حملة استعراضية على الفساد في تونس


فريد العليبي
الحوار المتمدن - العدد: 5543 - 2017 / 6 / 6 - 23:48
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

يمثل الفساد ظاهرة مركبة تتداخل في تكوينها عناصر مختلفة منها السياسي والاقتصادي والإداري والقانوني الخ ...وكل عنصر يتغذى من بقية العناصر ومن هنا فإنه لا يمكن القضاء على احداها دون القضاء على البقية، على النحو الذي يمكن معه القول باستحالة وجود مجتمع في المرحلة الحالية التى تمر بها البشرية خال من الفساد ،غير أن ذلك لا يعني أنه قدر محتوم لا فكاك منه، اذ يمكن الحد منه وصولا الى استئصاله باستئصال الأسباب التى أنتجته، وهذا يتطلب تغييرا جوهريا في بنية هذا المجتمع او ذاك .
وبالنسبة الى تونس فإن الفساد قديم ،وقد لازم الدولة التونسية المعاصرة ، ونما معها شيئا فشيئا . ومع الانتفاضة الأخيرة استفاد من الظروف المستجدة ومثلما يظهر في الحروب من نسميهم بتجار الحرب وأمرائها فان للانتفاضات أيضا تجارها من الفاسدين ، فقد استغل هؤلاء المكاسب في مجال الحقوق والحريات من جهة وحالة الفوضى التى سادت لبعض الوقت من جهة ثانية فعبثوا بالاقتصاد والسياسة والثقافة والإعلام والأمن . وقلما نجد مجالا لم تطله أيديهم حتى أنهم أصبحوا يتبجحون على رؤوس الأشهاد بأنهم يمولون أحزابا ويملكون نوابا ويشترون صحفيين وأن السلطة عاجزة عن مواجهتهم ، فقد زرعوا داخلها أعوانهم على النحو الذى أضحت فيه مراكز القوى المرتبطة بهم تتصارع فيما بينها حينا وتتآلف حينا آخر داخل الأحزاب الحاكمة نفسها . ومن هنا فإن الحملة تخيم عليها ظلال تصفية مراكز القوى حساباتها فيما بينها داخل السلطة وخارجها.
واللافت للنظر تلك التصريحات التى أدلى بها وزراء فقد استقال أحدهم معللا ذلك باكتشافه أن الفساد أقوى منه ، أما رئيس الحكومة فلم يجد حرجا في القول إن المافيا موجودة في جهاز الدولة التونسية نفسه .
وفضلا عن ذلك أشارت تقارير عدد من الهيئات الدولية الى تفاقم الفساد في تونس وقدمت أرقاما مفزعة تبين مدي تأثيره الضار على النمو الاقتصادي ومن المرجح أن بعضها طالب الحكومة التونسية باتخاذ اجراءات سريعة للحد منه وربما اعتبر ذلك شرطا لتقديم القروض والمساعدات ، وغنى عن البيان أن تلك الهيئات لا تهمها مصالح التونسيات والتونسيين بقدر ما يهمها ضمان مصالح الدول التى تعبر عنها ممثلة خاصة في أمريكا والاتحاد الاوربي .
ومن جانب آخر تفاقمت الاحتجاجات الاجتماعية المطالبة بالتشغيل والتنمية وشملت أغلب الولايات مما أثر على وتيرة الانتاج في قطاعات استراتيجية مثل النفط والفوسفات ، كما أن قانون المصالحة المُعاد طرحه من جديد على طاولة مجلس النواب قد اصطدم بموجة رفض عارمة . ووجدت المؤسسة الأمنية والعسكرية نفسها في حالة لا تحسد عليها فقد انخرط في تلك الاحتجاجات عشرات الآلاف من الناس وأضحى من الصعب السيطرة عليها دون تقديم تنازلات حقيقية بتوفير الشغل والتنمية وهذه من مهمات السلطة السياسية دون سواها.
