العصامية والإرتجال لم ينصفهما الفلم عن الشاعر خالد الشطري


صادق إطيمش
الحوار المتمدن - العدد: 5515 - 2017 / 5 / 9 - 20:26
المحور: الادب والفن     

العصامية والإرتجال لم ينصفهما الفلم عن الشاعر خالد الشطري

عرضت القناة الفضائية العراقية الأخبارية فلماً عن الشاعر العراقي الراحل خالد الشطري تناولت فيه اهم مراحل حياته وبعضاً من قصائده ومواقفه الوطنية التي اشتهر بها هذا الشاعر العملاق من خلال قصائده التي عالج فيها هموم الوطن والمواطنين خاصة في العهد الملكي الذي لم يسمح لشاعر موهوب كخالد الشطري ان يعبر عما كان يعانيه فقراء الناس من ضنك الحياة وما يعانيه المواطن العراقي من ملاحقات وسجون وتشريد حينما يريد هذا المواطن ان يشارك اهل وطنه في همومهم هذه. وهذا بالضبط ما تعرض له خالد الشطري حينما زجه النظام الملكي في غياهب سجونه ومعتقلاته وحينما شرده بعيداً عن اهله وذويه وهو لما يزل شاباً، بل صبياً يافعاً بعد.

لقد تعرض الفلم إلى مراحل ومواقف مهمة في حياة هذا الخالد الشطري عكست بعض ما كان يعيشه الرجل حقاً. انه لجهد مشكور ان يجري التطرق إلى وطني مغمور بعد ان غمر كل حياته في كل زوايا الوطن ، بين فلاحيه وعماله، بين طلبته وشبيبته، بين ادباءه ومثقفيه ، حتى اصبح بحق الشاعر العراقي الذي التصق معظم شعره وادبه في تربة هذا الوطن وبين سفوحه وجباله.

إن كل ما يتمناه محبو هذا الرجل الكبير واصدقاؤه الذين عايشوه لفترة من حياته عن كثب، وقد كنت احدهم، هو ان تتكاثر المعلومات عن شخصيته الفذه وشاعريته المعطاءة وقابلياته الأدبية العظيمة والكثير الكثير مما يتصف به عاشق العراق هذا. وهنا لابد لي من ابداء وجهة نظري في محتوى هذا الفلم محاولاً عكس بعض ما عشته معه وفيه ولم ارى شيئاً منه في هذا الإنجاز الفني الكبير.

