.
سقراط يشبّه بالعقار(فارماكون)؛ النصوص المكتوبة التي جاء بها فيدروس. إن هذا الفارماكون، هذا "العلاج"؛ هذا "الشراب" الذي هو في الأوان ذاته سمٌّ ودواء؛ المسطار؛ أي الخمرة الصارعة لشاربها، أو الحامضة والحديثة، والغبار المرتفع في السماء و الذي يخلط بين السماء والأرض ويزيل الفارق أو الفتق، يماثل الشراب الرديء الذي يقود إلى الاختلاط أو الخلط والتخليط. هذا العقار إنما يتسلل من قبل إلى جسم الخطابات بكل لَبْسه. يمكن أن يكون لهذا السحر؛ لهذا الجسد؛ لهذه القدرة على الفتنة، لقوة الاجتذاب هذه، في الأوان ذاته أو طوراً فطوراً، مفعولان أحدهما طيب والآخر خبيث". جاء في سورة يوسف: "قال ربي السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهُنّ أصبو إليهن وأكنْ من الجاهلين ، فاستجاب له ربّه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم"
كان يمكن أن يشكل الفارماكون جوهراً، هيولى أو مادة لطيفة substance بكل ما يمكن أن تتمتع به هذه المفردة من معان متعلقة بالقدرات الخفية والعمق السري المانِع (المانح) ثنائيته على كل تحليل، مهيئاً بذلك، ومن قبل فضاء الخيمياء (الكيمياء الصوفية). لكننا سوف نقر به لاحقاً باعتباره ضد الجوهر تحديداً. سوف يشار إليه وينعت بالضدية التي لا تنضب لرصيده، وبافتقاره لكل غور(لا غور له ولا قرار)."
إذ يمارس الفارماكون عمله بالإغواء فهو يدفع خارج الطرق والقوانين العامة، الطبيعية، والمألوفة. كانت المسالك المعهودة تحبس سقراط داخل المدينة. تعمل أوراق الكتابة بدفع أو بجرّ خارج المدينة. حتى في اللحظة الأخيرة وقصد الإفلات من سم الشوكران، ما كان سقراط يريد أن يبرح المدينة قط، إنها أي الأوراق تخرجه من ذاته، وتجبره على طريق هي بصريح العبارة طريق هجرة. جاء في سفر يوحنا اللاهوتي: "من يغلب (يهيمن) فسأجعله عموداً في هيكل إلهي ولا يودّ يخرج إلى خارج واكتب عليه اسم إلهي واسم مدينة إلهي أورشليم الجديدة النازلة من السماء، من عند إلهي " إنها محنة هيبا وترحاله وإغواء الكتابة وبدء تدوين سيرته؛ "حيرة ارتحال العين بين صفحات الكتب". سقراط الذي لا يكتب! حتى لا يغادر مدينته المقدسة؛ حتى لا يخرج منها؛ حتى لا يخرج من ذاته، ويبقى أميناً لوحي دلفي: اعرف نفسك!
يقول سقراط موجهاً كلامه لفيدروس: يبدو لي أنك اكتشفت العقار الذي يدفعني إلى الخروج. ألا تقاد الحيوانات بأن يهز أمامها، ساعة تكون جائعة، غصن أو ثمرة؟ هذا ما تفعله أنت، فبخطابات تبسطها أمامي في أوراق (رقوق) يبدو أنك ستجعلني أجوب إتيكا بأسرها." وحدها خطابات في أوراق، كلمات مؤجلة محفوظة مغلّفة مطوية (مطمورة في جرة) تدفع إلى انتظارها(لبوثها) في مادة، شيء صلب (رقوق) وفي حمايته، وتحفّز على الرغبة فيها في المدى الزمني لمسيرة (تدفع لترحال وسياحة) وحدها حروف مكتوبة تقدر على هذه الشاكلة أن تجتذب سقراط: ما كان لخطاب غير مؤجل أن يجتذب سقراط بهذه الطريقة؛ ما كان سيجر سقراط خارج نهجه (طريقه)؛ خارج المدينة، كما لو تحت مفعول عقار؛ فارماكون. ها نحن أمام الكتابة والفارماكون والحيدان. إنه الخروج من المدينة، الخروج من أورشليم؛ الخروج من الذات، الانقذاف خارجها، والغياب عنها بمتعة الشيئية. يقول ديريدا بخصوص ترجمة "الفايدروس": "لاحظتم ولا شك أننا نستخدم ترجمة لأفلاطون مُكرّسة (كتابية) ، تلكم هي ترجمة منشورات غيوم بوديه. المعتبرة ترجمة مرجعية bible وقام بها ليون روبان. سنواصل استخدامها موردين مع ذلك النص اليوناني بين قوسين، عندما يبدو لنا ذلك مناسباً، ولخطابنا ملائماً. هكذا مثلاً نفعل مع المفردة فارماكون. آنذاك سيظهر لنا بصورة نأمل أن تكون أفضل، تعدد المعاني، الذي مكّن عن غشامة أو عدم تحديد، أو فرط تحديد، نقول مكّن من دون أن يكون في ذلك خطأ، من ترجمة المفردة نفسها إلى "علاج" ، و "سم" ، و "عقار" و "شراب محبة"، الخ. كما نرى إلى أية درجة قُوضت الوحدة "التشكيلية" لهذا المفهوم، أو بالأحرى قاعدته والمنطق الغريب الذي يربطه بدالّه، تعرضت للبعثرة، قنّعت شوهت ، ولحق بها تعذر على القراءة نسبي، ذلك بالطبع بسبب من عدم تحوّط المترجمين، أو عشوائيتهم، وكذلك وفي المقام الأول بباعث من الصعوبة الرهيبة وغير القابلة للتذويب التي ترافق الترجمة "
الأوراق biblia تخرج سقراط عن تحفظه، ومن الفضاء الذي يجب أن يتعلم ويعلم ويتكلم ويحاور فيه؛ فضاء المدينة المسوَّر. يكتب هيبا في سيرته: "أتذكر جيداً ظهيرة اليوم الذي دخلت فيه أورشليم عبر الجزء المنهار من أسوارها العالية، الجزء الذي كان فيما سبق يمسك البوابة الكبيرة المسماة بوابة صهيون." هيبا يدخل أورشليم وقد انهار جزء من سورها لجهة اليهودية. لقد قوضت النصرانية جزء من العقيدة اليهودية. "دخلت أورشليم في حدود الثلاثين من عمري الذي كان قد أنهكه سفر الجسم و الروح في الأرض والسماوات، وحيرة ارتحال العين بين صفحات الكتب. دخلتها مترنح الخطو مستنداً إلى الهواء ، في قيظ شهر أبيب (تموز/ يوليو). "
