سميرة... العلوية!


ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن - العدد: 5461 - 2017 / 3 / 15 - 18:03
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

غير الاختلاف المتمثّل في سفور سميرة الخليل ورزان زيتونة، وقد جعلهما مرئيتين ومعرضتين للخطر في دوما (مقالتي: سميرة ورزان والحجاب، "القدس العربي"، 8 آذار 2017)، كان ثمة اختلاف يُفرد سميرة عن رفيقتها رزان، وعن رفيقيهما وائل وناظم: المنبت العلوي للمعتقلة السياسية السابقة. لم يكن هذا الاختلاف شيئاً ظاهراً، مثل سفور المرأتين. فليس للعلويين مظهر خاص يُفردهم عن غيرهم من السوريين، ولذلك اقتضى الأمر تطوع مخبر رخيص كي يحرض على سميرة علانية، دون أن يكون لديه ضدها غير ما لم يخطر ببالها يوماً أنه سرٌّ يُخفى أو يُفشى: أنها علوية! فإذا كان حكم البابا، وهذا اسم المخبر الطائفي، قد حرص على التحريض العلني، وكان يمكنه الاكتفاء بتقرير سرّي يناسب مواهبه في الوشاية، فلأن لديه موهبة إضافية: الكراهية الطائفية الشديدة لغير الطائفيين ممن لهم تاريخ في معارضة النظام، مثل سميرة وأحبابها وأصدقائها. كان حريصاً على أن يصل لفْح كراهيته إلى وجوههم.
المذكور، وهو صحفي وشاعر وسيناريست، كان قبل أسبوعين من جريمة الخطف نشر على صفحته على فيسبوك عن "العلوية" التي "تسرح وتمرح في الغوطة تحت اسم ناشطة"، وتجاسر على قول شيء عن "حرب الجواسيس" في تحريضه. أترك جانباً حقيقة أنه وقت كانت سميرة معتقلة لأربع سنوات عند نظام حافظ الأسد كان هذا المخبر الهمام يعمل في صحف النظام، وظل كذلك حتى سنوات قليلة قبل الثورة. وأنه وقت كان يحرض على سميرة من مقامه الآمن في الإمارات كانت سميرة تشارك المحاصرين في الغوطة حياتهم، وتكتب أن سنوات سجنها (في سجن النساء في دوما نفسها) كانت "مزحة" بالمقارنة مع الحصار الذي شاركت الأهالي المعاناة منه. أترك جانباً أيضاً أن سميرة لم تنتحل قناع ناشطة في أي وقت، فعدا أنها معتقلة سياسية سابقة، وعدا أنه لم يكن لديها يوماً جواز سفر خلافاً للمخبر الطائفي الموتور، لم تأت إلى الغوطة إلا لأنها صارت مطلوبة من جديد للنظام، وكي تنضم إلى زوجها، كاتب هذه السطور، الذي مثلها لم يكن لديه جواز سفر يوماً (ولا يزال). ما لا يُترك جانباً هو بناء حكم سياسي وأمني على سميرة بناء على منبتها العلوي، رغم معرفة المخبر الشخصية بها وبزوجها وبتاريخهما. وهو ما يُسبغ طابعا كيدياً بالغ الدناءة على واقعة الوشاية بالمرأة المخطوفة والمغيّبة، مع رفقائها رزان زيتونة ووائل حمادة وناظم حمادي، منذ أكثر من ثلاث سنوات وثلاثة أشهر. هذا فوق أن في الوشاية بسميرة كعلوية أمام من يعرف المخبر المذكور أنهم طائفيون مثله مسلك عنصري لا يختلف في شيء عن اتهام مسلم بأنه إرهابي في أميركا اليوم مثلاً بناء على واقعة كونه مسلماً فحسب، أو اتهام سوري بأنه ثائر يعمل ضد النظام اليوم. لكن وشاية المخبر البابا أسوأ من ذلك بعد، فهي تحريض لتشكيل سلفي على امرأة يعرف المُخبر أنها عزلاء، وأنها مقيمة اضطرارياً ومؤقتاً في الغوطة، وأن كتاباتها على الفيسبوك، وهو لم يعرف بوجودها في الغوطة إلا من هذه الكتابات، كانت منحازة إلى السكان المحليين وشاركتهم الحصار والجوع والانكشاف الأمني. كتابات سميرة في الغوطة، وقد نشرت قبل شهور قليلة في كتاب ("يوميات الحصار في دوما 2013")، لا تظهر جذرية موقفها من النظام الأسدي فقط، ولا أنها لم ترتبْ في أي خطر قد يتهددها من طرف غيرالنظام فقط، ولا حِسّها الإنساني النادر الخالي من الكراهية لكن المفعم بالغضب العادل فقط، وإنما كذلك شراكتها لمن عاشت بينهم في المعاناة وفي الصراع. بالمقابل، لم يتعرض المخبر المحرض الطائفي الموتور يوماً لاعتقال أو تعذيب أو حرمان من السفر، أو حصار أو جوع أو برد أو انقطاع أثر. وكان في وسعه قبل الثورة تأمين واسطة تشبهه من الموالين للنظام، دريد لحام مثلاً، عند ضباط مخابرات يشبهونه بدورهم مثل علي مملوك، هذا حين يتملكه الحنين للشام، ولا يستطيع إشباعه دون نيل رضا قتلة المخابرات عنه.
