محمود محمد طه (4)


سامي الذيب
الحوار المتمدن - العدد: 5468 - 2017 / 3 / 22 - 23:00
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

اشرككم هنا كما فعلت في المقالات السابقة وكما سأفعل في مقالاتي اللاحقة ببعض فقرات (غير نهائية) من كتابي الذي اعده عن المرحوم محمود محمد طه.
.
نقط الخلاف مع محمود محمد طه
----------------------
ينطلق محمود محمد طه من الإعتقاد بأن القرآن كلام الله، ولو كان على طريقته الخاصة التي تكمن في تقسيم القرآن إلى قرآن مدني وقرآن مكي. وهو حر في اعتقاد ما يشاء. ولكن هناك من يرى أن المقدمة مخالفة للعقل. فلا يوجد شيء اسمه كلام الله، ولا ينزل من السماء إلا المطر والنيازك وبراز الطيور. الوحي عندي ليس كلام الله للبشر ولكن كلام البشر عن الله بما فيه من إيجابيات وسلبيات. وهذا ينطبق على كل الكتب التي يطلق عليها كتبًا مقدسة، بما فيها القرآن. ولكي يكون هناك حوار بين من يؤمن بالوحي بالمعنى التقليدي ومن لا يؤمن به يجب إيجاد أرضية مشتركة، وهي أرضية العقل. فخطابه يمكن ان يكون مقبولًا لدى من يشاركه الإعتقاد، ولكن لن يقبله منه من يرى فيه مجرد هلوسة دينية تضاف إلى هلوسات رجال الديانات الأخرى. يجب ان نبحث عن القاسم المشترك الأصغر بين المحاورين.
.
من جهة أخرى الكلام عن القرآن المكي والقرآن المدني يتطلب تحديد كل منهما. وهذا ليس بالأمر السهل. فطبعة القرآن التي بين أيدينا لا تفرق ماديًا بين الإثنين إذ انه تم ترتيب السور ليس وفقًا للتسلسل التاريخي ولكن وفقًا لطول السور مع استثنائات كثيرة. وحتى إن اتبعنا التقسيم الذي يقترحه الأزهر، يجب ملاحظة أن هناك 35 سورة مكية تتضمن آيات مدنية حشرت فيها حشرًا وفقًا للأزهر. والطبعات المتوفرة تشير نادرًا لما يعتبر مكيًا وما يعتبر مدنيًا. وبما أن محمود محمد طه يخاطب ليس فقط النخبة المتعلمة، بل جميع الطبقات، كما يظهر جليًا من حملات توزيع الكتب التي يقوم بها الجمهوريون والجمهوريات في الشوارع. فمن الضروري توفير طبعة عربية بالتسلسل التاريخي بدلًا من الطبعة الحالية. وحسب علمي لم يقترح محمود محمد طه القيام بمثل هذه الطبعة. وكان الهدف من قيامي بطبع القرآن بالتسلسل التاريخي مساعدة فهم فكر محمود محمد طه.
.
وحتى إن اتفقنا على ما هو مكي وما هو مدني في القرآن، لا يمكن لنا القول بأن كل ما هو في القرآن المكي مقبول، وكل ما في القرآن المدني مرفوض بصورة عامة، رغم اننا نتفق على أن أكثر الآيات المخالفة لحقوق الإنسان موجودة في القرآن المدني. ولهذا السبب قام محمود محمد طه بتحديد ما لا يعتبره اصل في الإسلام مثل الرق وتعدد الزوجات والطلاق وعدم المساواة في الميراث والشهادة والجهاد والزكاة والأضحية إلخ. وعلى سبيل المثال، سورة الفاتحة التي يكررها المسلم السني 17 مرة في اليوم تقول: اهدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ. وقد فسر الغالبية العظمى من المفسرين الأية السابعة على أن المغضوب عليهم هم اليهود، والضالين هم النصارى، وذلك اعتمادًا على أحاديت صحيحة تنسب للنبي محمد وعلى ضوء آيات أخرى تنعت اليهود والنصارى بهاتين الصفتين. فالفاتحة تحث على الكراهية وتتنافى مع روح المساواة التي يدعو لها محمود محمد طه والذي كانت تربطه علاقة حميمة مع المسيحيين. ولم نجد إشارة في كتاباته لهذه المشكلة بهدف تثقيف المجتمع.
.