الأوراق تخرجه من ذاته، هذه الأوراق تحمل في ثناياها النص المكتوب . إنه الخروج من الذات والبحث عنها في الشيئية؛ يكتب هيبا: "كنت قد مررت في تطوافي بالمواضع التي عاش بها تلامذة يسوع المسيح وانطلق منها الرسل. وقضيت شهوراً أتتبع خطى يسوع ، الموصوفة في الكتب والأناجيل، مبتدئاً بقرية قانا القريبة من الناصرة، حيث قام فيها المسيح بأولى معجزاته، بأن صيّر الماء خمراً لينهل ضيوف العرس، كما هو مكتوب في الأناجيل . في الناصرة لم أجد أي أثر يدلُّ عليه ، ولا أي مبنى باق ليحدث عن زمانه ! فاحترت ، ثم خرجت عن مساري (حدّت) إلى بقية القرى التي ذكرتها التوراة والأناجيل والكتب المقدسة القانونية المكرّسة بقانون الإيمان ، والأسفار غير القانونية التي صرنا مؤخراً نسميها الأبوكريفا ، انتابني في جولاتي شكوك كثيرة وعاينت أهوالاً في مناماتي حتى مرّت علي سنوات التيه الثلاث ، وجاءت تلك الليلة الرائقة التي رأيت فيها يسوع المسيح في حلم ناصع وهو يملأ بأنواره السماء ، قائلاً لي بالآرامية ما معناه : إن كنت تبحث عني أيها الحائر الضال ، فاترك نفسك وراءك، ودع الموتى ، وتعال لرؤيتي في أورشليم، كي تحيا ." قال تعالى : "وجعلنا بينكم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة " ؛ قال الشيخ للسهروردي: "ما دمت في هذه القرية فلا يمكنك أن تتعلم كثيراً كلام الله تعالى"؛ اخلع نعليك وتعال لرؤيتي. يقول أحمد عثمان: "مع أننا نقترب الآن من نهاية الألفية الثانية للتاريخ الميلادي إلا أنه يكاد لا يكون لدينا أية معلومات تاريخية مؤكدة عن حياة السيد المسيح نفسه. وقد تبين أن كتابة أول الأناجيل التي لدينا الآن لم تتم إلا بعد مرور نصف قرن من الزمان على الأحداث التي تتكلم عنها، ثم أدخلت عليها التعديلات بعد ذلك خلال الأعوام العشرين التالية"
خلاصة الأحداث التي تشمل ولادة ودعوة وموت المسيح على النحو التالي وكما هي في الأناجيل الكتابية المكرّسة: ولادة يسوع في بيت لحم أيام حكم الملك هيرودوس الذي حكم فلسطين، انتهت بوفاة المسيح في العقد الرابع للميلاد . هروب مريم أم المسيح إلى مصر عقب ولادته خوفاً عليه من بطش الملك الذي أخبرته النبوءات أنه (المسيح) سيرث عرش داوود وحدّدت مكان وزمان ولادته. لم ترجع مريم بابنها إلا مع موت هيرودوس ، وذهبت به إلى بلدة الناصرة في الجليل شمال فلسطين. في الثلاثين من عمره ذهب يسوع إلى وادي الأردن حيث التقى يوحنا المعمدان الذي عمّده بالماء وسط النهر. يعتكف يسوع في خلوة لمدة أربعين يوماً في الصحراء ويدخل في صراع مع الشيطان الذي حاول إغراءه (بالسلطة الزمنية) بمنحه ممالك العالم. الشيطان يفشل في مهمته. يذهب يسوع إلى الجليل ليختار حوارييه الاثني عشر(النقباء) ويبدأ دعوته ، ما أثار حقد كهنة المعبد الصدوقيين والأحبار الفريسين. ذهب إلى مدينة القدس قبل الفصح وراح يبشر داخل المعبد ما زاد من غضب الكهنة ، فتآمروا وأرسلوا حرساً للقبض عليه بمساعدة أحد حوارييه يهوذا الأسخريوطي الذي خانه، وكان يستريح يسوع مع تلامذته عند جبل الزيتون شمال المدينة. تعاد محاكمته على يد بيلاطس الوالي الروماني على فلسطين. تنتهي القصة الإنجيلية الرسمية بإعدام يسوع على صليب خشبي من قبل الرومان، حيث يقوم بالجسد من بين الأموات في اليوم الثالث، حيث اختفى جسده من المقبرة، ثم ظهر لحوارييه وحثّهم على نشر التعاليم المسيحية بين الأمم . في استجواب بيلاطس له وسؤاله لم يردّ عليه يسوع واستغرب بيلاطس من عدم دفاعه عن نفسه، وأصرّ كهنة المعبد اليهود على محاكمته وإعدامه على الصليب الخشبي الروماني ذو الطرف السفلي الطويل.
المسألة حسب باول لا تتعلق بالعقيدة المسيحية نفسها، وإنما بدعوى الشرعية التي ارتكزت عليها الكنيسة الرومانية في سلطتها. ذلك لأن بابا هذه الكنيسة والذي يمثل الكاهن الأعلى، يستمد سلطته من كونه ممثل السيد المسيح على هذه الأرض ، هذا التمثيل كما تصرّ كنيسة روما جاء بناء على تفويض أخذته عن طريق المسيح شخصياً. يقول أساقفة كنيسة روما أن المسيح بعد قيامته بالجسد في اليوم الثالث أعطى تلميذه بطرس تفويضاً ليخلفه في رئاسة المسيحيين، وأن بطرس سافر إلى روما لينقل هذا التفويض إلى كهنة الكنيسة هناك، حتى قيل أن مقر الفاتيكان قد بني على ضريحه (وهذا صحيح عن طريق المجاز ) حيث لا يوجد أي دليل على سفر بطرس إلى روما، بل هناك ما يشير إلى موته في السجن حوالي العام 40 ميلادية في القدس " . حقاً لقد بنى الفاتيكان مكانته على ضريح بطرس!.
هذه هي الخلاصة التاريخية لحياة يسوع وموته على الصليب الواردة في الأناجيل المُكرّسة الأربعة. الغريب في الأمر هو عدم وجود أية إشارة ولو بسيطة أو عابرة إلى هذه الأحداث في المصادر التاريخية المعاصرة لتلك الفترة سواء في ذلك المصادر الرومانية أو اليونانية أو اليهودية" . إن النتيجة التي توصل إليها باول أخيراً من أن النسخة الأصلية من إنجيل متّى لم يكن بها ذكر لصلب المسيح. وهو يرى أن إنجيل متّى لا يمثل سرداً تاريخياً لحياة السيد المسيح، وإنما هو في حقيقته جدل لاهوتي قُدِّم بطريقة الرمز والمجاز"
أبرع الكتّاب الحاليين إنه ليسياس: يحمل فيدروس النص، أو إذا شئتم الفارماكون، مخفياً تحت عباءته، هو بحاجة إليه لأنه لا يحفظ النص عن ظهر قلب.
سقراط: بعدما تريني أيها العزيز، ما تخفيه في يدك اليسرى تحت عباءتك، إنني أراهن أنه النص ذاته."
فيما شرع فايدروس بالقراءة، وفيما كان الفارماكون قابعاً تحت عباءته، يتم استحضار فارماسيه وصرف الأساطير. أحسب أن الناس ستقول هذا الرجل مجنون، فلأنه سمع حديثاً في موضع ما من كتاب ek bibliou أو اهتدى صدفة إلى بعض الأدوية pharmakiois بات يتصور نفسه طبيباً ، هو الذي لا يفقه في هذا الفن شيئاً ". إننا نلحظ هنا علاقة بين الطب (استخدام العقاقير) والكتابة؛ أليست الكلمة المكتوبة فارماكون؛ عقار أو علاج، الخ.. لكن ما يزال هذا الجمع بين الكتاب والفارماكون يبدو برانياً. ثمرة صدفة." فهؤلاء الرهبان (العيسويون في قمران بين القرن الثاني قبل الميلاد- القرن الأول بعده) يستخدمون العقاقير لعلاج بعض الأمراض المستعصية. إلا أنهم لم يكونوا أطباء أو اشتهروا بممارسة الطب" . غير أن المقصد والنبر هما نفسهما، فالريبة ذاتها تكشف، وفي الحركة عينها، كلاً من الكتاب والعقاقير، الكتابة والنشاط الإخفائي، الغامض المحكوم عليه بالتجريبية العشوائية والمصادفة، والعامل بموجب طرائق السحر لا بما تقتضيه الضرورة."
