عزيزي الله – مواطن مجهول 3


سامي الذيب
الحوار المتمدن - العدد: 5539 - 2017 / 6 / 2 - 23:00
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

سلسلة مقالات من كتاب: عزيزي الله: رحلتي من الإيمان الى الشك - مواطن مجهول، 52 صفحة
يمكن الحصول على النسخة الورقية من موقع أمازون https://goo.gl/W619cB
كما يمكن تحميل النسخة المجانية من موقعي http://wp.me/p1gLKx-hSc
.
مقدمة (تتمة)
----
عزيزي الله،
عشت خمسون سنة من عمري لا يفوتني فيها صلاة مكتوبة قيل لي أنها فريضة، أتيت اليك مشيا على أمل أن تأتي لي مهرولا، تقربت لك بالنوافل على أمل أن تقترب مني بحبك لي وتفيض علي من نور سناك، عسى أن تصبح سمعي الذي أسمع به وبصري الذي أبصر به ويدي التي أبطش بها ورجلي التي أمشي بها. يآآه .. لو أنّ يدك هي يدي وعينك هي عيني، تصوّر كمْ من الفرص التي يمكن أن أقتنصها والأحوال التي سأعيشها بيد رب وعين اله، وكيف ستكون الحياة التي أنت امتداد لها عبر كياني الضعيف. ناجيتك بالليل وطرفي النهار .. لم أتوقف لحظة وأنا أقف بين يديك لأسأل نفسي عنك. من تكون وماذا تكون وكيف تكون، من ذا الذي أحني رأسي في حضوره وأمرّغ جبهتي في الأرض من أجله وأتذلّل خوفا منه وطمعاً في رجاه؟ أأنت مرعبٌ ومخيف لهذه الدرجة يا الله .. هل تتلذذ ونحن نرتعش خوفا منك؟ هل تجدُ متعة في سجودنا لك؟ ما الذي تشعر به بالضبط حين أتلو بعضا من آياتك أو أثني ركبي راكعا في محرابك مسبّحا باسمك .. هل تحس بشيء ما .. أي شيء؟ ألك قلب ينبض مثلما لك يد وعين كما ينقل عنك رجالك؟ أيجرى الدم في عروقك .. إن كان لك دم وعروق؟
.
أتعرف أني في صغري كنت أظن سجودنا يزيدك قوة وأنه كلما زاد عدد الساجدين ازددتَ طاقة وكأننا نشحن بطارية ضخمة موصولة بك وأن دعائنا يمنحك توهّجا وضياء فوق ما أنت فيه وكأنك في حاجة لزيادة عدد أتباعك لتبقى مضيئا متلألأ فكلما قل عدد مريديك كلما كان هناك خطر عليك أن تنطفئ مصابيحك وتفرغ بطاريتك. كبرتُ قليلا ثم نسيت، حتى تذكرت تلك الفكرة الغريبة حين بدأت أسمع وأرى من يتحدث دفاعا عنك وعن دينك ويطلب النصرة لك، عادت لي تلك الفكرة القديمة. أتحتاج لمن يدافع عنك يا رب ويقف في صفك؟ هل أنت في حاجة لجنود من خلقك لشحن بطارياتك وإضاءة مصابيحك .. أتخشى أن تنطفئ الكهرباء عنك حين يتوقف الناس عن السجود لك؟ أنظر اليوم لتجد الكثير في عالمنا ممن يقف مدافعا عنك ومقاتلا في سبيلك ورافعا رايتك ليموت تحتها، تسيل الدماء أنهارا دفاعا عن حماك وذودا عن حياضك .. كيف يكون ذلك يا رب وأنت الذي لا تحتاج لغيرك؟ كيف يصطفّ أتباعك دفاعا عنك وأنت ذو الجبروت والملكوت .. أنت القوي العزيز ونحن الضعفاء؟
.
