كيف أصبحت مصر رائدة في الهرتلة؟


ياسين المصري
الحوار المتمدن - العدد: 5476 - 2017 / 3 / 30 - 15:04
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

ما هي الهرتلة؟؟
" الهرتلة " تعبير من التعابير التي تثير الاهتمام وتحرك العقل من ثباته العميق، وقد ابتكره أو اشتقه الذكاء الشعبي المصري من كلمة Hurtle الإنجليزية والتي تعني إندفع أو انطلق أو يسوق او يقذف أو يندفع بعنف او سرعة، وذلك لوصف الكلمات التي يندفع و يقذف بها أو يطلقها بسرعة المسؤولون في مؤسسات الدولة وليس لها معنى، ولا طائل من ورائها، وغالبا لا يكون لها أصل أو فصل إلا فى قاموس الشارع المصري وحده .. أي أنها هلوسات ودروشات وهلفطات... من شأنها أن تعمل على تشتيت الذهن وخلق فوضى فكرية لامعقولة ولا مجدية على الإطـلاق ؟.
وقد تفشت ظاهرة الهرتلة منذ عقود في مصر، مما حدا بالدكتور حازم حسني أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة أن يطلق عليها (دولة “هرتليا” العظمى)! في تغريدة له على الفيسبوك بتاريخ 16 ابريل 2016. كتعبير يلخص أداء السلطة الحاكمة فى مصر منذ سنوات طويلة.

جذور الهرتلة
الواقع أن مصر ليست وحدها المختصة بظاهرة الهرتلة، ولكنها برعت فيها - كعهدها دائمًا - وأصبحت رائدة لها في المنطقة برمتها، فالهرتلة لها جذور وقواعد راسخة لدي سكان المنطقة منذ اعتلاهم العربان واستعمروهم أسوأ استعمار عرفته الإنسانية والذي تحوَّل بهرتلة إلهية إلى نصر وفتح مبين، لإخراجهم من الظلمات إلى النور. فكان عليهم أن ينطقوا بلغة أسيادهم الجدد.
ومع أن الكلام المسموع والمقروء يجب أن يشكل في مُجمَله أهم وسيلة للتواصل أو نظاما لـتراكم المعارف والمعلومات بين البشر أو يكون سبيلا للنمو الذاتي والاجتماعي، إلَّا أنه عند العربان والمستعربين في المنطقة برمتها يشكل وجها من وجوه الذات وعنصرا من عناصر الشخصية، وعاملا قويا من عوامل الاحترام والشهرة. لذلك ليس من الضروري أن يعـبر عن معنى أو أن يشكل منهجًا من المناهج المتعارف عليها والضرورية لرقي البشرية، فاقتصر دوره على الشعارات والمفـردات اللغـوية التي يجب ألا يقوم أحد بتدقيق معانيها. لذلك كتب المفكر العظيم عبدالله القصيمي، الذي رفض السعودة والعربنة والأسلمة، كتابه الشهير "العرب ظاهرة صوتية". فكل النواحي الهامة وغير الهامة في الحياة تتحولت على لسانهم إلى مادة كلامية مستباحة لكل الذين يستغرقون في الصـراعات السياسية والدينية والاجتماعية الدائمة، ولا أحد يبحث دوافعها أو تقييم أساليبها أو معرفة حقيقية أهدافها. جميعهم يقدمونها كـوقـود لتحريك دعاواهم المضللة وتبرير شعاراتهم الخادعـة في جميع مجالات الحياة بأساليب ساذجة أو خادعة أو مغرضة، باختصار يهرتلون للعوام الذين في غالبيتهم من الأميين.
ومع أن الجو الثقافي العام كان معبَّأ بهذه الهرتلات الدينية المستورة، إلَّا أن الذكاء الجمعي والفردي في كثير من البلدان كان بعيدًا عن الإلتفات إليها أوالإلتزام بها في كثير من نواحي الحياة ، وربما أخذها البعض كمادة للتسلية أو السخرية والتفكه، قبل مداهمته بالحملة البترولية السعودية الوهابية الحالية.

