بعض الذين فاهوا بآياتهم ومضوا


سعود قبيلات
الحوار المتمدن - العدد: 5490 - 2017 / 4 / 13 - 10:43
المحور: الادب والفن     






«تفيق الغداة وتنسى»..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في قصيدته الأخيرة، التي تمَّ العثور عليها معه بعد انتحاره، قال تيسير السبول:

«أنا يا صديقي
أسيرُ مع الوهم، أدري.
أُيمِّمُ نحو تخوم النهاية
نبيّاً غريبَ الملامح أمضي إلى غير غاية
سأسقط، لا بدَّ يملأ جوفي الظلام
نبيّاً قتيلاً وما فاه بعد بآية.
وأنت صديقي..
وأعلمُ، لكن قد اختلفتْ بي طريقي
سأسقط، لا بدَّ
أسقط يملأ جوفي الظلام
عذيرك بعد
إذا ما التقينا بذات منام
تفيق الغداة وتنسى..
لكم أنت تنسى..
عليك السلام».

فهل هو حقاً لم يَفُه بآيته؟ أم أنَّه كان يشعر في قرارة نفسه باللاجدوى بعدما فاه بها وانتهى منها؟

«لقد انتهى أمرٌ تافه»..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ماياكوفسكي، النموذج الأحبّ لتيسير السبول، فاه بآيته وهو في الثانية والعشرين مِنْ عمره، فكانت «غيمة في بنطال»!

بعد ذلك، توالت عليه السنون حتَّى بلغ الرابعة والثلاثين مِنْ عمره، فوضع طلقة في رأسه وأنهى الأمر، تاركاً وراءه الرسالة التالية:

«إلى الجميع، إنَّني أموت الآن. ولا أتَّهم أحداً.. ولا أريد أدنى ضجَّة، فالموتى يبغضون ذلك. يا أمِّي، يا إخواني، يا رفاقي، سامحوني إنَّ ما فعلته ليس مخرجاً ولا أنصح به أحداً، ولكنَّه كان مناسباً لي، ولا حلّ آخر غيره كان يلائمني.
يا لِيلي.. أعطني حبَّكِ..
إلى رفاقي في الحكومة.. إنَّ أسرتي هي لِيلي بريك، وأمِّي وأختاي. فإذا كنتم تستطيعون تسهيل حياتهم ولو قليلاً، فالشكر لكم..
لقد ابتدأت الأشعار، فأعطوها إلى آل بريك، فسيجدون أنفسهم فيها..
وكما يقال
"لقد انتهى أمر تافه"..
وقارِب الحب
قد تحطَّم على صخرة الحياة اليوميَّة.
لقد زهدتُ الحياة.
وعجزتُ عن أن أعبِّر عن أحزانها
وعثراتها، وأخطائها المشتركة.
ولتنعموا بالسعادة».

وقد اجتهد المفسِّرون، منذ ذاك وحتَّى اليوم، في تفسير سبب انتحاره؛ فقيل – كما هو معروف – إنَّ «البيروقراطيّة الحاكمة كانت هي السبب»، وقال آخرون إنَّ الحبّ الفاشل هو السبب، وقال غيرهم سوى ذلك؛ لكنّني أعتقد أنَّ السبب هو أنَّه قال آيته وانتهى منها! وهذا واضح مِنْ قوله في وصيَّته:

«لقد زهدتُ الحياة.
وعجزتُ عن أن أعبِّر عن أحزانها
وعثراتها، وأخطائها المشتركة.».

فعندما يكون، لدى الإنسان، ما يقوله وما يفعله، لا يمكن أنْ يفكِّر بإنهاء حياته.

لقد كان ماياكوفسكي (ومثله تيسير السبول) مِنْ ذلك النوع من الناس الذي يلمع في فضاء الحياة كالشهاب، فيقول آيته دفعةً واحدة وبكلماتٍ مكثَّفة وحارقة.