ما افتقدته حقاً، وقد جرى له التطرق في الفلم بكلمة واحدة فقط، هو ما يتعلق بعصامية هذا الرجل. إن التطرق إلى هذا الموضوع مهم جداً ، من وجهة نظري، حيث ان تفتق العبقريات قد يحدث في كثير من الأحيان من طبيعة الحياة القاسية التي يعيشها العصامي والذي يوجه جل همه واهتمامه إلى غير اكتساب الحياة المرفهة السعيدة له شخصياً فقط، بل إلى النضال لتوفير هذه الحياة للآخرين ايضاً. وهذا ما اعتبره شخصياً قمة الإنسانية وقمة البذل والعطاء في سبيل الإنسان الذي لا يشعر بآلامه إلا الإنسان المعذب مثله ، وهذا ما كان عليه الإنسان الخالد خالد. لقد نشأ خالد الشطري فقيراً في عائلة كان عمل معيلها عبد الله الصيقل لا يكاد يسد احتياجات العائلة اليومية. وترعرع ولده الأكبر خالد في هذه الأجواء التي خلقت منه انساناً ذو مقدرة فكرية يعكس فيها ما يعيشه وما يعانيه على الآخرين،وتلك لعمري ما هي إلا ميزة العظماء الذين يرون مآسي حياتهم ليس بين اروقة بيوتهم فقط، بل وفي بيت الآخر ايضاً، بالرغم من انه لم يطرق بيت الآخر هذا، ناهيك عن الدخول إليه والتعرف على تفاصيل حياته فيه. عصامية خالد الشطري خلقت منه مسيحاً يحمل مع صليبه صلبان الآخرين المليئة بالحزن والألم والجوع والمرض والإستغلال والقمع الذي يعانيه مجتمعه الفلاحي في الشطرة وضواحيها حيث عكس ذلك شعراً بخرائد تغنت بها جموع المناضلين في جنوب العراق بشكل خاص وفي عموم الوطن ايضاً. عصامية خالد الشطري جعلت منه مناضلاً ثورياً وهو في مقتبل العمر. إلا ان احاسيسه ومشاعره وانشغاله بهموم الآخرين ظلت تنعكس في اشعاره وكأنه خزين حكمة لا تنضب ومعارف لا تتوقف عند حد القول فقط ، بل تعدى ذلك إلى العمل المثابر الدؤوب والنضال في صفوف الحزب الشيوعي العراقي عاملاً على ربط فكره الوثاب بعمل ثوري جاد بين الجماهير التي كان خالد الشطري يعيش بينها ولها ومن اجلها. فكانت السجون والمنافي والتشرد والمطاردات التي ظل خالد الشطري يواجهها بقوة الشباب وعزم المناضلين وثبات الأبطال. لقد عاش خالد الشطري، كغيره من المناضلين، يتنقل بين السجون والمنافي والمطاردات والتشرد حاملاً معه فكره النيِّر وعزمه الوثاب وإرادته التي لا تلين، فخوراً بكل تلك الحياة العصامية التي جعلته يصطف إلى جانب المعذبين . إن مثل هذا الإنسان الذي لم ينصفه معدّو الفلم حينما تجاهلوا طبيعة الحياة التي شكلت اساساً هاماً في كيانه الشعري وتوجهه الوطني وانتسابه اللامحدود للوطن والوطن فقط ، لم تنصفه الدولة العراقية ايضاً ولم يجر رد الإعتبار له ، حتى بعد زوال البعثفاشية المقيتة التي لم تبخل عليه هي ايضاً باضطهادها ، حيث لم يجر الإعتراف به كسجين سياسي قضى جل شبابه خلف القضبان وفي المنافي ، في الوقت الذي جعلت فيه مؤسسة السجناء السياسيين مِن كثير مَن لا علاقة لهم بالنضال السياسي الوطني سجناء سياسيين يتمتعون بكل الإمتيازات التي حُرم منها كثيرون من السجناء السياسيين حقاً والشاعر خالد الشطري في مقدمتهم.

ثم انني افتقدت في هذا الفلم التطرق الى شاعريته الفذة من خلال قدرته الفائقة على الإرتجال والتي برزت في كثير من المواقف التي واجهها هذا الشاعر العملاق. شاعرية الشاعر الفذ تتجلى في قدرته على التفاعل السريع مع الحدث برائعة شعرية لا يمكنه ان يجيدها تلك الإجادة في حالة النظم المتأني. وما كان ابو الوليد ينشده ارتجالاً إلا تلك الخرائد التي ترقى إلى ما اتصف به المتنبي في شعره الإرتجالي ، كقصيدته الرائعة في حضرة سيف الدولة الحمداني التي بدأها:

وا حر قلباه ممن قلبه شبمُ ومَن بحالي وجسمي عنده سقمُ

لم يكن شعر خالد الشطري بما فيه المُرتجل إلا تعبيراً عن الإيمان المطلق بقضية الشعب والدفاع عنها في كل المواقف . فالمناسبات الوطنية او الدينية كانت بالنسبة لخالد الشطري فرصاً لا تفوَّت في التعبير عن افكاره وعكس هموم الناس ومعاناتهم. فقصيدته الحسينية مثلاً اصبحت بعض ابياتها مثل :

