أمراض قوى التيار العلماني وسبل معالجتها (ورقة لمشروع مؤتمر)


قاسم حسين صالح
الحوار المتمدن - العدد: 5515 - 2017 / 5 / 9 - 09:48
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     



أمراض قوى التيار العلماني وسبل معالجتها
(ورقة لمشروع مؤتمر)

أ.د.قاسم حسين صالح
مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية


توضيح:
(يقصد بالتيار العلماني قوى اليسار العراقي والقوى المدنية والشخصيات الداعية الى اقامة دولة مدنية حديثة،ولا يعني ان هذه (الأمراض) موجودة حصرا فيها أوفي جميع افرادها).

سنبدأ بتشخيص هذه الأمراض في العلمانيين بشكل عام،نتبعها بقوى اليسار العراقي.
أولا:امراض العلمانيين
1. تضخم الأنا
لدي شك يتاخم اليقين بأن معظم كبار العلمانيين العراقيين مصابون بـ " تضخّم الأنا " وانه متورّم " لدى عدد منهم. ومع إن هذه العلة موجودة على مستوى النخب: سياسيون، أكاديميون،فنانون،ورؤساء عشائر.. لكنها تعلن عن نفسها بوضوح أكثر لدى المثقفين الكبار. واعتقد إن هذه العلة " تضخّم ألانا " مرض العراقيين المزمن،وإنها شائعة لدى العامّة منهم ، وإلا لما ضربوا على أنفسهم المثل القائل : (( إذا أنت أمير وأنا أمير فمن يسوق الحمير )).
و " تضخّم الأنا " غير " قوة ألانا " ، فالثانية حالة صحية نابعة من الثقة بالنفس والتقدير الموضوعي ـ الواقعي لقدرات وقابليات صاحبها،ومعبّرة عن الاعتزاز الإيجابي بالنفس واحترام الذات.
أما " تضخّم الأنا " فهو حالة عصابية " مرضيه " ناجمة عند العراقيين من تراكم الشعور بالاضطهاد والاغتراب وتوالي الخيبات. غير ان العوامل المؤثرة والخفية في شخصية " الأنا المتضخم " إنها تجمع صفات في " توليفة " من ثلاث شخصيات مختلفة هي : النرجسية والتسلطية والاحتوائية . فهي تأخذ من الشخصية النرجسية حاجتها القسرية إلى الإعجاب .. أي إنها تريد من الآخرين أن يعجبوا بها بالصورة التي هي تريدها ، وأن لا يتوقفوا عن المديح والإطراء . فحالها في الإعجاب كحال جهنم ، يسألونها : هل امتلئت ؟ تقول : هل من مزيد !. وتأخذ أيضا منها شعار النرجسي : " أنا مميز " ، وخاصيتها الأساسية المتمثلة في الإحساس بتفخيم أهمية الذات ، والتظاهر بامتلاك قدرات فريدة ، وان على الآخرين أن يتعاملوا معه على أساس أنه مميز ، وأن تقديمه على أنفسهم هو استحقاق لا يستوجب حتى الشكر منه !.
وتأخذ شخصية " الأنا المتضخّم " من الشخصية التسلطية ، انفعالاتها الغاضبة واندفاعيتها،وتصنيفها الناس بثنائيات،وفي مقدمتها ثنائية الأصدقاء مقابل الأعداء،أي من كان معي فهو صديقي وما عداه فهو عدّوي،وتصرفها بالتعالي والعجرفة نحو من هم أقل منه منزلة ( والمفارقة أنها تتصرف بتواضع شديد وانصياع وتملّق لأصحاب القوة والمال ! ).
وتأخذ من الشخصية الاحتوائية السعي إلى السيطرة على الآخرين واحتواء وجودهم المعنوي وأفكارهم ، سواء بالإبهار أو بأساليب درامية أو التوائية.
و " الأنا " يمارس ــ لدى كل إنسان ــ ما نسميه الآليات أو الحيل الدفاعية ، التي تعني:
استراتيجيات لا شعورية مشوهة للواقع يعتمدها الأنا لحمايته من القلق أو خفض القلق لديه عندما يرفض الاعتراف بواقع سواء كان خارجيا" آم داخليا".ومع أننا جميعا" نمارس هذه (التقنيات) النفسية ، فان الفرق الرئيس بين الإنسان السوي والمصاب بتضخم الأنا ، أن الأول يمارسها جميعها بمرونة في المواقف التي تستدعيها ، فيما المصاب بتضخم الأنا ، يمارس عددا محدودا نذكر منها ثلاثة :
• الإسقاط : ويعني ترحيل عيوب الأنا إلى شخص أو موضوع أخر . فإذا كانت "س" حسودة فإنها تنفي عن نفسها ذلك وتتهم زميلتها "ص" بممارسة الحسد . وتشيع آلية "الإسقاط " كثيرا بين المثقفين الكبار المصابين بتضخم الأنا . منها مثلا ما حصل مؤخرا بين الشاعر الكبير سعدي يوسف ومثقفين كبار عندما تم تأسيس " المجلس العراقي للثقافة " عام 2008. والواقع أن شيوع " الإسقاط " بين المثقفين الكبار لا يقل سوءا عن شيوعه بين قادتنا السياسيين .
• الحذلقة الفكرية : وتعني التلاعب بالأفكار والتمويه وإجادة صناعة الكلام . فالمثقف العلماني الكبير المصاب بتضخم الأنا حين يتحدث في موضوع معين فأنه " يبدع " في صناعة الكلام ، في حال يشبه لاعب كرة السلة المحترف..يبهر الجمهور بلعبه في الساحة لكن معظم كراته تكون خارج الحلقة.
• العدوان :لدى المثقف الكبير المصاب بتضخم الأنا نزعة عدوانية صريحة أو ضمنية . فهو إذا انتقده أحد في أفكاره أو سلوكه بحق أو بدونه فأنه يشهر بوجه كل أسلحته ، حتى لو كان ناقده صديقا" له . وغالبا" ما تشيع بين المثقفين الكبار تهم " العمالة " لدولة أو مخابرات معينة وقد تتعداها إلى النيل من الأخلاق والشرف.