مدخل إلى الفهم
الواقع أن أي إنسان معرَّض للهرتلة إذا وضَع نفسه أو وضَعه الآخرون في موقف يُحَتَّم عليه أن يتكلم، وهو لا يعرف عمَّاذا ولماذا يتكلم، ولم يُعِدَّ نفسه الإعداد الكافي - لسبب ما - ويعرف شيئًا ما عنه. إن الجهل والغرور من أهم العوامل التي تحمل المرء على الهرتلة، وليس من الضروري أن يرتبط الجهل بالغباء بأي حال من الأحوال، فلا أحد يستطيع دمغ أساتذة الهرتلة في العصر الحديث مثل عبد الناصر والقذافي وصدام وغيرهم بالغباء، إنه نوع من عمى البصيرة، وسوء التقدير، تحت وطأة الجهل الذي يؤدي إلى العجز، والغرور الذي يفضي إلى الغطرسة..
كما أن الشخص المهرتِل ليس مجنونا أو معتوهًا، أو حتى فاقد الوعي، ولا يعاني كما يبدو للبعض من مرض النسيان "الألزهايمر"، ولكنه بفعل الجهل والغرور، يقع في ورطة الموقف، التي سعى إليه وأساء تقديره، فيحاول بشتى الطرق الهروب منها. وعندما يكتشف أن القطيع المسمى بالجماهير يعشقون الهرتلة ويستملحون الهلوسات وتزداد نفوسهم بهجة وارتياحًا لسماع الدروشات والهلفطات، يجد لنفسه مخرجا مجانيًّا للخروج من ورطته. عندئذ تنقسم العقول والنفوس والمواقف، وتحدث فوضى فكرية وسلوكية غير محسوبة ومن الصعب التحكم فيها. فالبعض يتأقلم ويدعم النمط الهرتلي الجديد والبعض الآخر يرفضة فيتعرض للملاحقة والعقاب، أو ينسحب إلى الصمت المميت.

لا شك في أن الهرتلة في كثير من الأحيان تحمل بين مفرداتها نوعًا من النفاق، لأن الإنسان بطبعه يحب أن يسمع ما يحب أن يسمعه وليس ما يكرهه. وقطعان الجماهير التي تربت على النفاق والهرتلة معًا لا بد وأن تستريح إلى الكلمات التي ألِفَتْها وتربت عليها، خاصة إذا كانت تلك القطعان تعاني باستمرار من العوز والظلم والقهر. فمثلا، عندما يبدأ الرئيس خطابه إلى شعبه بالقول: أيها الشعب العظيم، فهو هنا يهرتل وينافق القطيع في نفس الوقت، خاصة إذا كان هذا الشعب أبعد ما يكون عن العظمة. أيضا عندما يوصف جيش مصر بأنه: خير أجناد الأرض، بالرغم من هزائمه المتكررة في العصر الحديث، كذلك عندما يرفع شعار: يحيا مصر، دون معرفة بالكيفية والآلية التي على أساسها تحيا دولة بكاملها. هذه والكثير غيرها ما هي إلَّا هرتلات تحمل بين طياتها نفاقًا يشتت الذهن ويبعث في النفس فيضًا من الغرور والغطرسة.
ولكن أهم ما يميز سلوك الشخص المهرتل هي الوقاحة والتناحة والبجاحة، فهو لا يهتم بالأثر الذي يتركه في نفوس الآخرين مهما كان مؤلمًا أو سيئًا، ويعيش في عالمه الخاص به وحده، ويبادر إلى معاقبة كل من يعترضه أو يعارضه، والتخلص من أي شخص يخالفه أو يختلف معه. ويرتاح إلى المنافقين والمهرتلين والدجالين وذوي النفوس الضعيفة والمريضة.

الهرتلة في مصر
لقد عملت الثقافة السائدة في المنطقة - منذ زمن بعيد على تجهيل الناس وبعث الغرور والغطرسة في نفوسهم، فكان لا بد وأن يبتلعوا بالحكام الجهلة والمغرورين، على التوالي، وكأنهم يتوارثون الجهل والغرور من جيل إلى آخر، تبعًا لحديث ضعيف وموضوع كالعادة على لسان نبي الأسلمة يقول: "كما تكونوا يولَّى عليكم". لذلك لم نسمع عن أحدهم أنه قرأ كتابا مفيدًا أو أنه صديقًا حميمًا للفكر الإنساني الحر، أو حتى رأيناه يحمل ورقة أو ملف لمشكلة ما في يده، وهو مقبل على اجتماع لمناقشتها في أي مكان؟؟؟ لأنهم يحملون جميع قضايا أوطانهم ومشاكلها وهمومها في جيوبهم. وبدلًا من وضعها أمامهم على طاولة البحث، يلجأون إلى الهرتلة السياسية التي تؤدي بالتبعية إلى الهرتلة في جميع مجالات الحياة الاجتماعية والدينية والاقتصادية، فجُلُّ همِّهم وأهم أهدافهم هو أن يحملوا النخب السياسية والدينية والعلمية والاقتصادية والدولة بكاملها على نفاقهم والسجود تحت أقدامهم.

