مَحْجُوبٌ الذَّهَبِي


كمال الجزولي
الحوار المتمدن - العدد: 5514 - 2017 / 5 / 7 - 00:16
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مساء 11 أبريل 2017م، وفي حضور لفيف من الصَّحفيين والإعلاميين والكتَّاب، بفندق كورينثيا بالخرطوم، وفي إطار برامجها للمسؤوليَّة الاجتماعيَّة، كرَّمت (مجموعة دال الاستثماريَّة) عميد الصَّحافة السُّودانيَّة محجوب محمَّد صالح لنزاهته ووقوفه ضدَّ الانتهاكات، وأعلن رئيسها أسامة داود عبد اللطيف عن إطلاقهم جائزة دوريَّة للصَّحافة باسمه. وبهذه المناسبة، نعيد نشر هذه المقالة التي كنَّا نشرناها، ابتداءً، في يونيو 2005م، لدى فوز المحتفى به، آنذاك، بجائزة الاتِّحاد العالمي للصُّحف (القلم الذَّهبي) في 30 مايو 2005م.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثمَّة شئ من ترميز مدهش فى بعض السِّيرةِ الذَّاتيَّة لعميد الصَّحافة السُّودانيَّة محجوب محمد صالح، رئيس تحرير (الأيَّام) الذي نال، عام 1959م، زمالة داج همرشولد للإعلام، وعام 2004م الدُّكتوراة الفخريَّة من جامعة الأحفاد للبنات بأم درمان، وجائزة مؤسَّسة فريدرش إيبرت لحقوق الإنسان ببرلين، وجائزة المنظمة العربيَّة لحريَّة الصَّحافة (درع الدِّفاع عن حريَّة الرَّأى)، كما نال في العام التَّالي جائزة الاتِّحاد العالمي للصُّحف (القلم الذَّهبي)، تكريماً لنضاله من أجل حريَّة الصحافة طوال نصف قرن، وذلك فى فاتحة أعمال المؤتمر السَّنوى للاتِّحاد، والمنبر العالمي للصَّحفيين، بالعاصمة الكوريَّة سيول، بتاريخ الاثنين 30 مايو 2005م، بحضور رئيس الدَّولة المضيفة، وما يربو على 1300 مندوب من 81 بلداً يعملون في الصَّحافة المكتوبة. وهو، إلى ذلك، عضو مؤسِّس باتِّحاد الصَّحفيين العرب، واتِّحاد الصَّحفيين الأفارقة، ومشارك في العديد من المؤتمرات والمدارسات حول العالم.
نعم .. ثمَّة شئ من ترميز مدهش فى بعض سيرة الرَّجل الذَّاتيَّة، كون صرخة ميلاده الأولى عام 1929م جاءت وكأنها، من جهة، تؤذن باستدبار مناخات الانكسار الدراماتيكي الذى زلزل السُّودان، زلزلة، فى عقابيل الهزيمة المُرَّة لثورة 1924م، ومشاعر الاحباط الذى عصف، عصفاً، بمَن قُدِّر له، مِن قادتها، أن يفلت مِن ساحات الإعدام، ووحشة الزَّنازين، وغربة المنافي، وغبن التَّشريد؛ مثلما جاءت، من جهة أخرى، وكأنَّها إرهاص استبشار بمقدم (أفنديَّة) الثَّلاثينات، يتهيَّأون لمعاودة (التجريب)، احتشاداً، هذه المَرَّة، على مسالك التَّثقيف الذَّاتي، والنُّضج السِّياسي، مِمَّا عزوا الهزيمة إلى الافتقـار إليـه بالأساس.