حيوا الحسين عدو كل منافق باع الضمير بزرقة الدينار

عنواناً للمواكب الحسينية الشطرية التي كانت تتسابق على خطها على لافتاتها التي تسير خلفها سواءً في المناسبات الدينية في الشطرة او خارجها. ومن المناسبات الدينية التي ساهم فيها خالد الشطري بقصائد ثورية عاصفة هي مناسبة المولد النبوي التي كانت تجري في الشطرة حيث ساهم خالد في بعضها بقصيدة ظلت تتردد على افواه الناس هناك والتي كان مطلعها:

حاشاك ان ترضى وانت محمد شعب يُصاد وواحد يتصيد

اما قصيدته الإرتجالية التي اقتادته مرة اخرى الى السجن فهي تلك التي اطلقها خالد على شارع النهر الرئيسي في الشطرة حينما واجه مظاهرة اقامتها الدولة العراقية آنذاك احتفالاً بتأسيس الإتحاد الهاشمي بين العراق والأردن إثر الإعلان عن تاسيس الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا بوقت قصير. لقد ضاعت هذه القصيدة ولم يبق منها إلا ما حفظه البعض منها، ولا ادري من هو هذا البعض الذي تفرق إثر مداهمة الشرطة واعتقال خالد وهروب الآخرين. ومن قصائده الإرتجالية التي اشتهر بها ايضاً هي تلك القصيدة التي قالها امام الطالبة التي جاءت إلى المصور الشمسي الواقف امام وزارة الدفاع لتسأله إن كان هو الشاعر الذي ذكره استاذها في محاضرته والذي وصفه بالشاعر المبدع والمغبون ، فأجابها:

نعم انا يا حلوة الظفيرة نعم انا الشاعر يا صغيرة
نعم انا المُعدَم غير اني امتلك الخزائن الكبيرة
موهبتي قناعتي ضميري اسمى من المكاسب الحقيرة
إني اعيش العمر للقوافي اكتبها بادمعي الغزيرة
ابثها شكواي دون خوفي احكي لها قناعتي الكثيرة
امينة تنقل ما بنفسي وفيَّة نقيَّة السريرة
سميرتي في وحشة الليالي رفيقتي في عيشتي المريرة
فكم اميراً مترفاً تمنى وصالها فادبرت نَفورة
وكم فقيراً بائساً معلا تحبه وهي به فخورة
حقيقة الشاعر لا يراها إلا الذي في قلبه بصيرة

في الواقع لا اعلم ماذا حل ببقية القصيدة التي لم اجد لها اثراً بعد وفاته عام 1992 في بغداد.

طبعاً لو اردنا التطرق إلى تفاصيل حياة خالد الشطري لوضعنا لذلك افلاماً عديدة تحكي عظمة هذا الرجل. إلا انني ارى ان هاتين الصفتين اللتين لم يأخذا حقهما في طرح شخصية خالد الشطري من الأهمية التي لا يمكن تجاهلها في فلم كهذا. وربما تسنح فرصة اخرى لإحياء ذكر هذا العراقي الأصيل بعد ان غمطت الحكومات العراقية المتعاقبة حقه ، لا بل وتجنت عليه في كل اطوار الدولة العراقية. نعم وبكل تأكيد في كل اطوار الدولة العراقية ، وحتى في عهد الجمهورية العراقية الأولى، خاصة بعد ان انحرفت ثورة الرابع عشر من تموز وزعيمها الوطني الراحل عن الأهداف الوطنية التقدمية للثورة واستطاع اعداء الثورة بالإجهاض عليها وعلى اقوى مسانديها من القوى التقدمية العراقية. كما لم ينصفه زملاؤه من الأدباء والشعراء ، خاصة اولئك الذين ما زالوا على قيد الحياة والذين يعرفون الكثير عن هذا الأديب العراقي الوطني التقدمي. فما احرى باتحاد الأدباء العراقي الذي يتتبع خطى المبدعين والساعي إلى نشر الأدب الإنساني التقدمي ان يعمل على التذكير بخالد الشطري كأحد اعضاءه الذين لا غنى للأدباء من الشباب من التعرف عليهم وربما تناولهم بالدراسة والبحث .

الدكتور صادق إطيمش