المنطقة العربية والطغاة والشعبوية في أميركا اللاتينية


خالد سالم
الحوار المتمدن - العدد: 5502 - 2017 / 4 / 25 - 14:55
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

"لكنها تدور..."

المنطقة العربية والطغاة والشعبوية في أميركا اللاتينية
د.خالد سالم
إذا قُدر للوطن العربي، بأغلبياته وأقلياته، أن تصبح له مرجعية في تحوله نحو الانعتاق من الطغيان بألوانه، السياسية والدينية، والخروج من مياهه الآسنة تاريخيًا، فإن أميركا اللاتينية هي نموذجه الأقرب، إذ رغم بعدها جغرافيًا نجدها أقرب منا، من ناحية التطور والتجارب المريرة مع الاستعمار والإنقلابات العسكرية والأنظمة المتسلطة. فمنذ أن وصل كريستوفر كولمبس إلى اليابسة الاميركية، في عام 1492، صدفةً، أخذت القارة الجديدة تعاني من المستعمر قرونًا ومما حمله من ثمار الحضارة الأوروبية والعربية، منها أنظمته الجديدة التي فتكت بسكانها بقدر ما أفادتهم.
وصلت إسبانيا ومعها آخر ما توصلت إليه البشرية من إيجابيات وسلبيات، فهذا البلد وريث الأندلس وزخم قرون طويلة من الصراع الديني والعسكري – ما أطلق خطأً عليه حرب الإسترداد لاحقًا- مع العرب والمسلمين على أرض شبه جزيرة أيبيريا حمله غزاتها، من عسكر ورجال دين، نتائج ذلك الصراع، ما أنتج بشاعات مبالغ فيها في تمهيد الأرض أمام النظام الجديد وتنصير السكان الأصليين بالترغيب والترهيب، وكانت النتيجة ما صوره الكاتب البارغوائي إدواردو غاليانو في كتابه العمدة "أوردة أميركا اللاتينية المفتوحة".
الغزاة الإسبان وُصفوا بالقسوة واللاإنسانية، فإسبانيا البلد الفتي الذي اكتشف العالم الجديد كان قد انتهى توًا من حرب الاستردادreconquista ، إسترداد شبه جزيرة أيبريا من أيدي العرب، ما خلق طبقة عسكرية تتصف بالقسوة لطول مدة الصراع مع النظام العربي الذي زرعه الأمويون في هذه البقعة الأوروبية. نقل القادة العسكريون ورجال الدين الإسبان هذه الصفات معهم عند غزوهم لأميركا اللاتينية. ومن المنطقي أن تُشكل خلاصة تجارب الأندلس والفترة الموريسكية روح وتصرفات الغزاة الجدد مع شعوب حضارات في حالة اضمحلال. أحداث التنصير القسري والقسوة الحربية في التعامل مع تلك الشعوب البدائية، مقارنة بما جاء به أحفاد الأندلس، تحمل على تأمل تلك الفترة، ما يطرح أسئلة كثيرة الاجابة عليها غير مستعصية. ففكرة التوحيد العرقي والديني والثقافي التي صبغت الروح والشخصية الإسبانيتين طوال قرون حرب الإسترداد في الأندلس تجعلنا نفسرالكثير في سنوات الإشتباك بين الإسبان والسكان الأصليين في العالم الجديد، وكان ذلك جليًا في طبيعة الحكام الجدد وطبقة القادة العسكريين، بان في الانقلابات العسكرية التي كانت عنصرًا فاعلاً في الحياة السياسية في هذه القارة منذ أن نالت استقلالها من الوطن الأم، وغابت شمس إمبراطورية شاسعة، لم تكن تغيب عنها الشمس، مع نهاية القرن التاسع عشر.
ظل هذا الوضع إلى أن أخذ أحفاد الغزاة الإسبان على عاتقهم مهمة التحرر في منتصف القرن التاسع عشر، المهمة التي انتهت في 1898 بسقوط آخر مستعمرتين، كوبا والفلبين، ما ترك جرحًا غائرًا في النظام الإسبان، وعكسه جيل من المثقفين في أعمال أدبية وفكرية صبغها ذلك السقوط، واتخذوا من ذلك التاريخ اسمًا لجيلهم، جيل الـ 98. ورغم اندحار المستعمر إلا أن القارة وقعت في أيدي طغاة من المدنيين والعسكر، ومن خلفهم واشنطن ومصالحها التجارية والإستراتيجية، ممثلة في شركات استغلال ضخمة، ما أدى إلى خلق طبقة حكام من الطغاة تساندها الولايات المتحدة الأميركية، البلد الفتي الذي كان يبحث عن وجود له على الساحة الدولية. اتخذت واشنطن من شركاتها الكبرى العاملة في القارة رأس حربة لها ومعها دعم الإنقلابات العسكرية على الأنظمة المناوئة لها، وكان إنقلاب الجنرال بينوتشيت على الرئيس المنتخب في تشيلي، الإشتراكي سلفادور ألليندي، عام 1973، من أكثر الانقلابات فجاجة، وآخر حلقة في مسلسل انقلابات دموية شغلت معظم سني القرن العشرين.