ثمَّ، وبعد زهاء العقدين من الزمان، جاء ميلاد (قلمه الذهبىِّ) صحفيَّاً غضَّ الإهاب، عقب فصله من كليَّة الخرطوم الجَّامعيَّة عام 1949م، بسبب نشاطه الوطني كسكرتير لاتِّحاد طلابها ضدَّ الحكم البريطاني، قبل أن يطلق عام 1953م، مع رفيقي دربه، بشير محمد سعيد ومحجوب عثمان، جريدة (الأيَّام) الغرَّاء، في نفس المفصل التَّاريخي الذي شهد، سودانيَّاً، انفجار الحركة السِّياسيَّة والاجتماعيَّة المدوِّى، وغير المسبوق، بأحزابها الوطنيَّة، وتنظيماتها الجَّماهيريَّة والنِّقابيَّة، واتِّحاداتها المهنيَّة والفئويَّة، وغيرها، مِمَّا وَسَمَ الكفاح من أجل الاستقلال بطابع ديموقراطىٍّ عميق الاتساق مع خصائص المناخ العالمي الذي شهد، وقتها، انتهاء الحرب الثَّانية بهزيمة النَّازيَّة والفاشيَّة، وبروز المعسكر الاشتراكي، وانطلاق حركة التَّحرُّر الوطني، وتصفية النِّظام الاستعماري القديم، وإنشاء المنظمة الدَّوليَّة للأمم المتَّحدة، ومأسسة المفاهيم الحديثة لحقوق الانسان والشُّعوب.
هكذا أضحى محجوب، إلى يوم النَّاس هذا، توأماً رَّمزيَّاً للمعاني الكبيرة التي لازمت ميلاده الأول كإنسان، وميلاده الثانى كصحفي، وبقي (ذهبيَّاً) بثبات في كلِّ الأحوال، وعلى مدى مسيرته الذَّاخرة بالدُّروس العظيمة، والخبرات اليانعة، وحارساً مؤتمناً على مرجعيَّة القيمة الفكريَّة الأسمى لحقوق الإنسان، ومدافعاً جسوراً عن حريَّة الرَّأى والضَّمير، وعن حريَّة التَّنظيم والتَّعبير، وعن الحقِّ في الاتِّصال، وعن الحقِّ في الحصول على المعلومة، وعن حريَّة الصَّحافة بالأخصِّ، وعن سائر الحريَّات العامَّة، والحقوق الأساسيَّة، ومبادئ الليبراليَّة السِّياسيَّة، وثقافة التَّسامح، والحوار السِّلمي، واحترام الآخر. كما ظلَّ وصحيفته يسهمان في الدَّفع الدَّءوب باتِّجاه الدِّيموقراطيَّة التعدُّديَّة نظاماً للحكم، ومنهجاً أثبتت كلُّ خيباتنا التَّاريخيَّة أنه، وحده، وليس سواه، الأصلح للاعتراف بمشروعيَّة الاختلاف، وإحسان إدارته في ما بين مفردات منظومة التَّعدُّد والتَّنوُّع السُّودانيَّة شديدة الفرادة والخصوصيَّة.
لقد خاضت مؤسَّسة (الأيَّام)، بجدارة عالية، معركة الاستقلال السِّياسي، وجمع الشَّمل لإعلانه من داخل البرلمان. ثم خاضت، بذات الجَّدارة، معركة التحرُّر الاجتماعي، وإرساء مداميك الوعي بضرورة التطوُّر الدِّيموقراطي، لم يثنها عن ذلك ترهيب ولا ترغيب، ولم يفتَّ في عضدها سجن أو ملاحقة أو تشريد أو تعطيل إداري خلال الأنظمة الشُّموليَّة.
وفي سبيل التَّرويج لمقاصدها النَّبيلة لم تعتمد (الأيَّام) أسلوب التَّلويح بالشِّعارات الخاوية من فوق الأبراج الصَّحفيَّة المستعلية، بل لقد استرشدت، دائماً، بمهنيَّتها الرَّفيعة، وانتباهتها السَّديدة، فاهتدت إلى كون (الشَّكلانيَّة السِّياسيَّة) هي أضرُّ ما يضرُّ بأىِّ نظام ديموقراطي، وأن (العدالة الاجتماعيَّة) هى السَّاق الأخرى التى بدونها تصاب التَّجربة كلها، حتماً، بالتَّكلس والشَّلل، أو بالعَرَج في أفضل الاحتمالات، والركيزة التي بغيرها يتعرَّض الهيكل بأسره، يقيناً، لخطر التَّداعى والانهيار، فكان أن أولت هذه القضيَّة المركزيَّة عنايتها المخصوصة من خلال اهتمامها الاستثنائي، بمشاركة محجوب في إدارتها، وتوجيهها، ثمَّ تحت رئاسته لتحريرها لاحقاً، بأحوال النَّاس المعيشيَّة من قوت، وإسكان، وصحَّة، وتعليم، وما إلى ذلك، كما وبمعالجة قضايا العاملين، وشكاواهم، ومطالبهم، وأوضاع نقاباتهم، واتِّحاداتهم، وتنظيماتهم المهنيَّة المختلفة، عن طريق الخبر، والصُّورة، والتَّعليق، والكلمة، والعمود، والمقالة، والدِّراسة، والبحث، والتَّحقيق، رغم أنف المال الشَّحيح، والامكانات المتواضعة.