هرتلة الزعيم الخالد
دخلت مصر عصر الهرتلة من أوسع أبوابه في عام 1952 باستيلاء مجموعة من ضباط الصف الثاني الفاشلين في الجيش على مقاليد الحكم، وصعودهم الغير متَوَقَّع أو محسوب إلى واجهة المسؤولية السياسية في بلد غني بموارده وشعبه، ولكنه يعاني في الأساس من فساد الإدارة وسوء استغلال الثروة وتوزيعها. وسرعان ما شعروا برونق السلطة ونفاق الجماهير بالقدر الذي بعث لديهم شعورًا كاذبًا بالعظمة والغرور بالإضافة إلى جهلهم بأساليب السياسية وكيفية السير في متاهاتها!!، فجدوا في الهرتلة مخرجهم الوحيد من ورطتهم، والهرتلة عادة تحتاج إلى دعم معنوي لتقويتها وتثبيتها وترسيخها، ولا بد أن يأتي هذا الدعم أولًا إلَّا بالسيطرة على مؤسسة كبيرة ولها هيبتها ونفوذها الخاص على عقول وقلوب الرعاع، ففرضوا سيطرتهم على الأزهر ورجاله الذين يستجيبون دائمًا لسيطرة "ألي الأمر" الأقوياء، وراحوا يلوِّنون الهرتلة الدينية الخاصة بهم، بلـون اشـتراكي في عصر الاشـتراكية ولون رأسمالي في عصر الرأسمالية. فنجد مثلا محـمـود شلـتوت شـيـخ الأزهـر في عـصر عـبد الناصر يفـتى بأن « القوانين الاشتراكية لا تتعارض مع الإسلام ». « ونشطت العقول الـدينية والمؤسسات الإسلامية في مصر وغيرها من الدول، لتبرير سياسة الثورة الاشتراكية بتبيان انسجامها مع الإسلام»
أنظر كتاب د. صادق جلال العظم: نقد الفكر الديني، ط9، ص23، دار الطليعة - بيروت 2003.

وعندما قرر الزعيم (هرتلة) الخالد (هرتلة أيضًا) البكباشي عبد الناصر الاتجاه إلى المغامراته السياسية والعسكرية، كان عليه معاداة الغرب ومواجهة ثلاث دول كبرى على قناة السويس في عام 1956، ليقول : أنا مش خرع مثل إيدن (أنطوني إيدن رئيس الوزراء البريطاني آنذاك)، وتعبير "خِرِع" هذا، لا يوجد في القواميس ولا يفهمه سوى المصريون وحدهم. والنتيجة أنه طلع هو الخرع الحقيقي. ومع استمرار هرتلته وتكاثفها وإطباقها المحكم على العقول والنفوس، كان صديقه الحميم وعدوه اللدود المشير عامر يؤسس في الجيش لجمهورية الضباط الاشتراكية، التي مازالت قائمة حتى اليوم وتتوحش كل يوم، وتنعم بالتحكم في مصير وطن بكامله وفِي المقدرات الحياتية لكل مواطن.

إتجه الزعيم الأوحد عبد الناصر إلى مغامراته السياسية المدمرة في داخل البلاد وخارجها تحت شعار مُهَرْتَل هو "الاشتراكية" التي لم يفهمها أحد على الإطـلاق، وأحدثت فوضى عارمة في سوء استغلالها، مما دفع الشيخ عاشور محمد نصر، في المؤتمر القومي للاتحاد الاشتراكي عام 1968، وبحضور الزعيم الأوحد ذاته، إلى التهكم على أعضاء المؤتمر، قائلًا :« يأتي الواحد منهم ويحدثنا عن الاشتراكية وهو يضع خاتم «سوليتير» في أصبعه، ويقود سيارة طولها سبعة أمتار، ويقول لنا: اربطوا الأحزمة على البطون، فهل ربط الأحزمة موقوف علينا فقط؟».
بالطبع هذا الرأي لم يعجب زعيم الاشتراكية الأوحد، فقرر إرسال الشيخ عاشور إلى السجن الحربي، بعد المؤتمر مباشرة.

