الكون المرئي ومحيطه رحلة خارج الزمكان أرقام وحقائق


جواد بشارة
الحوار المتمدن - العدد: 5512 - 2017 / 5 / 5 - 05:27
المحور: الطب , والعلوم     

الكون المرئي ومحيطه رحلة خارج الزمكان أرقام وحقائق
د. جواد بشارة
الزمان والمكان مفهومان سيكولوجيان يترأجحان بين النسبي والمطلق، وبين اللامتناهي في الصغر واللامتناهي في الكبر. فعندما نصل إلى النقطة الحرجة أو الفرادة في اللامتناهي في الصغر النسبي، المقيد والمحدد بكوننا المرئي، نلج الى اللامتناهي في الصغر المطلق ، ونفس الشئ ينطبق على البعد الآخر ، فعندما نبلغ حدود اللامتناهي في الكبر النسبي ، أي ما وراء الأفق الكوني المرئي القابل للحساب، نعبر الى اللامتناهي في الكبر المطلق ومن ثم ننزلق من الواحد للآخر على نحو تعاقبي.
لا بد من الاطلاع على بعض الأرقام الكونية الأولية لفهم المقصود لما ذكرناه أعلاه قبل المضي في رحلتنا خارج الزمان والمكان المألوفين لدينا.
النظرية العلمية السائدة اليوم عن أصل الكون المرئي هي نظرية البغ بانغ أو الانفجار العظيم أو الكبير والذي وقع منذ 13،82 مليار سنة وبعده بــ 377000 سنة تشكلت أولى الجسيمات الأولية حيث ظهرت الأشعة الأحفورية الخلفية المكروية المنتشرة في أرجاء الكون المرئي أو المنظور . وبعد 200 مليون سنة من الانفجار العظيم تشكلت أولى النجوم والتي انتظمت بعد مرور مليار سنة على هيئة حشود وأكداس وعناقيد والتي تسمى بــ الآماسات المجرية، وبعد 9 مليار سنة من الانفجار العظيم تشكلت الشمس ونظامنا الشمسي وبعد 18،7 مليار سنة ستموت شمسنا وتنطفئ وبالطبع ستموت معها الحياة على الأرض إذا لم يعثر العلماء على وسيلة لإدامة الحياة و إنقاذ النوع البشري على كوكب آخر مشابه للأرض خارج نظامنا الشمسي.
القياسات والحسابات على المستوى الكوني في الكون المرئي ، خاصة للمسافات ، تتم بالسنة الضوئية وهي ما يقطعه الضوء خلال عام بسرعة 300000 كلم في الثانية الواحدة ، ولقد تمكن العالم البريطاني جيكس برادلي من حساب سرعة الضوء التقريبية سنة 1729 في حين نجح العالم الألماني فردريك باسيل من حساب ما يقطعه الضوء خلال عام وسماه السنة الضوئية وذلك في عام 1938. ولسرعة الضوء قصص مثيرة مرتبطة بالزمن والسفر عبر الزمن والعودة إلى الماضي والذهاب إلى المستقبل حسب مبدأ آينشتين في النسبية العام تباطؤ الزمن مع السرعة والمعروف عند العامة بمفارقة التوأم والتي يرويها كمثال عن شقيقين توأمين يبلغان من العمر20 عاماً، ذهب أحدهما في رحلة فضائية استغرقت 8 أعوام ذهاباً وإياباً وعند عودته إلى الأرض كان عمره 28 عاماً لكنه لم يجد شقيقه بانتظاره بل حفيد حفيد حفيد حفيد شقيقه وعمره 28 سنة أي أن هناك 800 سنة قد مرت على الأرض منذ مغادرته لها في حين بقي عمره كما هو أي مجرد ثمانية أعوام إضافية هي مدة رحلته أي إنه عاد إلى المستقبل الأرضي.