وزاد خطاب رئيس الدولة يوم غداة الاحتجاجات الاجتماعية في الجنوب من تأجيج هذه المشكلات ووجد يوسف الشاهد حكومته وقد بلغت حافة الهاوية ، وفي ظل تلك العناصر المختلفة التى تتشكل منها لوحة الوضع العام في البلاد فُرض عليه اتخاذ اجراء ما ، وعندما نظر حوله وجد على طاولته ملفا طالما وعد بفتحه ، وهو ملف الفساد وسرعان ما بدأت الحملة على رجال أعمال من كبار البرجوازيين ، ضالعين في التهريب وربما في الارهاب أيضا ،ولهم علاقات معقدة مع مراكز نفوذ محلية وعربية ودولية .
وقد انعكس ذلك ايجابيا على حكومته التى استعادت بعض الثقة المفقودة وأعلنت أحزاب معارضة عن دعمها له غير أنه من الخطأ التعويل على رضاها في بلد خرج فيه الشعب نسبيا من المشهد السياسي الرسمي برمته ، فالسلطة ومعارضيها المقيمين سويا معها تحت قبة البرلمان يتقاسمون بهذا القدر أو ذاك المسؤولية عما آلت اليه الاوضاع ،والاتهام بالارتباط ببارونات الفساد يبدو كما لو أنه موزع توزيعا عدلا بينها وبينهم ، ولا تزال غضة ظواهر مثل سياحة النواب الحزبية وتمويل مرشحين للرئاسة بملاين الدولارات من قوى خارجية وتلقي آخرين هدايا عينية ،فضلا عما ورد في وثائق " بنما "وبقاء أموال صُرفت على مرشحين خلال الانتخابات السابقة دون استرجاع الخ ....
غير أن شكوكا لا تزال تحيط بحملة الحكومة وشعار رئيسها :اما الفساد وإما تونس ، مما يطرح أسئلة بخصوص ما اذا كانت اختيارية ام اضطرارية ، وغني عن البيان أن في ما قدمناه قبل حين ما يشير الى طابع الاضطرار، سواء كان ذلك في صلة بدوافعها المحلية أو الخارجية ،هذا من جهة ، ومن جهة ثانية فإن الحملة رغم مرور أيام عليها ظلت رئيسيا حبيسة بعض الأسماء في عالم المال مما يُوحى بطابعها الاستعراضي الانتقائي ، كما أن محاولة تمرير قانون المصالحة مُجددا يدفع باستنتاج توظيفها لأهداف أخرى ، اذ كيف نضع فاسدين حاليين قيد الاقامة الجبرية بينما ندعو الى المصالحة مع فاسدين سابقين ؟ ثم ألم يذكر عماد الطرابلسي أن الفاسدين من رجال أعمال وموظفين لم يكونوا مجبرين على ما اقترفوه من جرائم مالية، بل كانوا مختارين ، متسابقين على تقديم الخدمات لهذا أو ذاك من أقارب بن على وزوجته؟
ومن هنا التساؤل هل يتعلق الأمر بإستراتيجية حكومية تضع في حسبانها تحقيق أبرز مطالب الانتفاضة التونسية ونعني التشغيل والتنمية أم انها مجرد رد فعل عابر على الاحتجاجات الاجتماعية بتوجيه الأنظار بعيدا عنها من جهة، ومحاولة استمالتها من ناحية أخرى ؟ وإذا اما انكشفت تلك الحملة كمناورة فإن الأزمة في تونس ستتجاوز حدود ما هو اجتماعي لتصبح أزمة سياسية مفتوحة على احتمالات شتى ليس هنا مجال الخوض فيها .
و بغض النظر عن ظلال الشك التى تلف الحملة والحدود التى قد تكون مرسومة لها فإنها ايجابية من جهة كونها تفتح عين الشعب على ملفات طالما جرى غلقها وإخفاؤها بإحكام . ولا ينبغي نسيان أن النجاح في أي حملة ضد الفساد يبقي مرهونا أولا وأخيرا بمدى انخراط الشعب فيها، فالحملة ضد الفساد شعبية أو لا تكون .