ومن غير المحتمل أن المخبر الجبان هدأ واكتفى بما هداه إليه ضميره، بعد التحريض العلني المشار إليه. هل يُحتمل، على سبيل المثال، أنه اتصل قبل يوم أو يومين من واقعة الخطف بأحدٍ ما في الغوطة الشرقية، لائماً إياه على ترك سميرة، ورزان ووائل وناظم، طلقاء؟ أو ربما ليشد أزره على خطف الأربعة؟ لا سبيل لأن نتوثق من ذلك 100%. يلزم تحقيق مستقل، لا يقوم به أمثال دريد لحام وعلي مملوك.
يصعب أن يجد المرء واقعة معلومة على هذه الدرجة من الخِسّة قام بها كاتب ضد ثائرين في تاريخ سورية منذ تكون كيانها المعاصر (ولعل مثيلاتها نادرة في تاريخ العالم). لا تضاهيها في النذالة إلا جريمة الخطف نفسها التي قام بها من حرضهم المخبر الطائفي الرخيص. لا أشك في أن من شأن انكشاف سجلات المخابرات الأسدية أن يظهر قصصاً خسيسة من صنف قصة مخبرنا الرخيص، ولا يبعد أن يكون هو بالذات بطلاً لبعضها. إلى ذلك الحين المأمول، يبقى الصحفي المخبر المحرض الطائفي لفصيل سلفي مسلح على امرأة عزلاء في الغوطة الشرقية أمثولة للنذالة، جديرة بأن تذكر طويلاً في التاريخ، وهذا بقدر ما إن الفصيل السلفي المسلح الذي اختطف سميرة ورفيقتها ورفيقيهما أمثولة للنذالة في القضية نفسها، وبقدر ما إن الدولة الأسدية التي كانت سميرة ورزان شاهدتان على اقترافها المذبحة الكيماوية في الغوطة هي الأمثولة الجامعة للنذالات كلها.
ومثلما ينتمي المحرض الطائفي إلى فئة يشاركه الانتماء إليها مخبرو النظام ووشاته وجلادوه الرمزيون، ينتمي التشكيل الخاطف بسجونه العلنية والسرية وعبادته للسلطة إلى فئة الدولة الأسدية. هذا ظهر بوضوح كاف في الأيام الأخيرة، حين جرى التحريض على ثائرين قدماء عزل في الغوطة الشرقية، من قبل من سبق أن حرضهم المخبر الطائفي المشار إليه.
في انخراطها في الثورة مارست سميرة الخليل فعل حرية مضاعفاً. شاركت مع مواطنيها في أنشطة الاحتجاج السلمي منذ اعتصام وزارة الداخلية يوم 16 آذار 2011، وثابرت متحدية أي قي طائفي على المساعدة في ما تستطيع، وهذا حتى وقت اختطافها بهمة المخبر البابا بعد عامين وتسعة شهور. وخلال ذلك لم يكن غاب عن بالها ما حضر في بال المخبر الطائفي الرخيص من أنها علوية، لكن لم يخطر في بالها أن هذا يمكن أن يكون اتهاماً. وما لا يعرفه المخبر أن نساء دوما اللاتي عملت "العلوية" معهن أحببنها أكثر لأنها، وهي الغريبة، شاركتهن حياتهن الشاقة وآلامهن، وحكاياتهن التي روت بعضاً منها في كتابها. لكن المخبر الطائفي عرَف أن يحرض في "البوست"/ التقرير نفسه على سمر يزبك، الكاتبة التي قدمِت إلى سراقب ومناطق من شمال سورية، وحاولت بدورها مساعدة مواطنيها فيما تستطيع، ونشرت كتاباً فيما بعد عن ذلك: "بوابات العدم". سمر نجت، سميرة لم تنجُ.