«فصل في الجحيم»
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
آرثر رامبو، الذي كانت آيته الشهابيّة «فصل في الجحيم»، عالج الأمر بطريقة مختلفة ظاهريّاً؛ فقد قال هو الآخر كلَّ ما لديه قبل بلوغه سنّ الحادية والعشرين، ثمَّ توقَّف نهائيّاً عن الكتابة. ولكنَّه، في «فائض العمر» الذي تبقَّى لديه، غادر باريس وجال في ثلاث قارّات، وعاش بعض الوقت في اليمن، وخاض في تجاراتٍ بائسة، وما لبث أنْ مات قبل أنْ يُتِمَّ السابعة والثلاثين مِنْ عمره، متأسِّياً على زمنٍ لم تكن السماء فيه «محجوبةً بالغيوم، بل كانت تتلألأ بنور الوثنيّة المجيد»

وكان، في مطلع حياته، وفي فصل جحيمه البركانيّ ذاك، قد قال:
«أعتقد نفسي في الجحيم إذاً أنا فيه».

وقال أيضاً:
«.... أليس باستطاعتنا أنْ نتمتَّع لبضع سنوات بالراحة الحقيقيَّة في هذه الحياة؟ إنَّ هذه الحياة هي لحسن الحظّ الوحيدة وإنَّ ذلك لا ريب فيه، لأنَّنا لا نستطيع أنْ نتصوَّر حياةً أخرى أكثر مِنْ هذه سأماً وأشدّ منها سقماً....».

هوايات خطرة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أرنست هيمنجواي، كان أشطر، بعض الشيء؛ فقد قسَّطَ آيته على بضع رواياتٍ وعددٍ من الكتب القصصيَّة، وانهمك في أثناء ذلك في ممارسة الكثير من الهوايات العنيفة والخطيرة.

ومنها: خوض الحروب؛ حيث أنَّه تطوَّع في الحرب العالميَّة الأولى، إلى جانب الحلفاء؛ وفي الحرب الأهليَّة الإسبانيَّة، إلى جانب الجمهوريين اليساريين؛ وفي الحرب العالميَّة الثانية، إلى جانب الحلفاء.

ومنها أيضاً: ممارسة الصيد، بأنواعه المختلفة (البرَّيَّة والبحريّة).

ومنها كذلك: ارتياد حلبات مصارعة الثيران.

ومنها: الجلوس الطويل في الحانات. حيث تجدر الإشارة، هنا، إلى أنَّه أحد المشاهير الذين خاطروا بشرب «الجنيَّة الخضراء» (الأبسنت)؛

وقبل هذا وبعده، مصاحبة النساء، طبعاً.

ولكنّه، في النهاية، وضع حدّاً لحياته ببندقيَّة صيد قديمة وهو في مطلع الستينيَّات مِنْ عمره.

خمسينيّون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مؤنس الرزَّاز، استطاع، بصعوبة، أنْ يقسّط آيته (وحياته) على واحدٍ وخمسين عاماً. وكان مندهشاً جدّاً عندما بلغ سنّ الخمسين. ومثله، تقريباً، عرار ومحمّد طمّليه، وحبيب الزيوديّ، وغالب هلسا.

مهنيّون
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نجيب محفوظ وغابرييل غارسيا ماركيز، تعاملا مع الكتابة كمهنة (مثل أيّ مهنة أخرى)، فكانا يخصّصان وقتاً محدَّداً بصرامة للعمل فيها (دوام)، وما قبل ذلك «الدوام» وما بعده، كانا يخصِّصانه لشؤون حياتيهما الأخرى.

لقد فَصَلا، بحزم، بين حياتيهما وكتابتهما، وتعاملا مع الكتابة كحرفة؛ ولهذا ظلّتْ حروف آيتيهما تترى وتتصاعد حتَّى أواخر أيَّام حياتيهما المديدتين.

«كؤوس الخمر عند الفجر»
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أمّا أسد محمّد قاسم، فبعد حياة طويلة قضاها في المنفى في هنغاريا؛ حيث تزوَّج هناك بامرأة هنغاريّة وأنجب منها عدداً من الأبناء، قرَّر، في النهاية، أنْ يعود منفرداً إلى مدينته القديمة إربد، ليموت على أرض وطنه، على طريقة الهنود الحمر.

وذلك – بحسب قصيدة له - لأنَّ:

«السنين الباقيات
فارغات
ككؤوس الخمر عند الفجر في رأس السنة
صامتاتٍ متعبات
بعيونٍ جاحظات
وثغورٍ باسمات
مثل قبر
الندامى غادروا والليل مات»

وعلى رأي عمر الخيّام، في رباعيّاته (ترجمة أحمد رامي):

«فقد تساوى في الثرى راحلٌ غداً وماضٍ مِنْ الوف السنين!»