إن الكتابة والمعرفة الميتة و الجامدة، المكتوبة في الأوراق، والخطابات المتراكمة والسجلات والوصفات والصيغ المحفوظة عن ظهر قلب، هذا كله غريب على المعرفة الحيّة والحوار غرابة الفارماكون على علم الطب، وغرابة الأسطورة على المعرفة." الأسطورة بما هي فجر المنطق واللعثمة الأولى" الأسطورة كحديث غير منتظم .
أصل الكتابة فارماكون (عقار؛ سم / ترياق) ، هذا ما يؤسس لعلاقة الطب بالكتابة. الكتابة وأسطورة توت (تحوت)؛ الأثر المصري على أفلاطون. في أسطورة توت: تقدم الكتابة وتقترح ويعلن عنها بوصفها فارماكوناً؛ بوصفها علاجاً لضعف الذاكرة (زيادة؛ تتمة؛ تكملة ؛ نقص، الخ). إن سؤال الكتابة إنما يتموقع وينتظم في لحظة التعب الشامل هذا، في لحظة الشك وتزعزع إيمان هيبا على أثر الحكم على نسطور بالحرمان الكنسي والنفي خارج المدينة والطرد. إن مسألة الكتابة إنما ترتبط بموضوع الأخلاق؛ هذا القلق الأخلاقي لا يتميز إطلاقاً عن مسألة الحقيقة والذاكرة والحوار. تحضر المسألة في سجال أصبح شديد الراهنية بفعل النمو السياسي للمدينة وانتشار الكتابة وفساد السفسطائيين والكتّاب. التشديد يتجه إلى اللياقات السياسية و الاجتماعية. ومعرفة إذا كان يليق بها أن تكتب أو لا تكتب."
يوحي سقراط بأن الكتابة هي إشاعة أقدمين، لا تشكل موضوع علم؛ مجرد حكاية مروية. هكذا تتشخص علاقة الكتابة بالأسطورة، وتعارضُها مع المعرفة؛ مع الخطاب العقلاني أو اللوغوس؛ معارضتها مع المعرفة التي يستمدها الإنسان من ذاته وبذاته. فعبر الكتابة وعبر الأسطورة يعبر عن الانقطاع النسبي والابتعاد عن الأصل. إن ما تتهم به الكتابة في موضع أبعد - ألا وهو التكرار عن غير معرفة- إنما يحدد المسار الذي يقود إلى العبارة l,enoncé وإلى تحديد منزلتها، بدأت المحاورة بتكرار من غير معرفة (تكرار التراتيل والقداديس) . منذ هذه اللحظة لا تقوم هذه القرابة بين الكتابة والأسطورة (المميزتين كلتاهما عن اللوغوس logos والحوار dialogue) إلا بالتشخّص. كانت مفاجأة عندما وجد الباحث الهولندي بداية النص وجاء فيه ما يلي: "هذه هي الكلمات السريّة التي قالها يسوع الحي ودونها ديديموس جوداس توماس"
سقراط يؤسس محاججته ضد الكتابة (مرافعته) على أساس أن الكتابة تتمثل في التكرار من غير معرفة. وأنها تقوم على akoé (إشاعة الأقدمين)، وعلى البنيات المقروءة عبر شجرة أنساب أسطورية للكتابة (أسطورة الحروف والبنية اللغوية والنحوية ودلالات الأقدمين، الخ..) " حسن، أنتم يا أدنى الأدنياء! أنا أشير إلى مهنة القانون كلها، جميعكم يا كتبة القانون أشباه أنعام، ويا أيها المحامون أشباه الجوارح- أمندهشون أنتم حقاً من فساد القضاة المحدثين." أمّا عن أولئك واضعي القانون الذائعي الصيت، أولئك المثقفين اللامعين ، أولئك العلماء المشهورين، أهل أثينا في الزمن القديم، فما هو الحكم الذي أصدروه في قضية سقراط ذاك الذي أشاد بحكمته هيكل دلفي فوق حكمة البشر أجمعين؟ ألستُ محقاً في قولي أنه بغدر وغيرة عصبة خبيثة ذُنّب (جُرِّم) بإفساد الشباب . والحقيقة أن فلسفته كانت موجهة نحو كبح جماح عواطف الشباب وليس إثارتها. "
(دُون) أصل واحد يدل على المداناة والمقاربة ؛ هذا دون ذاك أي أقرب منه، ويقال في الإغراء : دونَكَه. قال القتيبي: دان يدون دوناً، إذا ضعف ، وأدين إدانة.. والشيء الدون: الهيّن. دوه: الدّوَه: التحيّير" وفي القاموس المحيط: دُون: نقيض فوق ، ويكون ظرفاً وبمعنى أمام، ووراء ، وفوق ضِدّ. وبمعنى: غير ، والشريف والخسيس ضد ، وأُدين بالضم: صار دوناً خسيساً أو ضعف. والدّيوان ويفتح: مجتمع الصحف، والكتاب يكتب فيه أهل الجيش وأهل العطيّة ، وأول من وضعه عمر. " . وهيبا دون ، ودَوَه.
والترجمان: المفسر للسان، والرَّجْم: القتل، والقذف والغيب والظن، واللعن والشتم، والهجران والطرد ورميٌ بالحجارة، والتُّرجمان؛ كتاب مُرجّم لا يوقف على حقيقته ، هو المِرْجاس ."
جاء في تراجم (سيرة) عزازيل: "أنت وحدك يإلهي الرحيم، تعلم أنني اقتنيت هذه الرقوق قبل سنين من نواحي البحر الميت، كي أكتب فيها أشعاري ومناجاتي لك في خلوتي، ليتمجد اسمك بين الناس في الأرض مثلما هو مجيد في السماوات. وكنت أنوي أن أدوِّن فيها ابتهالاتي التي تقربني إليك، وقد تكون من بعدي صلوات يتلوها الرهبان ، وأهل الصوامع الأتقياء في كل زمان ومكان. وها أنا لمّا حان وقت التدوين، أوشك أن أكتب فيما لم يخطر لي من قبل على بال، وقد يجرّني إلى طريق الويل والوبال، يا إلهي أتسمعني، أنا عبدك المخلص، الحيران؛ هيبا الراهب وهيبا الطبيب وهيبا الغريب. إنني مشفق مما أنا مقبل عليه، ولكنني مضطر. فأنت تعلم في سماواتك البعيدة كيف يحوطني إلحاح عدوي وعدوك اللعين عزازيل الذي لا يكفّ عن مطالبتي بتدوين كل ما رأيته في حياتي. أنقذني يا إلهي الرحيم من وسوسته ومن طغيان نفسي. لا زلت أنتظر منك إشارات لم تأتِ ولو تركتني لنفسي أضيع"؛ "وإلا تصرف عنّي كيدهن أصبوا إليهن وأكن من الجاهلين" صارت نفسي معلقة من أطرافها، تتنازعها غوايات عزازيل اللعين ونكايات أشواقي، بعد ابتعاد مرتا التي انقلبت معها دولة باطني.