كان الزعيم الخالد متحمسًا إلى أبعد حد للقضاء على الاستعمار، وتحرير الدول العربية والأفريقية، فتورَّط في وحدة مزيفة بين مصر وسوريا، وفي حرب إبادة للجيش المصري في اليمن، وفي تقليب الجيوش والشعوب ضد بعضها البعض، تحت شعار مُهَرْتَل أيضا هو "الأمة العربية" أو "العروبة"، وبدأت فوضى الترهل الفكري و النفسي والثقافي والإعلامي والديني والاقتصادي تضرب في بأطنابها في أعماق دولة بكاملها، وعندما احتدت هذه الفوضى الناصرية في عدائها لدويلة إسرائيل الكبرى، ، رغم أنه عداء مزيف، وكثرت الانقلابات العسكرية في المنطقة، كان لا بد من شَكْمِهِ كي يعود إلى رشده، فالحقت به تلك الدويلة الكبرى هزيمة منكرة في ساعات قليلة عام 67، وقال المهرتلون عنها إنها نكسة، وأبوا أن يقولوا إنها وكسة، مع أن آثارها المدمِّرة مازالت باقية حتى يومنا هذا.
ووصف الفريق عبدالمحسن مرتجي، قائد القوات البرية في هذه الوكسة، الزعيم الأوحد، بأنه لم يكن صاحب فكر سياسي ولا اقتصادي وأنه لم يكن يختلف عن الملك كثيرًا، وكان لا يسمع سوي صوته، فكانت هذه هي مشكلته.
وذكر عنه أيضًا، أنه لم يكن يهتم سوي «بشكله وهيبته» فقط أمام الدول العربية حتي لو كان هذا علي حساب الدولة.
الاهتمام بالشكل والهيبة سمة أساسية من سمات الجهل والغرور وهي جميعها أمور تحظى بالعناية والرعاية لدي الشعوب المتخلفة حضاريًا.
وبذلك يمكن القول بأن الزعيم الخالد قد أضاف أسس جديدة للهرتلة في مصر راح يقتدي بها ويصقلها وينميها خلفاؤه من بعده، ويسير على منوالها آخرون مثل عقيد ليبيا وصدام العراق وغيرهما من الحكام الجهلة المغرورين.

هرتلة الرئيس المؤمن
إستمرت الهرتلة السياسية ونمت وتطورت على أيدي الزعيم المؤمن )هرتلة) محمد أنور السادات بطل الحرب والسلام معًا (هرتلة أيضًا)، وهو أول حاكم لمصر تظهر زبيبة السجود على جبهته، ويمسك بمسبحة في يده لمغازلة المتدينين ودغدغة مشاعر القطيع. ولكنه أزال الزبيبة وترك المسبحة بعدما اكتشف أنها أمور عبثية، لم تثني المتدينين عن انتهازيتهم السياسية.
ولما انقـض عـلى اشـتراكية سلـفه وأعـاد نوع خاص من الرأسمالية الغير منضبطة بضوابط ولا محدودة بحدود، بحيث تتفق مع هواه وهوى أتباعه، تحـت شعار هرتلي هو « ثورة التصحيح » في عام 1972م، أفتى مهرتلًا الشيخ محمود الفحام الذي تولى المشيخة في الفترة من 1969 ـ 1973م، بأن هذه « خطوة تأتي من أجـل كفالة الحـريات للـوطن والمواطنين وسيادة القانون وبناء الدولة الجديدة » الأمر الذي لم يتحقق حتى الآن ولن يتحقق ـ كما يبدو ـ في المستقبل المنظـور.
وفِي عصر الرئيس المؤمن دخلت الهرتلات إلى جلسات مجلس الشعب، ففي الجلسة رقم 43 المنعقدة في يوم الاثنين 20 مارس/ آذار 1978 لمناقشة نواحي الفساد في وزارة الأوقاف التي تورط فيها أحد أقرباء السادات، وكان ذلك بحضور معشوق القطيع ومهرتل القرآن الأشهر في مصر في القرن العشرين، الشيخ محمد متولي الشعراوي، الذي تقلَّد منصب وزير الأوقاف وشئون الأزهر عام 1976، المنصب الذي لن يبقى فيه أكثر من سنة وعشرة أشهر و25 يومًا فقط، وأثناء احتدام النقاش، بدأ الوزير الشيخ في لوم الحاضرين الذين يكيلون للنظام الاتهامات بقسوة وعنف، وقال مذكرًا بالعهد الناصري: « أين كانت البطولات التي تظهر اليوم؟ أين كانت حين كان التعدي على الأموال والمخصصات، وكانت تراق دماء الأبرياء، ويُعتقل الشرفاء ويُعتدى على العرض، دون أن نسمع همسة تنكر منكرًا يحدث أمام الناس جميعًا؟».
لكن الأهم، أن الشيخ قد أتْبَع حديثه بجملة تعد من أثقل الأعيرة الهرتلية في حياته؛ إذ قال: « والذي نفسه بيده، لو كان لي من الأمر شيء، لحكمت للرجل الذي رفعنا تلك الرفعة (يقصد الرئيس السادات)، وانتشلنا مما كنا فيه إلى القمة، « ألا يُسأل عمَّا يفعَل».
هنا يبدو الشيخ الشعراوي ليس مهرتلا فحسب، بل ومهرطقًا أيضًا إذ يُنزل الرئيس السادات منزلة الإله في العقيدة الإسلاموية، حيث تتطابق تلك الجملة مع آية في سورة الأنبياء بالقرآن تقول عن الله: «لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ».
وبعد أن قال الشعراوي: «لا يُسْأل عمَّا يفعَل»، وقف النائب البرلماني وناقد اشتراكية عبد الناصر، الشيخ عاشور نفسه، غاضبًا وقال له: « اتقِ الله يا راجل مفيش حد فوق المساءلة، راعِ ربنا»، فما كان من الشعراوي إلا أن أصدر مرسومًا وزاريًا على الفور، بقوله: « أنا أعرف بالله منك »، وكررها مرتين، ليثبت بذلك أن أحدًا لا يجاريه في الهرتلة الدينية المقدَّسة!!