كلنا يعلم أن ضوء الشمس يحتاج إلى 8،4 دقائق لكي يصل إلى الأرض ليقطع مسافة تقدر بــ 160 مليون كلم أي أننا نرى الشمس قبل أكثر من ثمانية دقائق مما هي عليه في هذه اللحظة فلو كانت مأهولة بالسكان فربما يحدث خلال هذه الدقائق الثمانية زلزلال أو انفجار أو انقلاب عسكري أو حرب أهلية دون أن نعلم بها إلا بعد مرور ثمان دقائق ونصف تقريباً. هناك إحدى النجوم التي نراها بالعين المجردة بدون تلسكوب وهي نجمة V762 في كوكبة كاسيوبيه لكنها تقع على بعد 154 مليار كلم أو على بعد 16308 سنة ضوئية وإننا ننظر إليها الآن لكن قد مر عليها أكثر من 16000 سنة وربما تكون قد انقرضت وماتت أو أن الحياة فوقها تطورت لكننا نراها كما كانت عليه قبل هذه المدة وليس كما هي عليه اليوم إذ أن الضوء القادم منها ويحمل أخبارها إلينا يحتاج إلى 16308 سنة لكي يصل إلى الأرض بسرعة 300000 كم في الثانية. وأقرب نجم إلينا يبعد عنا بمقدار 4 سنوات ضوئية وهناك نجوم تبعد عنا 13 مليار سنة ضوئية . وهكذا فإن النجوم كالبشر تولد وتكبر وتشيخ وتموت لكن عمرها يقاس بمليارات السنين فالاختلاف بين الأحجام مهول تخيلوا الفرق بين ذرة وما دونها وكون وما بعده. فلو تصورنا الذرة بحجم الكرة الأرضية فإن النواة في داخلها لاتتعدى حجم ملعب كرة قدم بالنسبة إلى الأرض فتخيلوا مدى صغر نواة الذرة نسبة لحجمها وهناك ما هو أصغر منها بالطبع في داخلها من الكترونات وبروتونات ونيوترونات وأصغر منها مثل الكواركات وأصغر منها مثل الأوتار. وبالطبع هناك الأصغر فالأصغر الذي لم نكتشفه بعد بأدواتنا التكنولوجية التي ما تزال بدائية لمثل هذه المهمة. هناك عالم غريب كمومي أو كوانتي يحتوي غلى الرغوة الكمومية أو الكوانتية mousse quantique وفي داخله يوجد أصغر بعد مكاني عرفه البشر وهو ما يسمى بطول بلانك ويقع عنده جدار بلانك الشهير ويقترن به أصغر وحدة زمنية هي زمن بلانك ، ولكن هناك ما هو أصغر منه وهو من الصغر بمكان بحيث تبدو الجسيمات الأولية مقارنة به وكأنها بحجم الكرة الأرضية أو أكبر. العلم الذي يتعاطى مع هذه الأبعاد اللامتناهية في الصغر هو ميكانيك الكموم أو فيزياء الكوانتوم ، وهو الذي قال عنه العالم الدنماركي نيل بور: لو قال لنا أحدهم بأنه يستطيع أن يدرس ويتأمل ويتعامل مع الفيزياء الكمومية أو الكوانتية بسهولة دون يصاب بالدوار إن لم نقل بالجنون فهو وبكل بساطة لم يفهم شيئاً منه. أما العالم الفذ ريشارد فينمان فقال: أعتقد أن علينا أن نتوخى الحذر ونقول وبكل ثقة وتأكيد أنه لا يوجد أحد يفهم الميكانيك الكمومي أو الكوانتي حقاً ومن يدعي ذلك فهو كاذب. ومن غرائب هذا العالم أن أحد أقطابه وهو إروين شرودينغر قد اكتشف غرابة هذا العالم وعبر عنه بقطته الشهيرة قطة شرودينغر وهي قصة خيالية عن مفارقة غريبة عرفت بمفارقة قطة شرودينغر الحية والميتة في آن واحد وفي نفس الوقت وهي تجربة فكرية تخيلية