تركت الطبيعة ومتعتها وها أنت مخذول من التاريخ والإمبراطوريات ، في زمن مفكك ، خارج عن محاوره ، ظالم، فعادت إليك الذكريات ؛ ذكريات الولادة الأولى . وها هي تدول دولتك الصوفية الباطنية المتجاوزة للحسيات؛ دولتك الأيديولوجية. فنحن هنا أمام مفهومين للحزب: واحد سياسي وآخر أيديولوجي.
يكتب هيبا: "بسم الإله المتعالي أبدأ في كتابة ما كان وما هو كائن من سيرتي ، واصفاً ما يجري من حولي وما يضطرم بداخلي من أهوال. وأول تدويني هذا، الذي لا أعرف كيف ومتى سيكون منتهاه ، هو ليلة السابع والعشرين من شهر توت (أيلول، سبتمبر) سنة 147 للشهداء ، الموافقة لسنة 431 لميلاد يسوع المسيح، وهي السنة المشؤومة التي حُرم فيها وعزل، الأسقف المبجّل نسطور، واهتزت أركان الديانة. وقد أحكي ما جرى بيني وبين مرتا الجميلة من غوايات وعذابات ، وما كان من أمر عزازيل المراوغ اللعين، وأقص بعضاً مما وقع مع رئيس هذا الدير الذي أسكن فيه ولا أجد السكينة (الشكينة). وسوف أروي بين الثنايا، حكايا عايشتها منذ خروجي من بلادي الأولى الواقعة بأطراف بلدة أسوان جنوب مصر، حيث يجري النيل الذي كان أهل قريتي يعتقدون أنه ينبع من بين أصابع الآلهة، ويهبط ماؤه من السماء. وكنت في صغري أعتقد ذلك الوهم مثلهم (كنت وثنياً) حتى تعلمت ما تعلمته في نجع حمّادي وأخميم، ثم في الإسكندرية (من الغنوص النصراني). فأدركت أنه نهر كبقية الأنهار، وأن بقية الأشياء مثل بقية الأشياء ، لا يمتاز منها إلا ما نميزه نحن بما نكسوه به من وهم وظن واعتقاد"
ولد هيبا في بيئة وثنية مصرية وقام انطلاقاً منها بسياحة من صعيد مصر( أخميم) منتهياً بدير بالقرب من مرعش شمال حلب السورية. ولسوف يقطع نسطور الطريق بالعكس عائداً إلى أخميم ؛ وكأننا أمام رحلة مزدوجة شبيهة بتلك التي قضاها موسى مع فتاه. "وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا(60)، فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا(61 ) فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غدآءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا(62) قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا(63) قال ذلك ما كنا نبغي فارتدّا على آثارهما قصصا( 64) فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلّمناه من لدّنّا علما(65 ) . لكن مسيرة نسطور لا تتعلق بديالكتيك العِرْفان، بل بفزع الإمبراطورية البيزنطية وكنيسة روما من التيارات النصرانية الغنوصية في مصر و الإسكندرية وإنطاكيا في غرب آسيا.
يقول هيبا: من أين أبدأ تدويني ؟ البدايات متداخلة ومحتشدة برأسي. في الحياة وفي الكون كله، كل شيء دائري يعود إلى ما منه بدأ لنعود ما منه ابتدأنا، آه لحيرتي، الذكريات دوامات متتالية، ومتداخلة. فإن استسلم لها وأحكيها بقلمي، فمن أين أبدأ؟ هذا العود الأبدي قد يكون علامة على نمط الإنتاج الآسيوي الراكد ذي الزمن الليتورجي؛ الدوري؛ وقد يكون علامة على التحيُّر وعدم القدرة على التوجه في زمن مخلّع المفاصل؛ ظالم. سأبدأ من الحاضر، من اللحظة الحالية." فالمعنى راهن دوماً .
ويضيف هيبا: علّقت على الحائط صورة للعذراء مريم محفورة على الخشب، فإنني يريحني النظر إلى وجه العذراء الأم".
أبوقراط الذي علّم الإنسانية الطب بأن جرؤ على تدوينه في الكتب، ترى هل كان عزازيل هو الذي دعاه للتدوين؟ وأنا سأبدأ تدويني هنا بالحديث عن نسطور.
"كتب أسقف الاسكندرية كِيُرُّلس عمود الدين رسالة إلى الإمبراطور ثيودوسيوس الثاني، جاء فيها: كان هناك شخص ما اسمه تيودور (المصيصي) وقبله ديودور (الطرسوسي) كان الأخير أسقف طرسوس، والأول أسقف موبسويستيا (المصيصة) وكان هذان هما أبوي تجديف نسطور ، ففي الكتب التي ألّفاها، تكلّما بجنون شديد ضد المسيح مخلّصنا جميعاً، لأنهما لم يفهما سره ، فأراد نسطور أن يدخل تعاليمهما في وسطنا، لذلك عزله الله (الإمبراطور). وكل ما كتبه القدّيسون، هو على العكس من آراء تيودور، ونسطور الشرير" . وكِيرُلُّس هذا نشأ نشأة رهبانية صارمة، وتلقّى المعارف الكنسية في الإسكندرية، وأديرة وادي النطرون بصحراء مصر، ثم تولى الأسقفية البابوية بعد وفاة الأسقف البابا ثيوفيلوس سنة 412 ميلادية، وظل أسقفاً حتى نياحته (وفاته) سنة 444م
ولد نسطور في قرية مرعش الشامية، الواقعة من جهة الشمال من حلب ، وقد كانت هذه البلدة في زمانه تسمى باليونانية جرمانيقي، وكان مولده سنة 380 ميلادية . وقد اتخذ اسمه الكنسي هذا (نسطوريوس) حين صار راهباً بدير بقرب إنطاكية، هو دير أوبريبيوس . ثم ترقّى في خدمته الكنسية، حتى اعتلى كرسي الأسقفية بالعاصمة الإمبراطورية (القسطنطينية؛ اسطنبول) سنة 428 ميلادية. وقد استبدت به بعد توليه هذه السلطة أحوال حادة، خاصة مع قوة صلته بالإمبراطور، فعمم على الناس مكتوباً، يحظر عليهم فيه تسمية مريم العذراء بلفظ (ثيوتوكوس) أي والدة الإله ، وذلك لأن الإنسان الذي هو "مريم" لا يمكن له أن يلد الإله."
والمؤرخون الكنسيون المعاصرون، يعتقدون أن نسطور تأثر بمبدأ (التبنّي) الذي نادى به بولس السميساطي ، وأحيى أفكاره الخاصة بأن الاتحاد بين الله والمسيح، هو فقط اتحاد خارجي تم حسب المسارّة (استلام الأسرار) والبشارة. كان نسطور على نحو ما، امتداداً للنمط الاجتهادي الذي قدّمه آريوس من قبله بقرن من الزمان، لأن آريوس هو الذي توسع في مفهوم (التبنّي) وجعل منه قاعدة لفهم طبيعة المسيح. وفي عبارة له وجهها إلى الإمبراطور ثيودوسيوس الثاني، أثناء خطبة رسامته (عظته الأولى)، قال: "أيها الإمبراطور أعطني الأرض نقية من الهراطقة، ولسوف أعطيك السماء. ساعد في حربي ضد المهرطقين، ولسوف أساعدك في حربك ضد الفرس"" . لكن ما فات نسطور هو أن الإمبراطورية ليست بحاجة لحقائق وجودية بل هي بحاجة إلى أيديولوجية تخضع بها الشعوب المستعبدة!