وتطور الأمر بعد ذلك، حيث أحال سيد مرعى صهر السادات ورئيس المجلس واقعة الشيخ عاشور إلى اللجنة التشريعية؛ لاتخاذ القرار بشأنها، وصوت المجلس على خروج النائب من القاعة، وأثناء خروجه ظل يردد: « ده مش مجلس الشعب، ده مسرح مجلس الشعب .. يسقط يسقط أنور السادات».
فعلق مرعى بقوله : "عضو شاذ لا يجوز أن ينتمى لمؤسسة دستورية"!!، وتم إسقاط عضويته من المجلس.

وهكذ ظل الشيخ الشعراوي ذاته يُستخدم من قبل السياسيين كرمز ديني، يحظى بالإجماع من عموم القطيع؛ من أجل مآرب سياسية، لم ينآى هو نفسه عنها. وبعد ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011، ظلت القنوات الفضائية، المملوكة لرجال أعمال مصريين ضاقوا ذرعًا من الاحتجاجات الفئوية وشعارات «الثورة مستمرة»، تردد على مدار اليوم مقطعًا شهيرًا لهذا الشيخ يقول فيه: « آفة الثائر من البشر أنه يظل ثائرًا، عايز كل يوم يعمل دوشة، لكن الثائر الحق يثور ليهدم الفساد، ثم يهدأ ليبني الأمجاد».

كان من الضروري أن تتوطد الهرتلة السياسية تدريجيًّا بدعم من الهرتلة الدينية بالتبعية، فإذا اعترفنا بأن رجال الدين ووعَّاظ السلاطين لا يخشون أبدًا على زوال الدين، وكل خشيتهم على زوال مناصبهم ومصالحهم، وانفضاض القطيع من حولهم، يمكننا أن نفهم الدوافع وراء هرتلتهم.
بالطبع لم يقترب السادات من جمهورية الضباط الاشتراكية التي قام على رعايتها الجنرالات في الجيش لأنه ينتمي إليها ويحتمي بسطوتها في المقام الأول. وصدقت مقولة طيب الذكر الفيلسوف السياسي نيكولو ميكافيلي: « الدين ضروري للحكومة، لا لخدمة الفضيلة، ولكن لتمكين الحكومة من السيطرة على الناس».
وذكر السادات (طيب الله ثراه) في إحدى خطبه: اللي ما يغتنيش في عصري، عمره ما حيغتني!!، وفِي اجتماعه بالطلبة المصريين المبتعثين أو غيرهم من الهاربين إلى ألمانيا في سفارة مصر في بون في بداية الثمانينات، ناداه الطالب حسن قائلًا : بابيه، البلد مليانة فساد. قال له أنت ما تعرفش حاجة عن مصر. مصر اتغيرت كتييييييييييير وماعدش فيها فساد والدليل إنك بتقولي يا بيه واحنا لغينا الباشوية والبهوية من زمان. طبعًا هرتلة لأن الفساد والجشع وانعدام الأخلاق والضمير كان يستشري ويتمدد كالسرطان في مفاصل الدولة. وعندما رفع ثمن رغيف الخبر بضع قروش، حدثت مظاهرات شعبية، قال عنها إنها "انتفاضة حرمية بقيادة شوية أفندية". الهرتلة دائما نابعة عن الجهل والغرور ويصاحبها باستمرار تحقير للآخرين الذين لا يمتثلون لها، وفي هذا القول قصد لتحقير المثقفين ورجال العلم بوصفهم "شوية أفندية تقود اللصوص في الانتفاضة". واستمر زعيم الحرب والسلام مهرتلا في كل شيء، حتى قتله المتأسلمون المتدينون، كما نعرف جميعًا.