وما دام اننا نتكلم عن علاقة المسلمين بغيرهم، لا نشك في ان محمود محمد طه كان يرفض الظلم الواقع على المسيحيين في جنوب السودان. وأحد أسباب معارضته قوانين سبتمبر الضرر الذي يصيب السودانيين المسيحيين من تطبيق هذه القوانين. وكما ذكرت ابنة اخته الدكتورة بتول، فقد كان الجنوبيون أكثر الناس حزنًا على شنقه، تقديرًا منهم لمواقفه العادلة. إلا ان محمود محمد طه لم يتعرض بتوسع لموضوع العلاقة بين أبناء الوطن الواحد. ففي كتابه "تطوير شريعة الأحوال الشخصية" لم يتكلم عن زواج المسلمة من غير المسلم، ولا عن مانع الإرث عند اختلاف الدين ولا عن الجزية. وإن طالب بحل المحاكم الشرعية واحالة القضايا للمحاكم المدنية، لم يتطرق إلى موضوع محاكم الطوائف الأخرى وقوانينها. وقد يكون سكوته عن هذه الأمور المهمة انشاغله بأمور أخرى وتفاديًا للمشاكل التي قد ينتج عنها. ولا ندري إن كان الإخوان الجمهوريون قد سدوا هذه الثغرة في فكر محمود محمد طه.
.
وفي كتابات محمود محمد طه ما يشير إلى أنه يريد إقامة دولة دينية مبنية على الإسلام، وإن كان هذا الإسلام يختلف في مضمونه عن اسلام الفقهاء. ولكن ما مكانة المواطن في هذا النظام؟ فهل تقبل هذه الدولة بالمبدأ الذي تنص عليه المادة السابعة من الدستور المصري على سبيل المثال؟ وهذه المادة تقول: المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة.
ولنذهب خطوة أبعد: ما هو موقف تلك الدولة من المقابر؟ هل ستبقى المقابر موزعة على أساس الإنتماء الديني مع التمييز بين الناس على أساس الدين؟ وما هو مصير المواطن المسلم المتوفي الذي يترك الإسلام؟ أم انه يقبل بمبدأ المساواة بين المواطنين أحياء وأموات؟
.
أليس من الأفضل إقامة دولة المواطنة التي تفصل الدين عن الدولة وتعترف بالحرية الدينية للجميع عملًا بالمادة 18 من وثيقة حقوق الإنسان وتترك جانبا التمييز بين المواطنين على أساس الدين؟ هذه نقاط تحتاج للمناقشة من قِبَل الجمهوريين لكي يتم تطوير الإسلام بما يتفق مع حقوق الإنسان كما هو معترف به اليوم.
.
وفي الختام، يجب ان نقر لمحمود محمد طه بتقديم نظرية جديدة خلاقة لحل التناقض الموجود في النص القرآني وفي تصرفات المسلمين اليومية، ولكن هذه النظرية لم تكتمل بعد أو لا تتضمن حلولًا للمشاكل التي تعترض التعايش بين أطياف الشعب الواحد على قدم المساواة دون تمييز على أساس الدين. وشنق مؤسس هذه النظرية لا يعني بالضرورة فشل أفكاره. وقد تكون نظريته صالحة لمجموعة رهبان يعيشون في دير تحت رئاسة أب روحي يقودهم ويساعدهم على تنمية مواهبهم الروحية والإنسانية – وهو ما يوحي به الإخوان والأخوات الجمهوريون.
.
وقد دار بيني وبين صديقة سودانية الحوار التالي:
س: هل ما زالت هناك جمهوريات في الخرطوم يوزعن كتبه؟
ج: نعم بالذات في الفترة الأخيرة. عندهم طريقة بسيطة للزواج، بالتراضي، بأقل تكلفة والعصمة في يد الزوج والزوجة. لدينا صديقة تزوجت بهذه الطريقة فأصبحت موضة.
س: هل للجمهوريات ملابس خاصة تعرف بها؟
ج: نعم. نسائهم يرتدين الأبيض "ثوب أبيض" لا أعرف لماذا. أبيض في أبيض. دائماً!
س: وهل هناك كثيرون؟ وهل الشعب يحترمهم؟
ج: مؤخراً جاهروا بإنتمائهم.. والحقيقة نعم.. محترمون جداً.. مؤخراً صديق أثق به أشاد بأخلاقهم العالية متعجباً!
.
هذا الحوار يثبت أن فكر محمود محمد طه يدعو إلى مكارم الأخلاق، ولكن ما يصلح لإدارة دير يجمع بين نساك متجانسين لا يصلح بالضرورة لإدارة مجتمع متعدد الأديان. وهذا لا يمكن تحقيقه في رأيي إلا من خلال دولة المواطنة التامة.
.
النبي د. سامي الذيب
مدير مركز القانون العربي والإسلامي http://www.sami-aldeeb.com
طبعتي العربية وترجمتي الفرنسية والإنكليزية للقرآن بالتسلسل التاريخي: https://goo.gl/72ya61
كتبي الاخرى بعدة لغات في http://goo.gl/cE1LSC
يمكنكم التبرع لدعم ابحاثي https://www.paypal.me/aldeeb