معبرة عن قطة مسجونة في صندوق محكم الإغلاق يحتوي على ميكانيزم يحتم كسر علبة صغيرة فيها غاز سام ولكن لا أحد يعرف متى وكيف ستنكسر وبالتالي لا يعرف ما إذا كانت القطة حية أم ميتة إلا بفتح الصندوق . هناك مبدأ علمي بهذا الخصوص يقول بأنه بدلاً من أن يكون الجسيم الأولي عبارة عن نقطة كتلية أو ذات كتلة محددة هو في حقيقة الأمر بمثابة منطقة ذات تأرجحات وتفاوتات fluctuations كمومية أو كوانتية كامنة منتشرة وموزعة عشوائياً في فضاء معطى أو في مكان أو حيز كوني على هيئة موجة رغم كونه جسيم، أي إنه ذو طبيعة مزدوجة جسيمية وموجية في آن واحد ومنتشرة في الفضاء الكوني وليس له موضع ثابت ومحدد ومعروف قابل للقياس، فقمم وتقعرات موجته هي بمثابة مناطق احتمالية أو مواقع احتمالية يمكن أن يتواجد فيها في كل لحظة في آن واحد . إذن يمكننا معرفة اتجاه الموجة للجسيم ولكن لا يمكننا تحديد موقعه على نحو دقيق ومضبوط وإذا قمنا بحساب موقعه بدقة فسوف تنهار دالة موجته ويتعذر علينا معرفة اتجاهه وسرعته ، ويعرف هذا الوضع المحير بمبدأ الريبة أو اللايقين وعدم الدقة principe d’incertitude لهيزنبيرغ .
والآن بعد عرفتم هذه الأوليات لنبدأ رحلتنا ونقول : في زمن غابر غارق في القدم، حين بدء أسلافنا القدماء في فجر التاريخ يفكرون ويتأملون ويتساءلون حول وجودهم ومصيرهم، كانوا يعيشون في جماعات صغيرة متفرقة رحل يتنقلون بحثا عن المأكل والمأوى، خاضعين لضراوة الطبيعة ومزاجيتها وتقلباتها، لذا تخيلوا قوى خارقة خارج الطبيعة تتربص بهم وتتحكم بمصائرهم اتخذوها آلهة لهم يعبدوها ويقدمون القرابين لها لكي تحميهم ولا تغضب عليهم وتعاقبهم، وبالتالي ، ومن أجل الراحة النفسية والطمأنينة، اعتقدوا بحدوث المعجزات الخارقة لقوانين الطبيعة وقدرة تلك الآلهة على اجتراح تلك المعجزات. و بعد قرون طويلة، إثر هيمنت طبقة الإكليروس الدينية والكهنة ورجال الدين والمؤسسات الدينية القوية على أذهان وعقول ومعتقدات البشر. كان من فكر وتأمل بوعي متقدم في هذا المجال هم أقوام سكان الحضارات الرافدينية القديمة في العراق كالسومريين والآشوريين والأكديين والبابليين، الذين كانوا أول من قدم رؤية فكرية عن مشكلة الوجود ودونها على الرقم الطينية قبل الفلسفة اليونانية التي استلهمتها وطورتها. تم ذلك بين 5000 آلاف سنة قبل الميلاد ولغاية سقوط بابل سنة 539 قبل الميلاد. ناقشوا وعالجوا فيها مسائل أساسية كالحياة والموت ومواضيع الخير والشر وخلق الكون والإنسان والعقاب والثواب ولو بسمة أسطورية يضمن له التماسك الاجتماعي. عكست تلك النصوص الأثرية القديمة مدى نضوج وإدراك العالم السومري ودقة آرائه وتأملاته في قوى الطبيعة وفي جوهر وخصائص وجوده في هذا الكون و من ثم سعيه لبناء نظام لاهوتي يربط بين الأرض والسماء التي تخيلوا مكوث الآلهة فيها وعلى رأسهم رئيس مجلس الآلهة الإله الأكبر آنو. و بعد ذلك