هرتلة "لاباشكري"
الآن ترسخت بناية الهرتلة على أسس متينة تتيح لأي رئيس يقفذ إلى السلطة في البلاد أن يهرتل كما يشاء، دون اعتراض أو محاسبة. وبالفعل جاء الطيار حسني مبارك، الذي لم يهتم كثيرًا بالألقاب، ليهرتل بالضرورة ويصبح في نظر الذكاء الشعبي مجرد "حسني كباري" لأنه دأب في بداية عهده على افتتاح الكباري التي غطت بقبحها على معالم العاصمة، أو "البقرة الضاحكة" (علامة جبن لاباشكري الفرنسية رومانسية المذاق) ولكنه ما لبث أن اكتشف عدم قدره على الهرتلة فكف عنها وتركها لغيره، إذ يقال أنه أثناء زيارته لمصنع ما توقف عند أحد العمال الشباب وسأله: هل أنت متزوج؟ فرد العامل بالنفي، ومع ذلك سأله: هل لك أولاد؟!. هرتلة تنم عن الغباء!!. لذلك تفرغ لجمع الثروة وحماية نفسه وأسرته ورجال الأعمال الجشعين وجمهورية الجنرالات الاشتراكية الفتية.
بدأت عدوى الهرتلة تتفشى في المجتمع بأسره، فتولاها نيابة عنه النخب من رموز السياسة والدين والاقتصاد والعاملين في حقولها والمسؤولين عن مجرياتها على كافة مستوياتهم.

هرتلة الرئيس الضائع
ولكن الرئيس محمد مرسي عاد إليها وبدأها من اليوم الأول إلى اليوم الاخير في رئاسته التي لم تدم سوى عام واحد، كانت هرتلته ذات طابع ديني عريق. ونظرا لأن النخب وقطعانها ليسوا جميعًا على هرتلة رجل واحد، قاموا قومة رجل واحد ضده. فالبعض منهم يحب أن يسمع هرتلة دينية والبعض الآخر هرتلة سياسية أو اقتصادية .....إلخ، إنهم أصبحوا يتبنون تعدد الهرتلات، كتتبنى تعدد الثقافات في الدول الإنسانية المتحضرة .

هرتلة رئيس الغفلة
وفي غفلة من العقل الجمعي والذكاء الشعبي ونوم النخب الوطنية ، انقض علي الرئيس مرسي شخص واحد ووحيد ممن تجري الهرتلة في عروقهم مجرى الدم، هو الجنرال عبد الفتاح السيسي وزير دفاعه الكامن له في غابة الهرتلات، وأقصاه عن سدة الحكم من خلال مسرحية هزلية منقطعة النظير. لقد اتضح للجنرالات الذين يديرون جمهوريتهم الاشتراكية أن الاتجاه الديني للهرتلات من دون الاتجاهات الأخرى التي عمت وانتشرت في البلاد سوف يضر بثروتهم ومصالحهم وممتلكاتهم التي حققوها خلال نصف قرن من الزمن، وقد يقضي على جمهوريتهم نفسها في وقت ما.

أعاد الرئيس السيسي الأمور مرة أخرى إلى سابق عهدها، مع إضافة كم غير محدود من التطوير والقلوظة والصقل، فهو كأسلافه من خلفية وتربية عسكرية، فاشلة دائما في عملها، وجاهلة دائمًا بشؤون السياسة ومتاهاتها، ومغرورة دائمًا بما لديها من غطرسة. فأظهر براعته وموهبتة الخارقة في تطوير أساليب ونمط ومحتوى الهرتلة وعمد إلى قلوظتها وصقلها بإضافة الطابع الشعبي إليها، وعدم الاكتفاء بها كلاميًا، بل عمليًا أيضًا، وترك العنان في كل حدب وصوب لكل من يرى في نفسه موهبة الهرتلة أن يتبارى معه فيها حتى يصبح الجو العام في البلاد ملبدًا بها كي تحجب أشعة العقل.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن مباركته وتدشينه لجهاز اللواء عبد العاطي صاحب "صابع الكفتة" العجيب، والذي سيرغم الأمريكيين على الإتيان إلى مصر والعلاج من كافة الأمراض، لم تكن هرتلة فحسب، بل أيضًا تضليلا وخداعًا واستهانة بأصحاب العلم والعقول النيرة والنفوس النظيفة.

ربما كانت الفترة التي أعقبت 3 يوليو (تموز) 2013 في مصر، هي واحدة من أكثر الفترات التي استخدمت فيها السلطة هرتلات دينية لتبرير تحركاتها، واضطلعت المؤسسة الدينية الرسمية وشيوخها بجزء كبير من تلك المهمة في أسلمة الخطاب السياسي.