وفي ما يتَّصل بقضايا التَّنوُّع، بالذَّات، ظلت (الأيَّام) تسهم، طوال عمرها (الذَّهبىِّ)، إسهاماً مرموقاً، منذ وقت باكر، في رفع الحسِّ الوطني الدِّيموقراطي إزاء قضيَّة جنوب السُّودان، حتَّى لقد أضحى محجوب أحد أهمِّ مراجعها المعلوماتيَّة والتَّحليليَّة، بما في ذلك (اتفاقيَّة السَّلام الشَّامل) و(مسودة الدُّستور الانتقالي)، مِمَّا لا غنى عنه للسِّياسيين، والباحثين، وطلاب الجَّامعات، ولا غرو، فقد أبدى الرَّجل دائماً جدِّيَّة وعمقاً في التَّناول والطرح الموضوعيين لهذه القضيَّة، مثلما يبدى الآن ذات الجِّديَّة والعمق تجاه الحرائق الوطنيَّة الأخرى في دارفور وغيرها، عبر بابه الأشهر (أصوات وأصداء)، ومحاضراته، وكتاباته، وأوراقه العلميَّة بالغة الوثوق والرَّصانة، باللغتين العربيَّة والإنجليزيَّة. وقد يجدر أن نشير هنا إلى أنه كان أوَّل صحفي سوداني يزور الجَّنوب خلال 1954 ـ 1955م، ليكتب تقاريره مباشرة من هناك.
ليس صدفة، إذن، أن اندرج محجوب و(الأيَّام) ضمن الرُّموز الأكثر سطوعاً للمشروع التنويري في بلادنا، فهذا بعض استحقاقهما لما بذلا ويبذلان لجهة القضايا الوطنيَّة العامَّة، كما ولجهة قضايا الصَّحافة ذاتها، رفعاً للقيود عنها من ناحية، وتأكيداً لمسؤوليَّتها التي تكافئ حريَّتها من ناحية أخرى، وتعزيزاً لمعاييرها الأخلاقيَّة، وصدقيَّتها المهنيَّة، من ناحية ثالثة. لذلك حقَّ للسيِّد إبراهيم نوَّار، رئيس المجلس التَّنفيذى للمنظمة العربيَّة لحريَّة الصَّحافة، أن يعبِّر عن سعادته بنبأ فوز محجوب بجائزة (القلم الذهبي)، كون المنظمة هي التي رشَّحته لها ابتداءً، مثلما حقَّ للسيِّد جورج بروك، رئيس المنبر العالمي للصَّحفيين، أن يعتبر الجَّائزة هذه المرَّة "أكثر من مجرَّد تقليد سنوي، لأنها إنجاز عمر صحفي كامل"، أو كما قال.
ختاماً، ذهب الذَّهب للذَّهب عن جدارة. وكما للذَّهب (عيار)، فإن محجوباً قد أنشأ، وما يزال، عيار الصَّحفىِّ (الذَّهبىِّ) كما ينبغي أن يكون. وإذا كان الشَّئ بضدِّه ينجلي، فقد يكون مناسباً أن نستذكر هنا أبيات نزار قباني: "هذا له زاويَةٌ يوميَّة/ هذا له عَمُودْ/ والفَارقُ الوَحيدُ بينَهُما/ طريقَةُ الرُّكُوعِ والسُّجُودْ"!

***