أنهيت مراحلي الدراسية الأولى وبقيتَ يا رب في مكانك العلي، كنتُ كغيري أحدّثك في صلاتي ودعائي من دون أن أقترب منك ومن يُطيق الاقتراب منك وقد جعلتَ الجبل دكا حين تجلّيت بعد أن طلب أحدهم النظر اليك. لم أهتم كثيرا بكونك البعيد عنا والقريب منا فأنت فوق ونحن تحت، أجرّ قدمي الى باب بيتك وأطأطأ رأسي عند محرابك .. أشاهد أبي يغسل أطرافه كل يوم في حر الصيف وبرد الشتاء ليتجه الى بيتك ويقدم فروض الطاعة بين يديك. لم يكن يجرني معه أو حتى يناديني لمشاركته .. كان وفيا لك من دون أن يُجبر أحدا غيره على الولوج الى باب طاعتك. لم يكن الحال كذلك مع أمي التي لم تترك فرصة حين تسمع صوت المؤذن دون أن تنهال علي بسوط الترهيب بعد أن نفذ منها جزر الترغيب، تأمرني بالاغتسال والتوجه الى بيتك .. لا أنسَ حديثها مرّة لي بعد أن أصبحتُ يافعا في رمضان وقد نمت عن الصلاة لك. تُخوفني بمصير المتأخرين عن حضور بيتك وتشعرني بالذنب لتخلفي عن حضور الصلاة في محرابك، ملقية اللوم على رفيقي الجديد في سكني بالجامعة. لا ألومها يا رب في وفائها لك فهي الأخرى تم برمجتها في صغرها على الامتثال لك من دون التفكر فيك.
.
بدأت شخصيتي المستقلة تتبلور وتتضح أثناء دراستي الجامعية والتي أحسست فيها ببعض الراحة لانفصالي عن بيتي الصغير وبداية تعرفي على بيتك الكبير .. على العالم الطبيعي عبر العلوم الحديثة القائمة على المنهج العلمي. أنت تعرف جيدا أن نظامنا التعليمي العام هو من أجلك ولك، ومن أعظم أهدافه تقييدنا بدينك وغرس أفكار أتباعك في صفحات عقولنا الصغيرة وسلْبنا من أي نزعة للتفكير الحر وأي محاولة للنقد، والاكتفاء بالنقل والتلقين، فما ترك الأولون للآخرين شيئا ثم بدأت أعي نفسي في الجامعة بشكل آخر لم أعهده من قبل. تعلمت علوما من غير صنف قال الله وقال أتباعك، علوما تفترض الجهل ابتداء بدلا من العلم، وتثير الأسئلة بدلا من صك الإجابات وتنطلق من الشك قبل اليقين. تُخضع المسائل للتجربة وتُنشئ الفرضيات وتلاحظ ما يدور في الطبيعة بحثا عن المعرفة وتصحّح ما سبقها وتعدّل فيه وتضيف عليه .. ليس هناك من مقدّس أو منزّه، محراب العلم هو مختبر العالِم ونظرياته وكراريسه، يثير بها الأسئلة فإثارة الأسئلة تعني الحياة أما الأجوبة فهي النهاية. عندما لا يبقى شيء وتفرغ الرؤوس من التفكير تحل محلها الإجابات .. رجالك يهتمون بالأجوبة كثيرا على حساب السؤال وتراثهم ملئ بذلك فهناك الأجوبة العراقية على الأسئلة اللاهورية، الأجوبة العثيمينية على الأسئلة الليبية، الأجوبة الإسلامية عن الأسئلة الفلسفية، الأجوبة النافعة عن المسائل الواقعة، الأجوبة الألبانية على الأسئلة الاسترالية وطبعا هناك الأجوبة المسكتة .. في سلسلة لا تنتهي من إجابات جاهزة قاطعة بل ومُسكتة لا تحتاج معها الى ما بعدها .. بينما العلم طريقه إثارة الأسئلة.
.