في شخصها وفي عملها طوال اكثر من ثلاثين عاماً، سميرة تجسد مقاومة اختزال صراعنا إلى صراع سني علوي، أو سلفي "نصيري"، وهو رفض لا يقتضي بحال التعامي عن وقائع الطائفية وهياكلها وممارساتها وخطاباتها. لكنه كان يقتضي من أي وطني ذي ضمير اهتماماً ودعماً أكبر، لا تحريضاً إجرامياً أثمر فعلاً ما اشتهاه المخبر المحرض من جريمة بحجم خياله المسموم بالحقد والضغينة. نساء دوما فعلن ذلك، رحبن بالعلوية الغريبة ودعمنها، ووجدنها واحدة منهن. أما المخبر فلا يفعل غير ما يفعله مخبرو الأسدية من التحريض على الكراهية وتحطيم حياة مكروهيهم، والتسبب بدمار بلد بأكمله. وهو في تحريضه الدنيء قدم خدمة كبيرة للنظام الذي كانت المرأتان شاهدتان محترمتان موثوقتان على جرائمه في الغوطة، وأسهم في توجيه أكبر طعنة للثورة حتى ذلك الحين.
القصة لم تنته، ولن تنتهي. لدينا جريمة كبيرة جداً، ولدينا قضية سياسية وأخلاقية وثقافية، وحقوقية طبعاً، لا يحمي المخبر الطائفي من تحمل جريرة شراكته فيها غير ما يحمي الدولة الأسدية ومجرميها: تطبيع الجريمة والمجرمين.
بعد تجاهل طويل، أضع هذه الواقعة النادرة المثال في متناول عموم المهتمين لأني أشعر بأنها توضح أمثولة للنبالة تتجسد في سميرة، وللنذالة تتجسد في المخبر المحرض الطائفي ومن حرضهم من الخاطفين الطائفيين (وفرز الأمثولات الواضحة جانب مهم من صراعنا اليوم)، ولمساهمتها كذلك في رسم خطوط تمايز واضحة ضمن الطيف المختلط للثورة، بما يظهر ما في داخله ممن يخدمون أعداءنا بصَغارهم أو بغبائهم بما هو أسوأ مما لا نعلم.
ثم أن الواقعة مهمة في تصوري من زاوية بيان مسؤولية الكاتب الاجتماعية والسياسية والأخلاقية، وهي مسؤولية تتعارض مع التحريض الطائفي وإشاعة الكراهية بقدر لا يقل عن تعارضها مع "كتابة التقارير". وماذا يكون التحريض العلني، والسرّي، على سميرة غير "تقرير" مكتوب إلى جهة أمنية، طائفية ورعناء، مثلها مثل المخابرات الأسدية؟
أتناول الواقعة اليوم أيضاً من باب إبراز المسؤولية القانونية للمخبر المحرض من وجهة نظر أي عملية قضائية بخصوص قضية الأربعة يوماً. سميرة ورزان ووائل وناظم مغيبون قسرياً منذ ما يقترب من أربعين شهراً، وهو ما يتحمل مسؤوليته الجناة والمحرضون على حد سواء. سميرة امرأتي، وأنا "صهر العلويين"، على ما وصفني بعد عامين من خطف امرأتي بتحريض منه المخبر المحرض الطائفي إياه، الذي يشكل نسخة طبق الأصل من مخبري الدولة الأسدية، وتتكثف فيه خصائصهم كلها، من وقاحة ورقاعة وإسفاف وكراهية، وحب للأذى. ووحده تحقيق قضائي مستقل، أتطلع إلى أن يصير ممكناً في أقرب وقت، هو ما يمكن أن يستند إليه لكشف مصير المخطوفة وشركائها، ومعرفة المحرّضين وتفاصيل علاقتهم بالجناة.
يبقى أني أتحمل شخصياّ كامل المسؤولية القانونية والسياسة والأخلاقية عن اتهامي للمخبر المذكور بالضلوع في جريمة خطف زوجتي سميرة الخليل، وأصدقائي رزان زيتونة ووائل حمادة وناظم حمادي. وهذا مثلما أتحمل كامل المسؤولية عن اتهام قيادات "جيش الإسلام" بارتكاب الجريمة.