مي البتول ومي عيشة عنوان الفساد السياسي .


سعيد الكحل
الحوار المتمدن - العدد: 5512 - 2017 / 5 / 5 - 19:52
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي     

شهد الأسبوع الأخير من شهر أبريل حدثين مؤلمين شاءت الأقدار أن يكونا في أواخر ذاك الشهر ليكشفا عن حقيقة أن كل الوعود والشعارات التي رفعتها الحكومة ليست سوى كذبة أبريل التي تتكرر كل سنة ولم يتوقف كثير من المواطنين عن تصديقها حتى وإن كانوا ضحيتها . فعلى مدى خمس سنوات والحكومة تردد ، وعلى نطاق واسع ، كذبتي دعم الأرامل وإصلاح العدالة . وصرفت اعتمادات هامة لإصلاح العدالة ولا إصلاح حتى إن المجلس الأعلى للحسابات سجل اختلالات كبيرة في صرف وزارة الرميد 3 ملايير درهم على إصلاح لم يتم. وكذلك الشأن فيما يخص الملايير التي راكمتها الحكومة السابقة برئاسة بنكيران الذي وعد بصرفها لدعم الأرامل والتخفيف عن الفقراء. فمي البتول ،رغم كبر سنها وهرم عظمها لم يشفع لها عند الحكومة أن تضغط على الإسبان من أجل توفير التدابير اللازمة لضمان سلامة العابرات لبوابة الجمارك . فالراحلة /شهيدة الكرامة اختارت عن وعي ألا تعيش عالة على أحد وألا تطارد دخان الوعود الرسمية التي ملأت بها الحكومة دنيا المغرب ،ولا اختارت التسول على الطرقات وأمام أبواب المساجد . فالكرامة والعيش الشريف حمّلا جسد مي البتول أثقال السنين مع أثقال البضاعة لتعيل أسرتها فيما الحكومة ومصالحها الخارجية لا تولي أدنى اهتمام بمعاناة النساء المشتغلات في تهريب البضائع من سبتة . إن هؤلاء النسوة لا يطلبن من الحكومة أن تتصدق عليهن بالدرهم ولا بالدولار ولكن من حقهن عليها صيانة حقوقهن وحماية كرامتهن ضد المعاملة المشينة التي يتعرضن لها يوميا من كلا الجانبين :المغربي والإسباني . لطالما طالبت الهيئات الحقوقية بضرورة توفير شروط السلامة بالمعبر واحترام حقوق الإنسان التي صادقت والتزمت بها الدولتان معا ؛ خصوصا وأن حالات الوفيات بسبب التدافع تزايدت ؛ وقد تداولت المواقع الاجتماعية عددا من الفيديوهات تظهر خطورة المسالك التي تمر منها النساء وشدة التدافع دون أي تدخل من القوات العمومية لتنظيم العبور وتوفير فرق الوقاية المدنية قصد التدخل عند الضرورة ، فقط شباب أظهرتهم الفيديوهات يتدخلون لإنقاذ المتعثرات حتى لا تدوسهن الأقدام . فمي البتول عنوان الإهمال والتبخيس والاستغلال الذي تتعرض له نساء الوطن في كل المواقع ، وأخطرها بوابة سبتة حيث تهرب النساء من الموت جوعا لمواجهة الموت دهسا . أما الواجب الوطني فيقتضي من الحكومة أن تُعد برامج ، جزء منها تموله المبادرة الوطنية للتنمية البشرية ، والآخر خزينة الدولة للتخفيف من معاناة هؤلاء النسوة بدل تركهن يواجهن مصيرهن ويسقطن صرعى تحت الأقدام والأثقال. مي البتول صفعة على وجه الحكومة لخذلانها وتخليها عن المواطنين ،فيما انشغل أعضاؤها بتوزيع الامتيازات والإجهاز على المكتسبات ، وهي أيضا صفعة على وجه كل الفقهاء والشيوخ والمناهضين لمطالب النساء بالمساواة في الإرث . باب سبتة تملأه النساء ويحملن عبره ما يطعمن به الأزواج والأبناء والأسر ويسددن أقساط قروض السكن ، وقد نجد الذكور يملأون المقاهي وعند الحديث عن الإرث يستنجدون بـ"للذكر مثل حظ الأنثيين" .