ولدى شخصية " الأنا المتضخّم " حاجة قسرية إلى المبالغة والاستعراضية وعطش دائم إلى التفخيم ، وانتقاء رموز وأوصاف دالة عليه ، تدفعه الى ان يطرح نفسه كما لو كان انسكلوبيديا عارفا" بكل شيء . فإذا كان اختصاصه النقد الأدبي او الاقتصاد مثلا" ، تحدث في السيكولوجيا كما لو أنه فرويد.

وشخصية " الأنا المتضخّم " لديها حساسية شديدة نابعة من الشعور بالنقص، وهو (يغار) من شخص له نفس تاريخه النضالي او نضجه المعرفي ولديه (رادار) حساس يلتقط ما لدى الآخر من مآخذ..فيعمد الى تضخيمها او (يغمسها) بايجابيات بطريقة خبيثة.


2. الانتهازية:
من معاصرتنا لأحداث ما بعد التغيير،اكتشفنا حقيقتين مؤلمتين،قاسيتين بخصوص عدد من العلمانيين.وكلامنا هنا ليس انشائيا بل من مواقف كثيرة قرأناها وأخرى عشناها نلتقط منها حادثتين حصلتا فعلا:
الأولى: قمنا في العام (2003 )بتشكيل وفود لمقابلة رؤساء مجلس الحكم للمطالبة بمساواة اساتذة الجامعة في العراق باقرانهم في دول الخليج.وبوصفي رئيس رابطة اساتذة جامعة بغداد ورئيس الوفد فانني اخترت اكاديميين واكاديمييات علمانيين وعلمانييات بينهم من يحمل مرتبة (الأستاذية).وحصل ان ثلاثة منهم استغلوا المناسبة وحصلوا على مناصب وتركوا متابعة مهمة الوفد.
الثانية:في العام (2004) كان هنالك خمسة علمانيين من حملة الدكتوراه اقترح احدهم ان يذهبوا الى الراحل عبد العزيز الحكيم بحجة السلام عليه.ومع ان احدهم حاول اقناعهم بان هذا العمل يتعارض مع مبادئهم،فان الأربعة الآخرين ذهبوا ،وحصلوا على مناصب رفيعة (مستشار،ملحق ثقافي،مدير عام،وعميد كلية).والمخجل ان اثنين منهما قاما بتقبيل يد السيد عبد العزيز.
وما حصل ان (الانتهازية) هذه كبر حجمها في السنوات الأخيرة بين العلمانيين. ففي استطلاع عبر الفيسبوك افاد اكثر من 80% بينهم مثقفون معرفون بان الانتهازية تفشت بين العلمانيين،لأسباب براغماتية(نريد نعيش وناخذ فرصتنة) ومبررات سياسية(ليكون لنا دور من داخل مؤسسات الدولة)..مع انه يأتمر بأمر (الأسلامي السياسي) الذي عينه في المنصب!
ومع ان انتهازية هذا الصنف من العلمانيين،مفضوحة وان مرضهم هذا قابل للانتشار بالعدوى في اجواء موبوءة بالشعور باليأس من تراكم الخيبات ،فانك تراهم يحضرون ندوات ومؤتمرات ذات توجه علماني،ويتحدثون كما لو كانوا علمانيين أصلاء،لدرجة ان علمانيين آخرين يأخذون بالتودد لهم.

