محصلة تغييب الجسد في عالمنا العربي


محمد بوجنال
الحوار المتمدن - العدد: 5464 - 2017 / 3 / 18 - 10:09
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     



من البديهيات السائدة أن الوجود الأول للفرد هو وجوده كجسد انتقل وفق قاعدة بيولوجية من رحم الأم إلى جسد أكثر شساعة، من الرحم ذاك إلى العالم. ومن البديهيات كذلك هو المجهول الذي أخاف ويخيف الجسد لأنه يحمل في ثناياه موت الجسد ذاك. لكن الجسد ذاك، تجاوزا للموت المحتوم، يعمل على خلق وبناء جسد آخر يضاف إلى النوع الإنساني دفاعا عن بقائه واستمراره؛ فنكون أمام الجسد في أصالته وكونه جسما آخر في الآن (نسميه الكيان) تحمله وتعبر عنه اللغة. وقد استدعى جون بول سارتر هذا "الآخر" في صيغة:"جهنم هم الآخرون" مع تحديدنا محتوى الضمير-هم- بما لا يتماشى والفلسفة الوجودية، أي كونه الإفراز التسلطي لأنظمة إنتاجية تسلطية راهنها النظام الرأسمالي في حقبته الراهنة المسماة بالعولمة ومن داخلها اللاهوت. إنه النظام الذي امتلك بالقوة العسكرية والأيديولوجية واللاهوتية الجسد ليحوله ويوجه مكوناته من وظائفها الطبيعية والاجتماعية السليمة إلى اتجاه نقيض، دلالته الاستجابة لحاجيات النظام ذاك. هكذا تحولت وظائف الرجلين واليدين والدماغ واللسان والعاطفة والشعور والتفكير وغيره إلى وظائف مسلعنة.
وإذا رجعنا إلى عالمنا العربي، فالجسد يوجد في وضع أسوأ بفعل خضوعه لقواعد التسلط العولمي من جهة، ومثيلاتها التسلطية اللاهوتية من جهة أخرى. فالإنسان العربي، بفعل صرامة التسلط ذاك الذي تجذر بفعل القوتين العسكرية والأيديولوجية، يرفض اعتبار قيمة الجسد الذي هو، في ف بأنه نظره،أساسا ومرجعية كل الزلات والانحرافات وبالتالي التعرض لمختلف درجات العقاب التي تتوج بعقاب نار الجحيم بعد الممات.فالعربي السابق والراهن لا يريد معرفة جسده على الرغم من أنه حامله ومصاحبه حيثما دب ورحل؛ كما أنه لا يريد الاعتراف بأنه رغبات في ذاته ولذاته ولغيره من الذوات؛ بل يتنكر له ويتجنب الحديث عنه معتمدا ومتبنيا لغة اليومي المزركشة كما أرادتها القوى المهيمنة واللاهوتية.ومن هنا أهمية اللغة ومسئوليتها في قمع وإخفاء الجسد؛ وبلغة أخرى، فالجسد ذاك موضوع يمنع على الإنسان العربي معرفة دلالته وحقيقته على الرغم من كونه حامله ليل نهار، ليبقى سلعة لا تختلف عن باقي السلع الخاضعة لقانون العرض والطلب. فطالما ذلك هو السائد في عالمنا العربي، يبقى الإنسان ذاك غريبا عن جسده، بل عدوا له؛ لنجد أنفسنا، في عالمنا العربي، أمام وضع لا يتعدى فيه وجود حياته العقلية والاجتماعية والنفسية والانفعالية مستوى درجة الوجود الشبه الصفر، لتبقى شعوبا شبه مؤجلة.
حقيقة الوضع السابق الذكر تجعلنا لا نندهش أمام هزائمنا المتتالية إذ كيف لشعوب أن تنتصر وتبني وتبدع وهي تفتقر إلى الجسد أو قل ترفض وتجرم جسدها. فمثله في ذلك مثل المسرح الذي تم إلغاء خشبته قبل أن توجد النصوص والأدوار والممثلين؛ إنه الوضع الذي بقي فيه الإنسان العربي (=الممثل) معلقا في الفضاء حيث يؤدي أدواره في الفراغ وهو في كل ذلك بقي سجين العقل المهيمن ومن داخله اللاهوت. فلا وجود لفكر خارج الجسد؛ فالوحدة بينهما طبيعية إذ كلما غيبنا أحدهما كلما سقط عن الوحدة تلك صفة الإنسانية،فيسقط العربي ذاك إما صوب مستوى الحيوانية، أو يبقى معلقا في الفراغ؛ وللقارئ المحترم حرية الاختيار لأن كلاهما سيان. لذلك عانى ويعاني العربي ذاك الأزمات والانهزامات المتتالية والتشبع بالوجود الوهمي والانتصارات اللاهوتية. إنها الأطروحة التي استثمرتها وتستثمرها إسرائيل بقولها أن الأرض التي احتلتها – والباقي مؤجل كما تدعي – هي أرض خالية من الجسد العربي وهو ما يوجب شرعيا ودينيا لإسرائيل امتلاكها.
هكذا، فالإنسان العربي بتخلصه من الجسد الذي اعتبره رجس من عمل الشيطان، يكون قد تخلص في الآن نفسه من توأمه الفكر؛ بهكذا اعتقاد يتخيل إليه أنه استجاب ويستجيب لأوامر سرديات اللاهوت التي هي ،في نظره، ضمان النجاح في الحياة والآخرة.إنه الوضع الذي، بالتأسيس له وتفعيله، تمكنت القوى التسلطية ممثلة في السوق واللاهوت، من اكتساب الجسد العربي وفي الآن نفسه فكره، لتبقى الأرض خلاء تتصارع عليها القوى العالمية التي من بينها إسرائيل.