حال مي عيشة لا يختلف عن حال مي البتول من حيث الشعور بمرارة الحݣرة والظلم والقهر وفقدان الحيلة والوسيلة . مي عيشة هي عنوان لفساد القضاء ولفشل الحكومة في إصلاحه رغم كل ما قيل وما أعِد من برامج وما رُصد من مال لإنجاح ورش الإصلاح ، لكن ظل الفساد والارتشاء والظلم العنوان الطاغي على قطاع القضاء . فلا نحتاج لمكاتب الدراسات ولا للمؤسسات الرسمية والمدنية لتكشف لنا عن مدى الفساد المستشري في قطاع العدل . مي عيشة أكبر دليل وابرز عنوان لهذا الفساد وأكثر المؤشرات كلها دلالة من أية مؤشرات أو أدلة يقدمها المكلفون بإجراء تلك الدراسات . مي عيشة ليس خريجة كليات الحقوق ولا معاهد القضاء ، وليست بحاجة إلى دبلومات لكي تعرف الحق وتميزه عن الباطل . فالحق لا يحتاج لمن يدل عليه ، بل يدل على نفسه . صرخة مي عيشة هي صرخة كل المظلومين الذين تاهوا في ردهات المحاكم فضاعوا وضاعت حقوقهم . مي عيشة لم تطلب صدقة ولا وقفت بباب مسئول يسلمها إعانة ، كرامتها أعز عندها من كل مذلة . حاولت مرارا وفي مواقع عدة أن تثير انتباه المسئولين إلى قضيتها لكن دون جدوى . غصة الظلم والحݣرة تأججت نارها في صدر مي عيشة فلم تعد لها من وسيلة لإيصال صرختها أبعد مدى وتلتقطها آذان المسئولين سوى ركوب الخطر وصعود اللاقط الهوائي ليزداد مدى صرخة الظلم التي تطلقها . لا أحد يحب الموت ، لكن غصة الحݣرة تجعل الموت مطلوبا ، ليس لذاته ولكن احتجاجا على واقع آسن وإدارة متعفنة وقضاء فاسد وآذان صماء . مي عيشة لست الوحيدة ضحية فساد القضاء ، بل هناك الآلاف ؛ لكنها الأولى التي امتلكت الجرأة على فضح المفسدين من أعلى مكان وفره لها اللاقط الهوائي . مي عيشة رفضت أن تستسلم للفساد أو تذعن للمفسدين أو تغادر هذه الحياة ومعها غصتها ومرارة الحݣرة . وهي تهُم بالانتحار وتهدد به ، ظلت وفية لقضيتها ومصرة على فضح الفساد .فهي تؤمن بعدالة قضيتها وعلى استعداد للموت من أجلها ولن تنسحب في صمت المهزومين . مي عيشة تدرك أنها لن تقضي على الفساد وليست لها السلطة لذلك ، لكنها موقنة بأن حركتها ستفزع الفاسدين وقد تكون قدوة للمظلومين لمواجهة الظلم بعناد وفضح الفاسدين أمام الرأي العام الوطني وحتى الإعلام الخارجي .
لقد حان الوقت لوضع حد لهذا العبث وهذا الفساد الذي ينخر الدولة والمجتمع . فليس ضروريا أن تنتحر سيدة أو تموت طفلة من الإهمال لكي يتحرك المسئولون وتتحرك لجان التحقيق في واقعة ما كان لها لتكون لولا غياب المحاسبة ضدا على الدستور الذي ينص على ربط المسئولية بالمحاسبة .