بزغ عصر العلم بفضل المشاهدة والمراقبة والمثابرة والتجارب العلمية والمنجزات التقنية أو التكنولوجية، اكتشف البشر قوانين الطبيعة الجوهرية الأربعة وهي الثقالة أو الجاذبية والكهرومغناطيسية والنووية القوية أو الشديدة والنووية الضعيفة، كما اكتشفوا حقيقة وآلية عمل الكون المرئي أو المرصود والمنظور و وجدوا التفسيرات العلمية والعقلانية لظواهر الطبيعة الغامضة التي كانوا يعتبرونها منجزات إلهية ومعجزات، وتنامى الوعي و الروح النقدية، ونجح العلم في تقديم الإجابات عن سر الحياة ونشأتها، والكون وطبيعته الحقيقية ومكوناته وآليات عمله ، والأهم من كل ذلك حقيقة البشر وتطورهم من الخلية الأولية البدائية إلى العقل العلمي الجبار في يومنا هذا. إن هذه الأوديسة أو الملحمة الوجودية بدأت كما قلنا قبل قليل منذ ما يربو على 13،820 مليار سنة هي عمر الكون المرئي الافتراضي حالياً . لنعد إلى الوراء بمخيلتنا ونتخيل يوماً بلا أمس ، ما قبل المكان والزمان الماديين اللذين نعرفهما جيداً، وسط اللامكان واللازمان واللاشيء واللاأين، عندما كان كل شيء مضغوطاً في حيز مكاني لا يتعدى مكان أو فضاء بلانك وهو 1,616 252 10-35 m ، وفي لحظة زمنية لا تتعدى زمن بلانك 5,391 10-44 seconde ، وهما أصغر وحدات قياسية في الوجود المادي، حين كانت المعلومة مركزة في الفرادة الكونية ، وفجأة ، بسبب غير معروف لحد الآن، تحرر كل شيء ووقع الانفجار العظيم وخرج المكمون إلى الوجود الظاهر، أولاً على شكل حساء بالغ السخونة ، نوع من البلازما الكونية، ثم بات أقل سخونة ويبرد تدريجياً كلما امتد، مما أتاح إمكانية تشكل الجسيمات الأولية، إنه الكون الوليد. كانت الجسيمات الأولية على نوعين شبه متكافئين هما الجسيمات المادية والجسيمات المادية المضادة matière et antimatière،، ولو كانت كميتيهما متساوية تماماً لمات الكون المرئي لحظة ولادته لأن الجسيمات المتناقضة والمتباينة ستفني بعضها البعض، ولكن لأسباب ما تزال غامضة حدث خلل في التناظر الفائق وكان عدد الجسيمات المادية أكبر قليلاً من عدد الجسيمات المادية المضادة، وهو الأمر الذي سمح للكون المرئي بالوجود والبقاء على قيد الحياة.
لم تجر الأمور بهذه البساطة والسلاسة كما يبدو ظاهرياً، فالتمدد الكوني في مراحله البدائية الأولى، شتت المادة في الفضاء ولم يكن التشتت متجانساً ومتسقاً بل متباين الكثافة ، وبالتالي، بدأت الجاذبية بالظهور في المناطق الأكثر كثافة بالجسيمات الأولية المادية المتبقية. بدأ بالتشكل نوع من الأغبرة والغمامات والسحب الغازية وكان تجمعها الكثيف ، وبفعل الضغط الشديد ودرجة الحرارة العالية جداً، قد أدى إلى حدوث نوع من تفاعلات الاندماج النووي، ومنها ولدت أولى النجوم التي تولدت في داخلها العناصر الكيميائية المتعددة الأثقل فالأكثر ثقلاً والتي أولدتنا بدورها فيما بعد ما يعني أننا جميعاً أبناء النجوم.