بخصوص عقيدة نسطور نقرأ من كلماته قوله: "إنهم يدعون أن اللاهوت مُعطي الحياة، قابل للموت (إشارة إلى صلب المسيح وموته وقيامته) وهم يتجاسرون على إنزال الكلمة ؛ اللوغوس إلى مستوى الخرافات المسرحية . فكأن الكلمة طفل، كان ملفوفاً بخرق (القِماط) ثم بعد ذلك يموت! (يسخر نسطور في هذا المكان من الديانات الكونية الطبيعية الوثنية) إن بيلاطس لم يقتل اللاهوت ، بل حُلّة اللاهوت (وما قتلوه وما صلبوه حقا، ولكن شبه لهم ). ولم يكن اللوغوس هو الذي لُفّ بثوب كتّاني (حين كان المسيح طفلاً) ولم يمت واهب الحياة ، ومن الذي سوف يحييه ثانية إذا هو مات. الذي تشكل في رحم مريم (رحم الطبيعة الجسمية) ليس الله بنفسه. ليس الله هو الذي تألم ، سوف ندعو العذراء القديسة ثيوذوخوس (وعاء الإله؛ متلقي الوحي ) وليس ثيوتوكوس (والدة الإله) ، لأن الله الآب وحده، هو الثيوتوكوس، ولكننا سوف نوقر هذه الطبيعة التي هي حُلّة الله ؛ مع الله الذي استخدم هذه الحلّة."
هذه الأقوال أثارت كنيسة الإسكندرية التي دعت من فورها، بعد بضع مراسلات، إلى عقد مجمع مسكوني لمحاكمته على تلك الأقوال الهرطوقية. واستجاب الإمبراطور ثيودوسيوس الثاني لطلب الأسقف السكندري؛ كيرُلُّس، فانعقد المجمع المسكوني في بلدة إفسوس، سنة 431 ميلادية. فقد وصل نسطور مع أساقفته الستة عشر إلى إفسوس قبل الجميع، ولما وصل إليها الأسقف كيرُلُّس مع جماعة من الأساقفة المعادين لنسطور، بادر قبل وصول الإمبراطور من القسطنطينية والبابا من روما، وعقد بالكنيسة مجمّعاً برئاسته هو، في غيبة البابا والإمبراطور. استدعى هذا المجمع الأسقف نسطور لمساءلته عن اعتقاداته، ومحاكمته عليها . كانت ثلاثة استدعاءات، تجاهلها نسطور جميعاً ، لأنه لم يعترف بقانونية هذا الاجتماع، ولم ير فيه مجمعاً أصلاً. ومع ذلك أرسل (المجمع إلى نسطور) "وثيقة إيمان"، ليعترف بها، فيها إقرار بأن المسيح هو الله فكان رده : لن أدعو أبداً طفلاً عمره شهران أو ثلاثة الله"
ملخص وقائع أفسوس: اتخذ الأساقفة المجتمعون برئاسة كيرُّلُس قراراً بعزل نسطور من منصبه، وحرْمه كنسياً. كان ذلك قبل وصول الأسقف يوحنا الإنطاكي (نصير نسطور) وقبل وصول الإمبراطور والبابا . وردّ نسطور على ذلك القرار الذي رآه ساعتها غير قانوني، بأن اجتمع مع فريق آخر من الأساقفة المؤيدين له، في أفسوس أيضاً؛ واتخذوا قراراً بعزل كيرُّلُس من منصبه وحرمه كنسياً. فلّما وصل الإمبراطور والبابا إلى أفسوس، تقدم إليهما الطرفان بالقرارات التي انتهى إليها الجمعان فرفضها الإمبراطور كلها، وأصدر قرار بخلع نسطور وكيرُّلوس، كليهما. ولكن بعد فترة أصدر الإمبراطور قراراً سياسياً بإعادة كيرُّلُس إلى منصبه، والإبقاء على نسطور معزولاً، بل وتحديد إقامته في دير أوبريبيوس . وفي سنة 435 ميلادية، صدر قرار إمبراطوري آخر، بنفيه إلى صحراء البتراء العربية ويقال إنه نفي بعد ذلك إلى الصحراء المصرية أو بلدة أخميم حسبما يؤكد الأقباط وهناك مات مغموراً سنة 449 ميلادية"
فقد افتتح الإمبراطور في مكان بيزانس القديم ، وفي مكان رائع على مضيق البوسفور "المدينة الخالدة" "روما الجديدة". القسطنطينية أو مدينة قسطنطين. فعلى هذه الشواطئ، وفي ملتقى تيارات العالم القديم السياسية- الجغرافية يمكن أن يستعيد الإنسان بنظرة أكثر الأحداث الماضية تألقاً، ويتأمل في الوقت نفسه مستقبل البحر الأبيض المتوسط. فطرق المواصلات الدانوبية، وخط الفرات وطريق النيل تجمع وتوجه، نحو نقطة الالتقاء العربية-الأوربية، أي في القسطنطينية، ثروات أوربا وجنوب شرق قارة آسيا، أي الصين والهند، والقارة الإفريقية. وستبقى الشروط الجغرافية والاقتصادية لسياسة العالم القديم حتى حفر قناة السويس هي ذاتها لا تتغير مثلما كانت عليه في عهد قسطنطين. والواقع أن انتقال عاصمة الأعمال في القرن الرابع من الإسكندرية إلى القسطنطينية قد كرّس أهمية بلاد الشرق الأقصى التي أخذت موضع قدم لها في أفريقيا. فمدينة القسطنطينية باعتبارها ملتقى طرق التجارة، هي أيضاً ملتقى حروب." كذلك فإن النظام الاقتصادي البيزنطي متشابك مع نظام الساسانيين (الفرس) الاقتصادي الذي كانت مراقبة طرق الشرق القوي فيه تشمل المناطق الآسيوية من سمرقند وبخارى حتى سيلان. لقد كانت القسطنطينية وطيسفون وهما تتحاربان (في القرن الرابع) بحاجة كل منهما للأخرى، فكل منهما تفتش عن حلف مع القوط والمصريين والمدن العربية أو الأثيوبية. مسلحين إياها حتى الأسنان ومهيئين إياها للخراب. وكان يوجد في جيش شابور الأول، الذي تسبب في هزيمة مخجلة، عدة فرق من الهون ومن عرب شبه الجزيرة العربية. ولقد حاول (الرومان) في القرن الرابع ، وفي ظل إمارة قسطنطين ، ثم كونستانس وجوليان وتيودوسوس الكبير، أن يقيموا نوع من الوحدة الظاهرية للإمبراطورية المقسمة جغرافياً إلى أربع ولايات، لتأمين الحدود، وبخاصة لتأسيس ديانة دولة لمعارضة الكنيسة الساسانية وكان