لم يتركني أتباعك في دراستي الجامعية والتي كانت بالفعل تطورا نوعيا في طريقة تفكيري ونظرتي للعالم من حولي إذ بدأت معها في التعرف على العلوم الحديثة .. أقول ذلك الآن وإلا فإني وقتها لم أعِ ذاك التحول في شخصيتي، لكن رجالك كانوا واعين لخطر ذلك التحول في شخصية الشاب على دينك وهم أذكى من أن يتركوا خلقك ممن بدأ في الانفتاح على طرق التفكير السليم والانعتاق من طرق التلقين القديم بحال سبيلهم فيسعون للوصول لهم عن طريق تجيير ما تكشفه العلوم لصالحهم. يُسمّون ذلك إعجازا علميا وكأن كتابك قد أصبح بعد قرون من صدوره دليلا من دهاليز المختبرات وكرّاسا من أوراق المعامل. ليس لهم شغل سوى الانتظار والترقب لما يكشفه العلم ثم ينسبون ذلك لكتابك ويجترّونه جرّا من آياتك خشية أن يفتتن الشباب بسلطة العلم وحلاوة المعرفة وشهوة الاكتشاف .. بل إن هناك من اتّخذ الهدنة معك بعد أن ساوره القلق مما يمكن أن يكشف عنه العلم وأعلن أن العلم والدين صنفان متوازيان ولا يجتمعان.
.
أتخشى يا رب من العلم وأنه قد يسحب البساط من تحت قدميك؟ أيشكّل لك منافسة قد يزول معها سلطتك ويخفت بها صيتك؟ كيف تخشاه مع أنه لم يدّع يوما أنه ينافسك أو يريد أن يحل محلك ويجلس على عرشك، هو يشقّ طريقه بهدوء ويرفع سراجه منيرا ليُخرج الناس من الظلمات الى النور. عاش خلقك في ظلام دامس منذ ظهور الأديان التي استطاعت أن تسيطر على عقول الناس وتتحدث عنك موقّعة باسمك، أنت رب العالمين، حتى بدأت شعلة الثورة العلمية تظهر قبل خمس قرون تقريبا. هل اهتز عرشك اليوم وأنت ترى الظلمات تنحسر شيئا فشيئا أم أنك ضامن موقعك لأن الإنسان محكوم عليه بالضعف مهما بلغ من علم، وبالتالي فهو في نهاية المطاف سيلجأ لك ليغطي نقصه في كل حال .. أنت يا إله الناقصين والضعفاء.
.
اختلط الأمر على كثير من أتباعك لا سيما في النصف قرنٍ الماضي مع سرعة تواتر ما يكشفه العلم وما تُلقي به معامله ومختبراته من تكنولوجيا أفادت البشرية وزادت في معدل عمر الإنسان وقضت على كثير من الأمراض وقرّبت البعيد حتى إنّ سدنة ما يسمى بإعجاز كتابك العلمي لم يعودوا مقبولين إلا عند السذّج من الناس، أما البقية فلم يبقَ لهم الا أن ينضموا الى مدرسة المعتذرين الذين يحاولون التوفيق بين ما يقوله أتباعك وما تقذف به مختبرات العلم الحديث وما أحسبه الا تلفيقا وليس توفيقا .. أول ما سمعت هذه الكلمة في صفوف التعليم الأولى. كيف نوفّق بين آية هنا وآية هناك من كتابك؟ لم يكن حينها موائمة مع ما أنتجه العلم بل موائمة للكلام نفسه، بين سورة وأخرى أو مقطع وآخر في إشارة الى التناقض بين شيئين أو ما يبدوا تناقضا كما قيل لنا .. كلام البشر يطرأ عليه العيوب والنقصان لكن كلام رب البشر، كيف لا يكون كاملا؟ لم أفهم الحاجة الى التوفيق والترقيع ما دام القائل هو رب الكلام .. أتغيّر كلامك يا رب وتحتاج الى ناسخ ومنسوخ ليعدّل من حديثك؟ أتقول شيئا ثم تنسى لتأتي بما يبدو مخالفا له .. أيطرأ عليك النسيان يا من لا يضل ولا ينسى؟
.