ومن بين النجوم الفائقة الحجم والكتلة خرجت المسعارات الكبيرة supernovas ،، السوبرنوفا التي خصبت الكون الوليد بالعناصر الثقيلة التي طبختها في الفرن الذري في قلب النجوم، وكانت قوانين الفيزياء آنذاك مختلفة قليلاً إلى حين بلوغ بعض النجوم المستوى المطلوب أو اللازم من الكتل لتنفجر. وبعد مضي مليارات السنين وتعاقب حقب التفاعلات النووية الاندماجية ، تشكلت أولى المجرات ومن بينها مجرتنا درب التبانةLa voie Lactée
ومن بين مكونات هذه المجرة نجم عادي متواضع ومبتذل أسميناه الشمس. وقبل 4،5 مليار سنة، ومن محتويات قرص من الغازات والثلوج التي تدور حول الشمس تجمعت مكونات كوكبنا الصخرية، وشكلت كرة من الصخور والمعادن المتجمعة كانت على مسافة مثالية من الشمس فلم تكن قريبة لتتحول إلى كوكب من الجمر أو فرن حراري، وليست بعيدة بما فيه الكفاية للتحول إلى كتلة من الثلج المتجمد، مما أوجد الظروف الموائمة لانبثاق الحياة على سطح هذه الكرة المسماة الأرض. كان هناك كويكب تائه بحجم المريخ تقريباً اصطدم بالأرض الوليدة وكان من نتائج هذا الارتطام ان انفصلت قطعة كبيرة من مادة الأرض ورميت إلى الفضاء المحيط لكن هذه القطعة ظلت مرتبطة بالأرض بواسطة الجاذبية الأرضية وهي التي تعرف اليوم بالقمر التابع للأرض ما أدى إلى حرف محور دوران الأرض ما يعني أن الطاقة القادمة من الشمس لم تعد تتركز في منطقة واحدة وكان التأثير الثقالي للقمر قد منع الأرض من أن تدور على نحو عشوائي حول محورها وهذه الحالة أدت إلى استقرار الطقس الأرضي وجعله بمنأى من التغيرات المدمرة ومن جراء ذلك تحول كوكب الأرض إلى ما يشبه مهد للحياة الأولية الوليدة، وبتأثير جاذبية القمر على المحيطات الأرضية ولدت ظاهرة المد والجزر وبفضلها ظهرت اليابسة تدريجيا لتتلقف الحياة البدائية التي ولدت في مياه المحيطات. ومن ثم تطورت الحياة من شكلها البدائي أحادي الخلية إلى ما هي عليه اليوم من تطور بيولوجي معقد ومتقن يتجلى بأبهى مظاهره ألا وهو الإنسان إلى جانب الحيوان والنبات.كما رسمتها نظرية داروين في التطور والانتخاب الطبيعي التي استمرت على مدى 3،8 مليار سنة حيث انتقلت الموروثات الجينية عبر الأجيال المتعاقبة للتطور الحياتي.
ونستنتج من ذلك أن عملية الخلق لم تجر وفق السيناريو الميثولولجي الديني الخرافي الذي قدمته النصوص الدينية المتمثل بخلق الله لآدم ومن ضلعه أخرج حواء التي أغوت آدم بارتكاب الخطيئة الأولى وأكله ثمرة الشجرة المحرمة كما تقول الأسطورة الدينية. فكوننا المرئي لم يأت جراء إرادة إلهية خارقة تجسدت عملياً تلبية لمقولة كن فيكون من العدم واللاشيء.
إن اللاشيء الذي انبثق منه الشيء المادي الملموس هو في حقيقة الأمر الخواء الكمومي أو الكوانتي والمعروف لدى العامة بالفضاء الفارغ والذي يمكن التعامل معه بنظريتي النسبية العامة والميكانيك الكمومي أو الكوانتي فالنسبية العامة تتعاطى مع قوة الثقالة أو الجاذبية لكنها في جوهرها نظرية المكان والزمان أو الزمكان وتشرح وتفسر ديناميكيات حركة الأجسام خلال الفضاء الكوني بل وتتناول ديناميكيات الفضاء نفسه وتوضح تطوره.