ذلك صعباً في دولةٍ فيها العقائد والكنائس، كثيرة جداً، ومتنوعة ، متعارض بعضها مع بعض الآخر، وبينها فروق حادة تمنع من فرض عبادة وحيدة، ولقد حاول قسطنطين ذلك. قامت الإمبراطورة هيلينا أمّه التي كانت مسيحية، باستقصاء في فلسطين بحثاً عن آثار حياة المسيح المادية (لوثة الوثنية). كان قسطنطين مبتدئ التنصر طوال حياته، كان يتلقى العماد ويوصي به دائماً، مودّعاً حياة الوثنية الفلسفية التي لم تكن تبدو بالنسبة له بعيدة أبداً عن الرسالة المسيحية. ولكنه وهو يأمل بأن تكون المسيحية ملائمة لمخططاته، بدأ بالإعلان في مرسوم ميلان لسنة 313 ميلادية، عن حرية الاعتقاد المسيحي، دون أن يحرم العقائد الأخرى، ولم يغلق المعابد الوثنية إلا سراً على الأقل. يبقى أن نعرف ما هي المسيحية المعتمدة ذلك الوقت . فقد ألحّ الأسقف السكندري (من أصول ليبية) آريوس على طبيعة المسيح البشرية، مؤكداً أنه لم يكن إلهاً ، ولكنه من خلق الله (إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله) . وكان سكندري آخر هو أتاناس يبشّر على العكس من ذلك بألوهية المسيح، وهي وجهة نظر روحية بعيدة عن المقولات العقلية و متأثرة بالديانات الوثنية؛ الدين الكوني /الطبيعي؛ سواء عند اليونان أم عند فراعنة مصر؛ حاكم- إله؛ ممثل الإله المتعالي. ، لذلك وجب الحكم على آريوس. ورأس قسطنطين بنفسه سنة 325 مجمع نيقيا وألقى فيه خطبة الاحتفال. وأُنذر آريوس رسمياً بأن يرجع عن آرائه، بينما كان الآباء التوفيقيون يؤلفون عَقْد الإيمان (قانون الإيمان) الذي حرره أتاناس. والذي هو التالي: "إننا نؤمن بإله واحد، هو المسيح عيسى، ابن الله، ابن الله الوحيد، إله ولد من إله ، نور منحدر من نور ، إله حقيقي مولود من إله حقيقي، مولود وليس مخلوق، مشارك الأب في الجوهر "
"إن كل الدراسات للعقليات الحاضرة لابد من أن تستدير إلى ماضي الحضارات الذي لا ينتهي . وهكذا تشكلت عبر العصور ديانتان مسيحيتان هما في الواقع استعادات لحقيقتين سابقتين عاشت كل منهما أمداً طويلاً ، أولهما تمركزت في روما والغرب، والثانية تمركزت في روما جديدة هي القسطنطينية، ولكنها تمركزت أيضاً في اليونان التي لم تكن جديدة بالتأكيد. فيما تختلف هاتان المسيحيتان عن الأخرى؟ "الشرقية" توضعت في العالم الإغريقي الذي أخضعته روما ولكنها لم تتمكن من هضمه، والثانية توضعت في المنطقة الغربية التي كانت على وجه التحديد منطقة النجاحات الرومانية "
نلحظ فوراً ان الديانتين الأختين ، على الرغم من أن حب المسيح يغلفهما كلتاهما ، فإنهما متباعدتان لأن الكلمات المفاتيح ليس لها المعنى نفسه. فالحقيقة في اللغة اليونانية ، وأكثر من ذلك وضوحاً في اللغة السلافية ، تعني ما هو دائم وخالد ، ما هو موجود حقاً خارج نطاق العالم المخلوق كما تدركه عقولنا ، فكلمة برافدا Pravda إذن تدل في آن واحد على الحقيقة وعلى العدالة ، إنها تشمل العلم وممارسته " وهو ما تقول به الديانات التاريخية. الحق منزّه عن الأغراض والعقائد والأيديولوجيات وأهواء السلطات الحاكمة "أما في اللاتينية فإن الحقيقة ، على العكس من ذلك تدل دائماً على اليقين، فهي حقيقة لعقلنا . وسر القربان في الغرب يجعل تسلسل المراتب الدينية ، وحده القادر على أن يضفي عليه صفة القداسة،" الولاء للسلطة الحاكمة والإيمان الأعمى المقدس بدين السلطة وعقائدها هي التي تكمن في أصل القربان المقدس، القداسة للسلطة الحاكمة وأسرارها، فهي المؤتمنة على هذه الأسرار من التحريف. أما في الشرق ومنه اليونان فإن سر القربان المقدس سر يتجاوز حواسنا ويأتي مباشرة من الله." إن هذا السر مرتبط بفكرة التنزيه الشرقية؛ الحق منزه عن السلطات وعن الشهوات والمصالح وأهواء الحكام. "والإسلام مرتبط ارتباطاً لا شبهة فيه بأرض الشرق الأدنى التاريخية الكثيفة" إن روما هي علامة الغرب ومكّة هي علامة الشرق الأدنى. واليونان والسلاف بينهما حيث تحضر العدالة مع الحق لأنه لاحقيقة من دون نقد التراث الذي تسلمه عصرنا الراهن. ولا عدل من دون تقويم لاعوجاج العصر بالممارسة الاجتماعية/ السياسية وإعادة الأمور ووضعها في نصابها.
سوف يردّ القرآن لاحقاً على هذا "التحريف " لكلام الوحي بالقول: "قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن لهو كفواً أحد" ويقول في مناسبة أخرى: "لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم ". في كل الأحوال. رسم مجمع نيقيا عشرين نسخة من مجموعة الشرائع الكنسية أو قواعد النظام: واعترفت الشريعة السادسة (شريعة دين الدولة) لأسقف الإسكندرية، في أراضي مصر، بالسلطات نفسها التي يتمتع بها أسقف روما في إيطاليا، وهوإغراء لمصر كي لا تتحالف مع الساسانيين. أمر جدير بالتنويه هو أن الشريعة السادسة ترفض أن تسند لأسقف إليا (اسم القدس الرسمي) حقاً، سوى حق شرفي ، بينما يتمتع أساقفة إنطاكيا وبعض المناطق الأخرى ، "بحقوق قديمة" لم تكن طبيعتها واضحة."