كانت الثمانينات فترة فاصلة بين النظم المستبدة والانقلابات العسكرية إذ أقر الغرب أن لا مفر من الديمقراطية في تلك البقعة التي تمثل امتدادًا له. ولعل حرب الفوكلاند عام 1982 شكلت نقطة تحول في هذا الصدد، إذ حاول المجلس العسكري الحاكم في الأرجنتين La junta استرداد تلك الجزر من أيدي البريطانيين من خلال عملية عسكرية شعبوية، لكنها انتهت بهزيمة عسكرية وخسائر كبيرة في أرواح الجنود الأرجنتينيين، وانتهت بكارثة للمجلس العسكري في بوينوس آيريس، ومحاكمات تاريخية لأعضائه، ما أفسح المجال أمام الإنتقال إلى الديمقراطية.
المجتمع المدني لم يبخل في أداء دور مطلبي أتى أكله في فضح الأنظمة الإستبدادية وتسليط الأضواء على قبحها، وكان بمثابة ما أطلق عليه القوة الناعمة لاحقًا على يد الأميركي جوزيف ناي في مطلع تسعينات القرن العشرين، أي القدرة على الحصول على ما تريد عن طريق الجاذبية. من أبرز الحركات التي ساهمت في ذلك وكان لها وقع اجتماعي، من بينها حركة "أمهات ساحة مايو" في العاصمة الأرجنتينية التي طالبت لسنوات طويلة –ولا تزال قائمة- بالكشف عن مصير أبنائهن اللذين اختفوا خلال سنوات الحرب القذرة للمجلس العسكري في الفترة 1976 حتى 1983.
ومن بين التصرفات الجماعية التي كانت تقلق الإنقلابيين خروج سكان المدن كلها في ساعة محددة والضرب على قدور الطهي ما يصم الآذان. الأمثلة كثيرة، وقد لا تؤثر في لحظتها، لكن تحلي تلك الشعوب بالمطلبية كان أحد عوامل دك معاقل الطغيان في تلك القارة.
كان لمثقفي أميركا اللاتينية دور في التصدي للانقلابيين والطغاة ولفت النظر إلى وجود أدب راقٍ وثقافة في تلك القارة، وليس فقط الحروب والطغاة والإستبداد. وكان كُتّاب الطفرة، ألبووم Boom، في ستينات وسبعينات القرن العشرين، من إرهاصات التغيير الأولى بكتاباتهم عن الطغاة وطبقة العسكر الحاكمة. كانت كتاباتهم نداء استغاثة للعالم وقوة ناعمة شاركت في التغيير عبر قنوات العالم. وكان لرجال الدين دور لا يُنكر التصدي للكنسية الكاثوليكية التي أيدت تلك الأنظمة المستبدة، وأعن هنا رجال الدين المنشقين على المؤسسة الدينية الرسمية، مؤسسي تيار لاهوت التحرير، ومن أبرزهم القس والشاعر النيكاراغوي إرنستو كاردينال، في تسعينات عمره الآن، الذي شغل منصب وزير الثقافة في حكومة الثورة الساندينية، مخالفًا لتوجه بابا الفاتيكان سنتئذ يوحنا بولس الثاني، ذراع وكالة المخابرات الأميركية في ضرب المنظومة الشيوعية في شرق أوروبا، قبل انهيارها مع انهيار الإتحاد السوفيتي.
وكان لهذه الحركات المجتمعية، رغم قلة حليتها وهوانها على الطغاة وأذرعهم الشعبوية، دور في تعبيد الطريق أمام الحرية والديمقراطية في تلك القارة الغنية بمواردها الطبيعية والبشرية، والمسلوبة على أيدي الصفوة. وكان معظم المثقفين في طليعة من حملوا راية التغيير، فغالبيتهم هربوا إلى العواصم الأوروبية والأميركية، وناضلوا ضد الطغاة أو عاشوا غربة داخلية دون أن أن يرتمي في أحضان السلطة المستبدة سوى قلة لا تذكرها حوليات تلك الفترة.
جُبل الإنسان على أن يكون مطلبيًا، وفي هذه الطبيعة البشرية يخطئ ويصيب، فما خطيئة الإنسان الأولى، جرأة آدم على تناول التفاحة إلا تجسيدًا لهذه الفطرة، فطرة المطلبية، المطالبة بحقه في ما هو مادي، في رمزية إلى ما هو حسي. كانت مطلبية آدم هي شفرة استمرار البشرية بهبوطها إلى الأرض، وربما لو ظل يتأملها تنضج ثم تسقط لتتلف، راضخًا مستكينًا تحت شجرة التفاح، لما كانت هناك بشرية. لكنه جازف بسيره وراء شهيته وشهوته فكان له حرية الإختيار والإرادة، وهو مبدأ أصيل في الفكر الغربي، المسيحي، رغم أن المسيح جاء حسب بعض مذاهب المسيحية لتخليص البشرية من الخطيئة الكبرى، ثم عالجه مفكروه وفلاسفته في القرنين الماضيين، ليولج في تفكير وحياة هذه الشعوب التي تتجاوز الحواجز بينما نحن نرواح مكاننا في انتظار رحمة الله أو الضربة القاضية من الآخر.