ثانيا:امراض قوى اليسار
في العام (2008)كنت اقترحت على الأخ رزكار عقراوي،مسؤول موقع (الحوار المتمدن) تشكيل لجنة تحضيرية،من غير المنتمين والذين لا يثيرون حساسية هذا أو ذاك،تتحرك لتوحيد قوى اليسار العراقي،وتفاجأت بأن عدد هذه القوى يقرب من عشرة أو يزيد. ثم فاجأني الأخ رزكار برسالة يقول فيها،بعد ترحيبه بفكرة تشكيل هذه اللجنة،بأنه تحّرك فعلا" فوجد ان العداء بين معظم هذه القوى من النوع اللدود،وطلب مني ان اقوم بتحليلها نفسيا" لتشخيص ما فيها من أمراض نفسية..وقمت فعلا فوجدت من قراءة كتابات عدد منهم الى ان لديهم عقدا نفسية متحكمة بهم اوجزناها باثنتين:

1. الصراع على الهوية ( أو العنوان )

يمكن تشبيه قوى اليسار العراقي بأولاد أسرة واحدة يحظى فيها الأب بمقام رفيع وصيت ذائع بين ناس يعدّونه " نبيا" أو " عبقريا " من طراز فريد. وحين مات هذا الأب ( ماركس ) تنافس ( اولأده ـ قوى اليسار ) على من يحمل الهوية أو اللقب أو العنوان،ثم تطور هذا التنافس الى صراع وعداء ، واشد انواع العداوات تلك التي تكون بين الأخوة . فالكبير منهم ( ولنقل الحزب الشيوعي العراقي ) يعّد نفسه الوريث الشرعي للأب وحامل هويته وأسمه وعنوانه. ويرى ان من يخرج عن طوعه يعّد منشقا" وعاقّا". والأخ المنشق عليه يرى في مسيرة الأخ الأكبر،حامل العنوان،أنه اساء الى أبيهم وشوّه أفكاره،ويؤنبه بعبارة: ما هكذا قال ابونا،وانك لو تمعنت فيما قاله واتبعته لما اصابنا ما اصابنا.

وواقع نفسي مثل هذا يحتم عليه أمرين،الأول: مهاجمة الأخ الكبير والتركيز في تضخيم أعمال أو مواقف يعدّها اخطاء كبيرة وخروجا" على منهج الأب وما اوصى به . والثاني : دعوة الناس المحبين لأبيه بأنه هو ممثله الحقيقي،وأن عليهم ان يتخلوا عن أخيه الأكبر ويلتحقو به ان كانوا من محّبي أبيه الذي رسم لهم الطريق للخلاص.

ذلك واحد من العوامل السيكولوجية التي فرقّت بين ( اولاد ماركس ) فكل واحد منهم يرى في نفسه أنه الأحق بحمل هوية الأب الذي يعّده الفقراء والمظلومون أنه " نبيهم " و" مخلصّهم".
والمفارقة ان الأخوة الصغار المنشقيين يدركون أنهم لن يستطيعوا ازاحة الأخ الأكبر من موقعه ولن يكسبوا من الناس قدر ماكسب،ولكنهم يمضون في ذلك مدفوعين بالحاجة النفسية الى الشهرة والزهو بالهوية،مسنودة بالخوف من سلطة الأخ الأكبر اذا ما تصالحوا معه وعادوا الى خيمته،لأنهم يعتقدون بأنه حين يضعهم تحت جناحه فأنه سيطمس وجودهم ويفتقدون " الهوية " التي تمثل كينونتهم واعتبارهم الشخصي.وطبيعي ان الانسان يفضّل تهميش الوجود على الغائه. وقد يكون لدى ( أولاد ماركس ) ايمان مطلق بأن استعادتهم " للهوية " مسألة وقت ليس الا،ويبشّرون أنفسهم والآخرين بأن هذا الزمن آت لا ريب فيه.