لأول مرة تحاول الدولة (الإمبراطورية ) غربي الفرات أن تفرض على الشعب ديناً، مخالفة بذلك وبشدة التقليد المتوسطي (الآسيوي/ الآرامي) المعاكس الذي كان الصفة المميزة له منذ آلاف السنين. يصعب علينا تخيل الذعر الذي أصاب الشرق تجاه إعلان قرار نيقيا الذي فسر أنه إعلان حرب مضاعفة ضد الساسانيين أولاً، وضد التقليد العربي (الآسيوي/ الأرامي) ثانياً. وبينما اتخذ كثيرون من مريدي آريوس وجهة طيسفون ، حيث شهدوا أكرم استقبال، لم تفعل إنطاكية سوى التحفظ على أوامر مجمع نيقيا . وكان الخطر الأكبر هو أن تغدو آسيا الصغرى تابعة للساسانيين ، وجمع الإمبراطور تيودوسيوس الكبير - لكي يتجنب الحركة الانفصالية - مجمع القسطنطينية في سنة 381 م ، وتداول في أمر معاقبة مصر مرة ثانية على الأريوسيّة، والرد على محاجة الفقهاء السكندريين؛ فقد أُعلن أن الروح القدس ينبثق عن الآب والابن. وولدت عقيدة التثليث، وكبر تقدير الإسكندرية، إلى حد أن بطريقها (أسقفها) كان ينظر إليه وكأنه وريث الفراعنة والجدير بمقر الحبر الأعظم الذي يتمتع في الشرق بسلطة توازي سلطة البابا؛ أسقف روما." وتركّز في الوقت نفسه انقسام "العالم العربي" [الآسيوي /الآرامي] إلى عالمين، على جانبي الفرات، ويا للمصادفة التاريخية! سوف يقود التحكيم بين علي ومعاوية إلى خلع علي وتثبيت معاوية عند الفرات، وسيكون انقسام الخلافة على جانبي الفرات علي من الشرق ومعاوية من الغرب في صفّين؛ وبين القوات الإمبراطورية من الغرب وقوات شابور من طيسفون من الشرق". لقد توغل جيش "الشرق" الإمبراطوري (الروماني) ضد القوط في فريجيا (طروادة)، وضد الهون الذين تقدموا فيما بين النهرين في سوريا، وضد الساسانيين ثابتاً دائماً ، منتصراً دائماً. وبنى تيودوسيوس سور القسطنطينية الكبرى. لكن الدودة كانت في الثمرة، واشتدت المنازعات الدينية. وادّعى نسطور السوري، بطريرك (أسقف) القسطنطينية المتبني نظريات آريوس النصرانية، أن يسوع المسيح ليس إلا مخلوقاً، ووقف سيريلاّ (كيرُلُّوس) بطريرك (أسقف) الإسكندرية، في وجهه نصيراً للطبيعة الواحدة للمسيح، وهي العقيدة المستعارة من أتاناس. وفرض بطريرك الإسكندرية وجهات نظره الروحية، بمعونة روما ، في مجمعي أفسوس سنة 431 ، ثم في سنة 449 ، وحكم على أسقفي مدينتي إنطاكية والقسطنطينية ، وكان النصر المصري ظاهراً إلى حدّ أن الناس اعتقدوا لحظة أن كسوف شمس البابوية قد حان، أو أنها ستنتقل إلى ضفاف النيل . وتم حدث دون مقدمات: ففي سنة 450 م أقيم حفل قداس؛ لقد تلقى الإمبراطور مارسيان التاج من يدي البطريرك. وبدلت الكنيسة والدولة المتحدتان في القانون الإلهي، السلطة الزمنية، وجعلتا من رعايا الإمبراطورية، أتباع ديانة مكرسة لله ولقيصر - عندما يغدو المسيح عيسى هو الإله لا بدّ من أن يغدو قيصر والكنيسة المكرسة الشخص الأمين الوحيد على الوحي الإلهي؛ ولكن الفكرة مصرية، فهي من بقايا ديانات النيل الوثنية- وكان في ذلك خطر على بابا روما، وهو أنه سيصبح تابعاً للقسطنطينية والإسكندرية. وناور البابا (ليون) الكبير في مجمع خلقيدونيا ليحكم على مذهب الطبيعة الواحدة، مقتلعاً بذلك من الإسكندرية ، رصيداً روحياً كانت قد حصلت عليه. " لقد تم تهميش كنيسة إنطاكية وكنيسة الإسكندرية. لقد اعتدت روما والإمبراطورية البيزنطية مرتين على عقل الشرق المقدس: الأولى في الحكم على الإيمان السوري ورمزه آريوس ومن بعده نسطور [النمط الآسيوي / التجاري للإنتاج]، والثانية عندما شهّرت بالإيمان المصري المتمثل بالبطريرك المقدس أتاناس [نمط الإنتاج الآسيوي/ المائي]، والبطريرك سيريل (كيرُلُّوس) المقدس. وكان الحقد الدفين عميقاً ، فلقد رئب الصدع بين كنيستي إنطاكية والإسكندرية اللتين كانتا حتى الآن متنافستين لا في جمع الشمل بينهما ، ضد البابوية الرومانية فقط ، بل في لفت النظر نحو الكنيسة الثالثة الشرقية الزرادشتية (كنيسة ماني)، أي كنيسة طيسفون الساسانية أيضاً. إننا لنلمح إذن، في وقت مبكر، ومنذ القرن الخامس، تحالفاً دينياً وشعبياً بين العالمين المصري والبابلي في رد فعل المجتمع الآسيوي/ الآرامي على العقيدة اللاتينية. إن ذلك التحالف الثلاثي البابلي- السوري- المصري سيقدم وثاقاً متيناً للإسلام." ؛ رد فعل نمط الانتاج الآسيوي/العربي ضد النمط الجرماني/ الأوربي. إن إحياء الآداب العربية خلال حكم جوستنيان فصل هام في تاريخ الحضارات العام . فلقد كان استعمال اللغة الإغريقية فيها موازياً لاستعمال الآرامية التي تطورت إلى "السريانية" على مستوى الأدباء، ولكنها لم تكن سوى العربية في قوّتها اليومية والشعبية"
عزازيل اللعين؛ ما عزازيل هذا؟
تظهر تسمية (عزازيل) سابقة للتسمية القرآنية (إبليس)؛ وهذا الأخير "علامة مميزة للطبقة الأحدث". فوجوه الشر التي يظهر بها الشيطان خمسة و حروف مفردة إبليس خمسة. والحواس خمسة، وزهرة الزنبق خماسية وهي رمز نجمة الصبح أو الزُّهرة؛ الأنثى المقدسة أو الطبيعة- الأم). يقول الباقر: "إن الإله الأعلى لا يقتصر على السماء العليا ولا الوحدانية المتشددة لا سيما وأنه يستطيع أن يظهر ذاته كذلك في السماوات الدنيا وفي خاموسه ، إلا أن الولادة الجسدية تُستبعد؛ كل ما هو جسدي يكون شيطانياً" . عزازيل حصل على نور من الملك تعالى أعاره إياه (الشمس تعير نورها إلى الكواكب، ومنها كوكب الزهرة). قال الملك لعزازيل: يا شيخ، أخبرني ما أنت، وما أنا، وما هي هذه المخلوقات كلها؟ فقال عزازيل: أنت إله، وأنا إله كذلك. لكن الإله قال: لا يمكن أن يكون ثَمّة إلهان." لكن عزازيل إله من بين آلهة عديدة (عبادة الأصنام والصور والتماثيل)؛ ففي الديانات الكونية/الطبيعية - الوثنية كانت عبادة الصور الطبيعة الفيزيائية الحسية المتعددة أو عبادة الصورة البهيمية هي السائدة.
قال الإله: أنت مخلوقي، وأنا خلقت هذه الأرواح (إنما خالق بشراً من طين). تظهر الحسيات من ناحية عزازيل أكثر عدداً من العقليات/الكلمات (لوغوس)؛ قال عزازيل: لقد خلقت أرواحاً بعشر أضعاف ما خلقت! قال الإله: لو جردتّك الآن من عيارتي (عيرتي) [من النور المعار] كيف لك أن تخلق هذه المخلوقات [إذا الشمس كورت كيف للقمر أن يعكس ضياءها ويظهر نوره المعار، وكيف لكوكب الزُّهرة أن يفعل ذلك]:
أيها النور المعار أنت منّي سأجردك قليلاً
لنرى إن كان خلقي هو خلقك
وجُرّد عزازيل من ذلك النور المعار، وغدت الجسدية ظلمة وحجاباً وستراً وظهر المعنى لآدم في عين الأشياء. ومع تحول الديانات الكونية/ الطبيعية إلى ديانات تاريخية (ديانات الأنبياء) تحول اسم عزازيل إلى اسم إبليس؛ إبليس سقط عن العين وأحمد كشف له عن عين العين " حسب عبارة الحلاج في طاسين الأزل والالتباس. .