تجذرت الروح المطلبية في الثقافة الغربية، حرية الاختيار، المطالبة بالحقوق، وهي الروح الذي ضمخت القارة الأميركية اللاتنية، امتداد الحضارة والثقافة الغربيتين، فدفعتهم إلى الوقوف في وجه الطغاة مطالبين بحقوقهم. وربما تفتقر إليها ثقافتنا تاريخيًا وجذريًا، فقد آثرنا لعب دور الفلاح الفصيح المشهور والمصور على بردية في مصر القديمة، القائم على الشكوى، الشكوى بأنواعها كافة: من الطغيان والظلم وغلاء الأسعار والتخلف، والتدين الزائف، إلخ. آثرنا الشكوى، سرًا أكثر منه علانيةً، ولم نستطع تنظيم صفوفنا لاتخاذ موقف مطلبي، المطالبة بالمساواة والحق في الحياة كمن يعتلي سدة السلطة.
كنت بعد ثورة يناير 2011 وتبعاتها قد تفاءلت مستنتجًا أننا أبناء يعرب قد تخلينا عن لعب دور الفلاح الفصيح التاريخي، التخلى عن الشكوى والمطالبة بشكل جمعي بحقوقه متحديًا الطغاة. إلا أنه عاد إلى لعب الدور القديم، دور الفلاح الفصيح، إذ آثر السلامة أمام سوط القمع بينما عينه على الجزرة التي يمسك به الحكام في اليد الأخرى.
ومن يريد أن يتعرف على البؤس الذي نعيشه فليتحرك في دائرة تُعد ضمن دائرة المثقفين، أعني دائرة أساتذة الجامعة، فجلهم يلاعبون السلطة من أجل منصب إداري بدءًا برئاسة قسم إلى وزير أو رئيس وزراء. ولكم في ما تنشره الغالبية على شبكات التواصل الاجتماعي أية ودليل على تردي هذه الشريحة ومعها غالبية المثقفين إذ يقومون بحركات بهلوانية يوميًا تزلفًا لقصور الحكم، بينما هم في وادٍ وسكان هذه القصور في وادٍ آخر، معتمدين على ما توفره لهم أبواقهم الإعلامية من شعبوية، تخدير للعامة. المتابع يشعر بخزي يومي أمام هذا التردي لمن يُفترض أنهم يقودون التغيير. لا يعدمون الحجج والمبررات والتشدق بالحرية والديمقراطية في الأمكنة المغلقة وأمسيات المثاقفة.
في سبعينات وثمانينات القرن العشرين كان لمن يسير في شوارع العواصم الأوروبية والأميركية أن يتعثر في مثقفي أميركا اللاتينية وكبار كتابها الذين آثروا المنفى على العيش حبيسي المنفى الداخلي، مكممي الأفواه ومقصوفة أقلاهم أو تولي مناصب تلقمهم بها تلك الأنظمة. فتحت لهم المنابرالغربية وساهموا في الضغط على الطغاة والمفاسدة وألبوا الرأي العام، في الداخل والخارج، ضدهم، فما كان الغرب إلا أن أذعن وأسهم في إسقاط النظم الفاسدة في القارة مع بزوغ شمس تسعينات القرن العشرين.
كان هؤلاء المثقفون الذين لم ينصاعوا للطغاة والمستبدين أحد موارد القوة الناعمة، أي القدرة على الحصول على ما نريد عن طريق الجاذبية، اقناع الطرف الآخر بتحقيق الأهداف المرجوة، وهي تمنحك القدرة على التأثير في جدول أولوياته، فيصبح هو المحتاج للتفاوض معك منكسرًا أمام إرادة العامة. ولعل من تابع إرهاصات وتطورات ثورتي تونس ومصر عام 2011، يدرك أهمية المطلبية ومن ورائها القوة الناعمة، ولنا أسوة في قصيدة "إرادة الحياة" لأبي القاسم الشابي، ومصطلح القوة الناعمة الذي أخرجه إلى عالم السياسة الأميركي جوزيف ناي في مطلع التسعينات.
يبدو أن بعضنا تنبه إلى ضرورة الاقتراب من التجربة الأميركية اللاتينية نحو النمو والتطور والنظم الجديدة، وهو ما تبدى في لقاء عقد في القاهرة مؤخرًا بمبادرة من الجامعة البريطانية في القاهرة جمعت بين مهتمين بالعلاقات بين الجانبين وشارك فيه مسؤولون سابقون من الدبلوماسية المصرية والجامعة المصرية، وهذا سيكون موضع حديث آخر.