السياسة النقدية تدمر الاقتصاد المصري

محمود يوسف بكير
الحوار المتمدن - العدد: 5531 - 2017 / 5 / 25 - 22:46
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

قام البنك المركزي المصري منذ عدة أيام برفع سعر الفائدة الأساسي للإيداع والاقتراض بمعدل 2% دفعة واحدة وذلك انصياعا لطلب صندوق النقد الدولي باعتبار أن هذا الاجراء سيؤدي إلى تخفيض معدل التضخم في مصر والذي وصل إلى 32% وهو أعلى معدل تضخم في العالم حاليا.
ويبلغ سعر فائدة الايداع الآن 16.75% بينما يبلغ سعر فائدة الاقتراض 17.75% وهي معدلات قياسية وتدعو المستثمرين بشكل غير مباشر إلى عدم التفكير في استثمار ما لديهم من أموال في أي مشاريع يمكن أن تسهم في توظيف الشباب الجالس على المقاهي وفي المولات. فلماذا وجع الدماغ وبإمكانك أن تحصل من البنوك على ما يقرب من 17% على أموالك وانت جالس في البيت تستمتع بمسلسلات رمضان والكنافة والقطايف.
واذا حسبتها يمينا أو يسارا ستجد إنك أمام معضلة، إذ كيف يمكنك أن تقترض من البنوك من أجل بدء مشروع استثماري وان تعيد سداد القرض بسعر فائدة وعمولات تصل إلى 20% ، وكيف ستغطي مصاريف العمالة والخامات والكهرباء والمياه والايجار والنقل والتسويق والرشاوى....الخ والاخطر من هذا أنك تعمل تحت مظلة حكومة غير مسئولة لجأت منذ ثمانية أشهر فقط إلى تخفيض قيمة الجنيه بمعدل 50% في ظلمة أحد الليالي وها هي ترفع سعر الفائدة بمعدل 2% فجأة وبلا مقدمات، كيف يمكن لأي مستثمر ان يتعامل مع مثل هذه المخاطر التي تقتل ثقة المستثمرين والمستهلكين معا ! ! .
ومن الناحية الفنية فإن رفع سعر الفائدة يستخدم عادة كوسيلة لكبح التضخم من خلال جعل عملية الاقتراض أكثر كلفة للمستثمر ومن ثم وضعه أمام خيارين فإما أن يحجم عن الاقتراض والتوسع في نشاطه الاستثماري والانتاجي وإما إن يضطر إلى الاقتراض وزيادة أسعار منتجاته وهو ما سيدفع المستهلك إلى تقليل طلبه والاضطرار للجوء إلى نوع من الادخار الإجباري. وكلا الخيارين يؤديان الى انخفاض الطلب الكلي وإبطاء معدل النمو الاقتصادي والتوظيف ومن ثم انخفاض معدل التضخم على المدى المتوسط.
ولكن غلطة صانع القرار المصري هنا تتمثل في ان التضخم ارتفع بهذا العنف في مصر نتيجة تخفيض قيمة الجنيه بمعدل 50 % وزيادة كمية النقود المتداولة وليس نتيجة زيادة الاستهلاك والطب الكلي وبالتالي فإن رفع سعر الفائدة لن يؤدي إلى انخفاض التضخم بل انه سيؤدي الى المزيد من الركود والبطالة.
أن مصر تعاني بالفعل من ركود تضخمي ومعدل بطالة حقيقي لا يقل عن 20% والمستهلكون في حالة ادخار اجباري منذ تخفيض قيمة الجنيه وما ترتب عليه من صعود التضخم إلى 32%.
ولإن 50% من المصريين يعيشون تحت خط الفقر ولا يستهلكون إلا السلع الأساسية فقد أدى هذا الوضع السيء إلى اختلال هيكلي يتمثل في عدم مرونة الطلب الكلي مع تغيرات سعر الفائدة والاسعار وبالنتيجة فإن دفع الناس إلى المزيد من الادخار الاجباري يعني تجويعهم.
والحكومة بالتأكيد تفهم هذا جيدا ولكنها قررت أن تسقط هؤلاء ال الفقراء من حساباتها وهي تركز الآن على التعامل مع ال 50% الأخرى الذين يمتلكون قوى شرائية (الطلب الفعال) وهؤلاء تجري الآن عملية افقارهم ودفعهم للادخار الإجباري من خلال أدوات السياسية النقدية وتحديدا رفع سعر الفائدة وتعويم الجنيه بهدف تخفيض قيمته أمام العملات الأخرى. ومحافظ البنك المركزي يستغفل الشعب عندما يقول إن سياسة تعويم الجنيه جلبت لمصر25 مليار دولار لأنه يعلم جيدا أن ال 15 مليار" وليس 25 مليار" التي جلبتها هذه السياسة ما هي إلا قروض من صندوق النقد والبنك الدولي.
والمخزي هنا هو أن الحكومة تسعى بجنون لتطبيق توجيهات صندوق النقد للحصول على المزيد من القروض بغض النظر عن تكلفتها المجتمعية ومعاناة الناس خاصة الفقراء.
كان من الأفضل للحكومة أن تتعامل مع مشكلة التضخم من خلال أدوات السياسية المالية بدلا من السياسة النقدية، ونعني بهذا الحد من الأنفاق العام غير الضروري في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ مصر وكذلك السيطرة على سياسة التمويل بالعجز وطبع النقود التي تلجأ لها الحكومة بشكل مبالغ فيه والحد من سياسة الاستدانة من الداخل والخارج لتمويل ما يسمى بالمشروعات القومية مثل العاصمة الجديدة وتفريعة قناة السويس وحاملات الطائرات الحوامة والغواصات الحديثة والطائرات والصواريخ ومعدات مكافحة المتظاهرين. .... الخ
ومن أدوات السياسية المالية أيضا زيادة معدلات الضرائب بشكلٍ معقول على أصحاب الدخول المرتفعة وعلى كل الأنشطة الاقتصادية الخاصة بكل مؤسسات الدولة دون تمييز.
ومن شأن الاجراءات السابقة تخفيض الطلب الكلي ومن ثم التضخم دون المساس بالفقراء ودون الاضرار كثيرا بمعدل النمو الاقتصادي ومعدلات التشغيل.
كما يتعين على الحكومة أن تعمل بجدية على تشجيع الصناعات الصغيرة والمتوسطة وزيادة قدرتها التنافسية على التصدير والتوسع في توظيف الشباب وذلك من خلال منحها حوافز ضريبية وجمركية وتدريبية بما يمكنها من خفض تكلفة منتجاتها وما ينتج عن ذلك من خفض معدلات التضخم.
وباختصار فإن مصر بحاجة ماسة لترشيد الإنفاق العام ومراجعة سياستها الضريبية وتشجيع الصناعات الصغيرة والمتوسطة. إنه رجاء لصانع القرار أن يستثمر ما تبقي من موارد مصر في تنمية الانسان المصري الذي يعاني في صمت وتحسين أحواله المعيشية. ان التنمية البشرية هي التي تصنع النهضة والتقدم والسلام والاستقرار.
نقولها مرة أخرى أن تكلفة تنمية الشعوب أقل بكثير من تكلفة قمعها.

محمود يوسف بكير
مستشار اقتصادي