الروحانيون والمتدينون وأصحاب العقل الخرافي لايمكنهم أن يستوعبوا فكرة نشوء شيء من لاشيء الذي هو في الحقيقة انبثاق شيء ما من فضاء فارغ ظاهريا لكنه مليء بالجسيمات الافتراضية غير المرئية وغير القابلة للرصد حالياً وهو فراغ سابق للوجود المادي وهو بدوره ناشئ من اللامكان، وبالتالي تراهم يركنون لتصور مثالي رومانسي عن إله يسمونه الله هو الوحيد القادر على أن ينتهك المستحيل ألا وهو خروج شيء من لاشيء حسب اعتقادهم. و هو الأمر الذي ردده طيلة آلاف السنين علماء اللاهوت وقالوا بضرورة وجود قوة وراء الطبيعة وخارج الكون واعتبروه الممكن الوحيد.
فأمام الكم الهائل من الأسرار الغامضة والألغاز المستعصية التي طرحتها الدراسات المكرسة للكون المرئي المنظور والمرصود الذي نعيش فيه بات لا بد من طرح نظريات جديدة أكثر جرأة للبحث عن إجابات مقبولة ومقنعة وأصبح من الضروري اللجوء إلى طرق جديدة ومبتكرة للتعاطي مع العلوم الفيزيائية ، سيما فيزياء الجسيمات الأولية وفيزياء ميكانيك الكموم أو الكوانتوم للكشف عن القوانين الحقيقية ، المعروفة والمجهولة، التي تحكم وتسير العالم الذي نعيش في داخله. ومن بينها طاقة الفراغ والتقلبات والتراوحات أو التموجات الكمومية أو الكوانتية والطاقة السوداء أو المعتمة والمادة السوداء أو الداكنة والمادة المضادة والثقوب السوداء ، والتخلص من مسلمة الكون الواحد والغوص في أطروحة تعدد الأكوان، وتعدد الأبعاد المكانية، وفك شفرة الزمن ، ومعرفة ما قبل وما بعد الإنفجار العظيم، وما وراء الأفق الكوني المنظور أو المرصود، ، أي كشف حقيقة الفراغ الكوني الماكروسكوبي والميكرويكروسكوبي، واللاشيء والعدم والوجود واللاوجود ومعرفة طبيعة وحقيقة التضخم الكوني المفاجيء والأبدي الدائم، الذي طرحه العالمان الفيزيائيان أندريه ليند وألان غوث.
إن ما عزز مثل هذا التحول الجديد في مجال الدراسات الكونية والفيزياء النظرية هو ما حققته التكنولوجيا في هذه المجالات من قفزات كبيرة كانت بمثابة انعطافات حادة في سياق الدراسات والأبحاث الكوسمولوجية والفلكية. وعلى الأخص نتائج المشاهدات والرصد التي حققها التلسكوب الفضائي بلانك وتحليلاتها المختبرية، وهو اسم أطلق على التلسكوب الفضائي تكريما لماكس بلانك.
إن النظرة المعاصرة للكون المرئي تمدنا بفرضية علمية ممكنة بل وضرورية لمواجهة المعضلات المستعصية والمقصود بها هنا أطروحة الأكوان المتعددة واحتمال أن كوننا المرئي ما هو إلا واحد من مجموعة لا نهائية العدد من الأكوان المتميزة عن بعضها ومنفصلة عن بعضها أو متشابهة ومتداخلة في بعضها البعض الآخر وقد توجد اختلافات في الأوجه الأساسية للواقع الفيزيائي في كل منها مما يفتح لنا آفاقاً جديدة لفهم واقعنا ووجودنا.