ومهما بدت الحسيات في الظاهر كثرة فهي لن تستنفذ كلمات الربّ؛ "قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفذ البحر"
فاتجه عزازيل نحو الملك تعالى وارتكب حماقة إذ ادّعى الألوهية، وقام مخلوق ثان وثالث وأتيا لمساعدة عزازيل (عناصر الفردية الشيئية الثلاثة وقت الخلق)، وادّعى الثلاثة لجهة الشيئية كلهم الألوهية، وسموا الإله كذاب، حقير طراراً ومكاراً. وقالوا: "إن الله ثالث ثلاثة" (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة) وذلك أنهم جعلوا معه عيسى ومريم.
يكتب ابن عربي في "فص حكمة فتوحية في كلمة صالحية": "اعلم وفقك الله أن الأمر مبني في نفسه على الفردية ولها التثليث، فهي من الثلاثة فصاعداً. فالثلاثة أول الأفراد. وعن هذه الحضرة الإلهية وجد العالم فقال تعالى"إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون" وهذه ذاتٌ ذاتُ إرادة وقول . فلولا هذه الذات وإرادتها وهي نسبة التوجه بالتخصيص لتكوين أمر ما، ثم لولا قوله عند هذا التوجه كن لذلك الشيء ما كان ذلك الشيء . ثم ظهرت الفردية الثلاثية أيضاً في ذلك الشيء ، وبها من جهته صح تكوينه واتصافه بالوجود، وهي شيئيته وسماعه وامتثاله أمر مكوّنه بالإيجاد. فقابل ثلاثة بثلاثة: ذاته الثابتة في حال عدمها في موازنة ذات موجدها، وسماعه في موازنة إرادة موجده، وقبوله بالامتثال لما أُمِر به من التكوين في موازنة قوله كُنْ؛ فكان هو فنسب التكوين إليه فلولا أنه من- قوته التكوين من نفسه عند هذا القول ما تكوّن. فما أوجد هذا الشيء بعد أن لم يكن عند الأمر بالتكوين إلا نفسه (كلمته) . فأثبت الحق تعالى أن التكوين للشيء نفسه لا للحق، والذي للحق فيه أمره خاصة . وكذلك أخبر عن نفسه في قوله: "إنما أمرنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون" فنسب التكوين لنفس الشيء عن أمر الله وهو الصادق في قوله. وهذا هو المعقول في نفس الأمر."
مع بداية الخلق وتكبّر عزازيل: عزازيل واثنان آخران (الثلاثة لجهة الشيئية ) يدّعون الألوهية وقدرة الخلق . فعندما ادّعوا ذلك " و قلنا اهبطوا منها جميعاً"
اشتق اسم إبليس من اسم عزازيل ومفردته ستة حروف : ع- ز- ا – ز – ي – ل وقد ذكره الحلاج في الطاسين السادس تحت عنوان: "طاسين الأَزْل والالتباس" : اشتق اسم إبليس من اسمه فغير عزازيل العين لتعلق همته بالأهواء ؛ يقولون نظرة من ذي علق أي من ذي هوى قد علق بما يهواه قلبه" ؛ سقط عن العين؛ وحجبت عنه أعيان الأشياء، والزاي زيادة في غلوه ومبالغته في زيادة زيادته ؛ العبادة على التجريد؛ والمبالغة في التجريد وعدم العود إلى العين؛ فالمبالغة في الاندفاع فقر كالاغتصاب؛ إبليس دعا ، لكنه ما رجع إلى حوله . نقرأ عن " نسخة أيا صوفيا لكتاب "أثالوجيا" تاريخها 1458 هي أقدم النسخ المعروفة وهي أفضل النسخ، ولولا أن ناسخها كان يتقن الموضوع الذي ينسخه، لكانت خير النسخ، لأننا لاحظنا أنه كثيراً ما يختار قراءة أوضح نظن أنه هو الذي اقترحها ووضعها، وكثيراً ما يؤدي ذكاء الناسخ إلى إشعاره بالقدرة على إصلاح ما ينسخ فيستبيح لنفسه من الحرية في إصلاح أو تعديل الأصل بحسب فهمه ما لا يستبيحه الناسخ العادي " ؛ الاتقان والزيادة هنا فقر ونقص، ألف: إزادة الإلفة لطول خدمته. يقول لي قدمة في الخدمة وليس في الكونين أعرف مني بك. والألف قديم في الخدمة وهو هيولى الحروف أو مادتها، وأول صوره الباء حيث يبدأ به القرآن الكريم في قوله: بسم الله؛ فيغيب الألف ويظهر على صورة الباء، "ثم قلّبت (قبلت) بعد ذلك صوراً بعد صور فلذلك لا يمكن لأحد أن يرى الهيولى لأنها لبست صوراً كثيرة فهي خفية تحتها ، لا ينالها شيء من الحواس البتة" والبقرة في خوارها تصوّت (آ)؛ هي النفس الحيوانية. و (ألف) في الكنعانية يعني بقرة وفي اللاتينية ثور" إن حرف الألف في القلم المسماري الذي كتبت به النصوص الكنعانية كان على صورة رأس ثور في بداية الكتابة التصويرية، ينطق في الأكادية أَلْبّ وفي الكنعانية (أ ل ف) ثم اكتفي بنطق الصوت الأول من الكلمة وهو (أ) واستعملت صورة لرأس الثور للرمز إلى هذا الصوت وحده دون بقية الكلمة . لكن اسم الصورة التي صارت حرفاً ظل (ألف) كما هو الحال في العربية، رغم أن رمز الألف فيها الآن بعيد كل البعد عن صورة رأس الثور . أما في اليونانية التي أخذت حروف الهجاء عن الكنعانيين، وتابعتها اللاتينية، فقد ظل حرف الألف فيها أقرب ما يكون إلى الأصل / الصورة وإن بدا مقلوباً A = رأس ثور بقرنين، ينطق ألفا وهو الآن أحد الرموز في العلوم الرياضية العليا والعلوم الفيزيقية وغيرهما كما هو حال حرف الدلتا. وهي حروف تستعمل في الحساب حتى يومنا هذا مثلما استعملت في القديم" الزاي الثانية: لزهده، وقلّته؛ قلّة علمه وجهله وسقوطه و (زهد)؛ قلة الشيء" إنه جاهل ومهين. والياء حين يأوي إلى سهيقته؛ أي كذبه وغلوّه في الأمر، وزيادته في الحديث (افترائه) وإثارته للغبار بين السماء والأرض . سهق يدل على طول وامتداد، إنه بئر بلا غور أو بئر شطون بعيد الغور لا قرار لها ؛ فإبليس بعدت عليه الشُقّة . واللام لأنه يجادل في بليته من غير علم . ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد " قال تعالى: "حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين " . ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون" . حيث إبليس تغير عليه العين من الصورة الخارجية البهيمية؛ التمثال إلى الإيقونة أو الصورة النفسية لأعيان الأشياء؛ صورة الحق vera icon ؛ فهجر الألحاظ في المسير وعبد المعبود على التجريد؛ عبادة الصورة الجسمية الخالصة (في الديانة الكونية) أو الصورة النفسية الخالصة (في الديانة التاريخية) دون القدرة على رؤية حقيقتها في أعيان الأشياء (الحق يزيل الصورة ويظهر مِثْلها) . إن الغلوّ في التجريد وعدم العود للعين لعنة؛ لُعن حين وصل إلى التفريد وطُلب حين طلب المزيد ، فقال له اسجد قال لا غير. قال وإن عليك لعنتي. قال لا غير ؛ لم يرَ سوى نفسه (أنا)؛ لم يقرّ إبليس بالواسطة البتّة.