أتباعك يقولون أنك تنسخ ما قلت من أجلنا وتستعمل التدرّج لراحتنا، مثل الطبيب الذي يصف جرعة من الدواء ثم لا يلبث لاحقا أن يزيد أو ينقص منها تبعا لحالة مريضه. لكنك أنت الله ولست أحدا منا، ألا يمكنك أن تفعل أفضل من ذلك .. وتأتي بكلام أكثر كمالا وأفضل سبكا مما بعثت؟ كتب البشر، كل الكتب، تشترك في كون القارئ، أي قارئ، ينتهي من قراءتها ويبقى في باله شيء بعد قراءتها يستطيع أن يقترحه على الكاتب .. كان يمكن إضافة شيء هنا أو هناك أو تعديل هذا أو ذاك، أو أن هنا ما يحتاج الى تبسيط وهناك ما هو بسيط، ولا أجد كتابك يخرج عن هذا. دع عنك ما يقوله الناس فإنما هم يرددون ما يقوله لهم غيرهم .. كتابك من المطوّلات ولا أحب الكتب المطوّلة، سوره متفاوتة، منها الطوال ومنها المئون ومنها ما دون ذلك من المثاني والمفصّل. لو أنك اختصرته أو أضفت له ملحقا قصيرا تضع فيه لب رسالتك وما تودّ أن تقوله بإيجاز. ثم أين التواريخ في كتابك يا رب؟ تركت شيئا من أهم الأشياء التي نحتاجها حين نقرأ، إذ فقدنا الإطار الزمني لكل المرويات. قصص عظيمة لا نعرف أين تقع في خط الزمن .. أيرضيك هذا، تتركنا من دون معرفة لها؟ في كتب البشر يُسندون الأحداث الى تواريخها لا سيما الهامّ منها وأنت لم تفعل ذلك .. لمَ يا رب؟ أكنتَ غير واثقٍ من تاريخها، أم أنك أصلا لا تعرف متى حدثت؟
.
حين أنظر الى البوم صوري، أندم على تلك الصور القديمة التي أهملتُ كتابة تاريخها وأتمنى لو عرفتُ متى التقطت .. خطاباتي أفضل حالا فكلها مؤرخة بل وحتى الأحداث والمناسبات التي ترد في ثناياها هي الأخرى مؤرخة لكنك تركت هذه المادة الأساسية وأغفلتها من كتابك. لم لم تخبرنا منذ متى ظهر آدم؟ أهو قبل ألف عام من كتابك أو عشرة الاف أو ربما مائة الف من السنين أو أكثر من ذلك. متى خلقتَ الأرض ومتى حدث الطوفان ومتى بعثتَ نوح وابراهيم والآخرون .. ومتى ومتى، ماذا تفيد الأزمنة التي ذكرتها كالفجر والصبح والضحى والعصر أو الليل والنهار .. أتخشى لو أنك ذكرت تواريخ ثم اكتشفنا اليوم عدم صحتها أن تفقد أتباعك؟ لا أظن ذلك، فهناك المعتذرون الذين سيلفّقون، أقصد سيوفّقون بين ما هو مذكور في نصوص كتابك وما هو مكتشف من صفحات الطبيعة التي لا تكذب .. هل كنت تتوقع ظهور المعتذرين؟ سيزيدون يا رب مع انتشار العلوم وانحسار الجهل بين العامة من الناس مثلما ظهر المعتذرون عند النصارى بعد الثورة العلمية. أصبح دينك اليوم كالإناء المكسور إزاء العلوم الحديثة .. كل يحاول ترقيعه يا رب حتى صار هشّا ينتظر من يلقي عليه بحجارة الرحمة الأخيرة كي يتهشم. لكن لا تخش يا رب من ذلك فسيبقى الإناء متماسكا في عقول مريديه لأنهم يخافون عليك يا رب؟ كم أنت محظوظ بهم .. أتدري يا رب أنه مهما كشف العلم من أسرار ونزعها من دائرة الظلام التي نسبها الدين لك ستجد هناك من يفضل التمسك بك لأن هناك دائما ما هو لغز وطلاسم تنسج حولك والناس تعشق الأحاجي والألغاز يا لغز الألغاز.
.
وإلى مقال قادم من كتاب: عزيزي الله: رحلتي من الإيمان الى الشك - مواطن مجهول
.
ادعموا حملة "الترشيح لنبي جديد"
https://goo.gl/X1GQUa
وحملة "انشاء جائزة نوبل للغباء"
https://goo.gl/lv4OqO
.
النبي د. سامي الذيب
مدير مركز القانون العربي والإسلامي http://www.sami-aldeeb.com
طبعتي العربية وترجمتي الفرنسية والإنكليزية للقرآن بالتسلسل التاريخي: https://goo.gl/72ya61
كتبي الاخرى بعدة لغات في http://goo.gl/cE1LSC
يمكنكم التبرع لدعم ابحاثي https://www.paypal.me/aldeeb