2. العّناد التعصّبي العصابي
يعني التعصب ( prejudice) النظرة المتدنية لجماعة أو خفض قيمتها او قدراتها أو سلوكها أو صفاتها ليس لها أساس منطقي،كما يعني أيضا" اصدار حكم غير موضوعي بشأن جماعة معينة. ومشكلة المتعصب " فردا أو جماعة " أنه يرى في نفسه أنه على حق وأنه هو الصح في الرأي والموقف وأن الآخر على باطل وخطأ في الرأي والموقف .والأكثر من ذلك أنه لا يرى في نفسه الا ما هو ايجابي ويعمل على تضخيمه ، ولا يرى في الآخر الا ما هو سلبي ويعمل على تضخيمه.

اما العصابية( neuroticism) فتعني عدم القدرة على التوافق مع الآخرين والتقلّب في المزاج والشعور بالقلق والعداء المتسم بالغضب والانجراح النفسي والأفكار غير الواقعية واساليب غير متكيفة مع الواقع ،فيما يعني" العناد " اصرار الفرد ( او الجماعة )على البقاء في الموقف الذي هو فيه وعدم تزحزحه عنه حتى لو ساوره شك بأنه على خطأ،لأنه تتحكم فيه حاجة أو دافع قسري يجبره "غصبا عنه "على البقاء على الموقف. وغالبا ما يصاب بهذه العقدة القادة النرجسيون والمثقفون المصابون بتضخم الأنا،لأن كلا الصفتين " النرجسية وتضخم الأنا " يعدّان الاعتراف بالخطأ نيلا من الاعتبار الشخصي وجرحا للأنا المتضخم وللغدة النرجسية المتورمة في صاحبها.ولقد اشرنا في حينه (2008) الى أن ( العناد التعصّبي العصابي ) مصابة به كل قوى اليسار العراقي،وأن الاختلاف فيما بينها في الدرجة ليس الا.
وحديثا عاد الصديق رزكار عقراوي ودعى مجددا قوى اليسار العراقي (لتوحيد الجهود لمواجهة الوضع المأساوي الذي يمر به العراق).ويضيف الكاتب جودت شاكر محمود بأن جهود رزكار تكللت بعقد لقاء في نيسان (2017) بين بعض الأطراف ذات العلاقة،وحصول بعض النتائج الايجابية.وأفاد في حوار مع السيد كمال يلدو عبر فضائية (الآرامية) حصول تقارب بين بعض قوى اليسار.غير ان متابعتنا لما يكتب في مواقع عدد من قوى اليسار هذه تفيد بأن لغة التجريح والنقد السلبي ما تزال هي السائدة. غير انني وجدت ان الحزب الشيوعي العراقي قد حصل فيه تغيير ايجابي كبير،وانه يترفع عن ممارسة الأساليب غير المهذبة،وانه صار منفتحا اكثر على الناس،وأنه يرغب فعلا في توحيد قوى اليسار العراقي ،حتى مع تلك التي تتكون تشكيلاتها من أفراد.

في ضوء ذلك نخلص الى اربع نتائج اساسية:

1.ان قوة تيار الاسلام السياسي تكمن في تشتت قوة التيار العلماني،
2.ان بقاء انفراد احزاب الاسلام السياسي بالسلطة،يلحق المزيد من الأذى بالقوى العلمانية،
3.ان مشتركات المصالح الوطنية والحزبية والكتلوية والشخصية بين مكونات القوى العلمانية ،هي اقوى بكثير من قضاياها الخلافية،
4.ان خلاص الوطن والناس من افشل ادارة حكم وأفسدها في تاريخ العراق،لن يتحقق الا بتوحّد كل القوى الساعية الى اقامة دولة بهوية علمانية.

وعليه فان المعالجة العقلانية لهذه العقد النفسية والدوغماتية الفكرية تكون بالدعوة الى عقد مؤتمر للقوى العلمانية والمدنية الساعية الى اقامة دولة مؤسسات حديثة،يعتمد هذه الورقة مشروعا للحوار ،ونرى ان تتولى هيئة من شخصيات وطنية مستقلة تضم مفكرين واكاديميين تعمل على التنسيق بين قوى التيار العلماني عبر (الحوار المتمدن)ومواقع عراقية اخرى لأنضاج هذا المشروع الوطني الكبير الذي سيغير مسار العراق في انتخابات 2018..ان حسنت النوايا واغتسلت النفوس بحب الناس والوطن.
8 / 5/ 2017