ففي أكتوبر (تشرين الأول) 2013، وقف المفتي السابق والدائم حتى الآن والشيخ الصوفي الشهير علي جمعة، أمام قادة الجيش والشرطة، وفي مقدمتهم رئيس مصر الحالي عبد الفتاح السيسي ليقول: « لقد تواترت الرؤى بتأييدكم من قبل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن قبل أولياء الله»، وأخذ يردد بحماسة: « الدين معك والله معك والرسول معك والمؤمنون معك». واقترب من الجنون عندما قال ذات مرة: « الرسول والأولياء يؤيدون السلطة في مصر". هذا الشيخ لم يدع مجالًا لأية معارضة لطريق الفشل الجديد الذي تسلكه الحكومة؛ فتلك المعارضة لن تكون بحسبه معارضة لبشر، وإنما هي معارضة للاختيار النبوي واختيار الأولياء، الذي تجلَّى في الأحلام الليلية، كما قال جمعة.

بدأ السيسي هرتلاته بتكرار عبارة "تحيا مصر" دون داعي في كل المناسبات، بما فيها هيئة الأمم المتحدة في واشنطن ، فقام القطيع على الفور بإنشاء صندوق حسنات أسموه صندوق "تحيا مصر».
ولكي يدغدغ مشاعر العوام قال بنبرة نسائية مائعة: إنتم ما تعرفوش إنكم نور عينيا والَّا إيه؟؟ ولأنهم نور عيونهم وضع لهم رتبة عسكرية كبيرة أو صغيرة تراقبهم وتعاقبهم في كل مكان في الدولة. ومازال مستمرًا منذ ذلك الوقت في هرتلاته التي ملأت وسائل الإعلام في العالم كأكبر مهرتل في تاريخ مصر الحديث، أود هنا أن أذكر البعض القليل جدًّا منها ويمكن الرجوع إليها وإلى غيرها مجمَّعة على شبكة الإنترنت، قال :
"اسمعوا كلامي أنا بس.. أنا بس"،
وعندما قال: "صبحوا على مصر كل يوم بجنيه عشان نحل أزمة الاقتصاد"، قأسرع القطيع لإنشاء صندوق " احلى اصطباحه لمصر " لجمع الحسنات من جيوب التعساء.
وعندما قال: "انتوا مين.. هيع" كان يكرر جملة القذافي "من أنتم.." ولكنه زاد عليها "هيع".
ثم قال:،“هافضل أعمر في مصر لحد ما تنتهي حياتي أو مدتي.. انتوا فاكرين إني هاسيبها؟” ، وقال في وقت آخر: « قسما بالله اللي هيقرب من مصر هاشيله من على وش الأرض».
وفِي الاحتفال بالمولد النبي لم يذكر النبي بكلمة واحدة ولكنه قال: "اللي يقدر على ربنا يقدر علينا"
ويمكن للقارئ العزيز ألَّا يدرك التطور الفيلولوجي وحده في أقواله، بل يدرك أبدًا مدى الجهل والغرور والغطرسة.
يجب ألَّا نغفل عن ذكر أنه أول رئيس في مصر وربما في العالم أجمع يحيطه الحراس المسلحين من كل جانب ويلتصقون به مثل ظله في أي مكان يتواجد فيه. مما يشير إلى أن الهرتلة تخرج اعتباطا أو بعفوية بلْ إِنها مُرَتبة ومبيتة ومخطط لها، وهذا يفسر انتشارها في المجتمع مثلما تنتشر النار في الهشيم.

(دولة "هرتليا" العظمى)
ولأن الدولة أصبحت ملبدة بالهرتلات أقدم هنا بعض الأمثلة:
محافظ القاهرة الدكتور جلال مصطفى السعيد بعد غرق شوارع القاهرة عقب موجة الأمطار يقول: “المطر لما بينزل الشوارع بتتبل”
وزير التربية والتعليم الدكتور الهلالي الشربيني الذي يؤكد أننا “نستطيع تغيير مناهج العالم” ويخرج بعدها المتحدث باسم الوزارة مستنكرا كلام الوزير قائلا” إذا ثبت أن صرح الوزير بهذا الكلام فإنه على سبيل المزحة والتفاخر”.
ووزير التعليم العالي السيد عبد الخالق يصرح ببجاحة أن “مصر تمتلك مستشفيات أفضل من المستشفيات الموجودة في بريطانيا من حيث المباني والتجهيزات”، ولا يذكر لنا سببًا لتدني مستوى الخدمات الصحية، ولماذا يسافر الوزراء والمسئولين للعلاج بالخارج.
وتصل الهرتلة إلى قطاع الطرق والنقل حيث اعتبر وزير النقل الدكتور سعد الجيوشي، “أن إصلاح الطرق سيرفع معدل حوادث السير، لأن الطرق ستكون وقتها أكثر نعومة مما يؤدى إلى إغراء السائقين بزيادة السرعة ويسبب زيادة معدلات الحوادث”، وهو ما يعتبر سبب مقنع لعدم اصلاح أحوال الطرق.
ويدخل على نفس الخط اللواء عادل ترك، رئيس هيئة الطرق والكباري، الذي قال “إنه كلما ازداد سوء حالة الطريق قل عدد الحوادث، لأن الطرق المكسرة تجبر السائق على أن يخفض سرعته ومن ثم تقل نسبة الحوادث”
ولكن وزير النقل أحمد إبراهيم يضع يده على الداء الحقيقي للمنظومة الإدارية في مصر، ويقول “لأننا فاشلون في الإدارة، قررنا التعاقد مع شركة عالمية متخصصة ستكون مسؤولة عن تشغيل مرفق السكة الحديد”. لا أما جمال بيومي، مساعد وزير الخارجية الأسبق والخبير الاقتصادي يقول إن مصر تُنتج أطفالا أكثر من إنتاج السندويتشات مؤكدا أن ” المصريين ينجبون أكثر مما ينتجون”.
وفي سياق التصريحات الهرتلية يعلن الدكتور خالد فهمى وزير البيئة، عن مبادرة تتم مع مسؤولى حديقة الحيوان، لنقل التماسيح التى يصطادها الأهالى إليها، قائلا “أى مواطن اصطاد تمساح وكِبر عنده يسلمه لجنينة الحيوانات وإحنا نصدره”، على اساس أن كل شيئ متوفر والناس بتربي تماسيح كمان.
ومن الهزل إلى الجد الممزوج بحسرة ننتقل مع تصريحات الدكتور مجدى عبد العزيز، رئيس مصلحة الجمارك، الذي قال ” إن مصر تحولت لسلة نفايات لدول عديدة، وصلت إلى أن بعض المستوردين يجلبون منتجات بداخلها صراصير”.
وتأكيدًا على أن مصر تعاني من تدهور عام، أكدت وزارة الصحة على لسان متحدثها الرسمي “أن بعوضة فايروس زيكا غير موجودة في مصر لأنها تحتاج لمياه نظيفة مش موجودة عندنا”، ودا بقي الإعجاز العلمي.
لينهي اللواء عاطف يعقوب، رئيس جهاز حماية المستهلك المشهد بكلمته الخالدة ” احمدوا ربنا إنكم عايشين”.
بينما الدكتور أيمن عبدالمنعم، محافظ سوهاج يصف تلك المنظومة بأنها شهدت قمة الاعجاز الهندسي. ولما سمع عن انهيار كوبري الجامعة بعد 7 اشهر من تشغيله، أطلق هرتلة هندسية قائلًا: “معلش أصلنا نسينا نحط خوازيق!”..
وما أكثر الخوازيق في مصر.

وعن هرتلة الإعلام المصري حدث ولا حرج، فعلى سبيل المثال تناول المذيع محمد الغيطى مقطع فيديو مثير للسخرية لاحد رجال امن السيسى فى زيارته للصين لحضور قمة العشرين وفيه يطلب رجل الامن من وزير الخارجية الأمريكي جون كيرى هاتفه المحمول، قبل دخوله إلى مقر إقامة السيسي. وعلق المذيع بقوله: " ان بعض اجهزة المخابرات قد حذرت بعض الزعماء من عدم تغييرهم ملابسهم فى غرفهم الخاصة خشية ان يتم تصويرهم فى اوضاع مخلة بالهواتف المحمولة". واستكمل الغيطى هرتلته قائلا : "وقد حذرت اجهزة مخابراتية المستشارة الالمانية " ميركل الا تقوم بتبديل ملابسها الا تحت "اللحاف "، وهكذا لا يمر علينا ساعة واحدة دون أن نسمع هرتلات سخيفة كهذه.
وإذا سألني أحد عن مصير ومستقبل الهرتلة في مصر، فسوف تكون الإجابة ببساطة: لا أدري!! فقط علينا أن نواصل الهرتلة ونقول:
اللهم ارفع «الهرتلة» عنّا،
واحفظنا من المهرتلين.
إنك سميع عليم مجيب الدعوات يارب العالمين!!
وتردد مع شاعرنا العظيم:
نوح راح لحاله والطوفان استمر
مركبنا تايهه لسه مش لاقيه بر
آه م الطوفان وآهين يا بر الأمان
ازاي تبان والدنيا غرقانه شر
عجبي!!
رباعيات - صلاح جاهين