مواقف فكرية وقصة ساخرة (3)


نبيل عودة
الحوار المتمدن - العدد: 5460 - 2017 / 3 / 14 - 16:32
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     



1 - أرسطو والروطوريكا – البلاغة الخطابية:

اعتمد الفيلسوف الإغريقي أرسطو على ثلاثة مركبات خطابية مثيرة للفضول :
أ - عبر خطاب يعتمد على المشاعر.
ب - عبر استعارة قصة أو مجموعة أسئلة مثيرة للفضول.
جـ - طرح تجربة حسية، مثلا معاناة مؤثرة، تخلق جوا مؤثرا بخطاب موجه لمشاعر الجمهور الذي يوجه له الحديث أو الخطاب..
الخطاب (جـ) نجده اليوم في الخطابين السياسي والديني، لكننا لا نجده بنفس القوة والتأثير في الخطاب العلمي أو الثقافي.. الا في الشعر، والشعر حالة خطابية تطورت كوسيلة تأثير مميزة في الثقافة العربية ، نلحظ ذلك بقوة في ما يعرف بالشعر المنبري أو المهرجاني، وهو شعر له طابع سياسي بالتحديد على أي حال.
من ناحية أخرى عرفت الفلسفة الإغريقية البلاغة الخطابية خاصة في فلسفة أرسطو. أطلق الإغريق على البلاغة الخطابية تعبير "روطوريكا " ويمكن تسميتها أيضا ب "علم الخطابة" وتعني القدرة على الإقناع بواسطة اللغة.
من أهم متطلبات "الروطوريكا" حرية التعبير والتنظيم في مجتمع مفتوح، وهي تعتمد وسيلتان:
أ- الإقناع باعتماد المنطق والعلم ونماذج تثبت الفكرة التي يطرحها المتحدث. هذه حالة قريبة جدا من أسلوب مرافعة المحامي في المحكمة. أو من أسلوب الباحث العلمي الذي يورد إثباتات ملموسة ومؤثرة عبر نماذج علمية لا يمكن دحضها.. إلا من عقول فاتها التطور وبقيت في مرحلة ما قبل التاريخ من حيث قدرتها على التمييز بين الحقيقة والوهم!!
ب - الإغراء - هنا تجري مخاطبة المشاعر بلغة منمقة فخمة بمفرداتها وتركيب جملها، وعبر استعمال الخطيب مؤثراته الصوتية ، وبذلك يفرض سيادة شعور جماعي وقناعة جماعية للمجموعة، وهي حالة يعرفها علم النفس الاجتماعي ب "روح القطيع" – أي تسود المجموعة مشاعر وتصرفات وقناعات مبنية على روح التأثر الجماعي وهو بالضبط تصرف يفتقد للوعي الذاتي وتسوده حالة فقدان للوعي الشخصي.. والاندماج بلا وعي مع رد الفعل الجماعي.
في عصرنا الحديث تطورت "الروطوريكا" نحو الاعتماد على المضمون أو اللامضمون. "الروطوريكا" التي تعتمد على اللامضمون ، أي غيبيات وقصص خرافية، هي التي تسود النسبة الأعظم في المجتمعات البشرية بدرجات متفاوتة من القوة.. وبعضها يسيطر بالعنف والإرهاب أيضا..أو بشرطة دينية كما هو الحال في السعودية ودول جعلت القانون كرباجا على التفكير والإبداع.. تحافظ على المنقول والموروث الخرافي وتعتبره حقيقة مطلقة.. بينما المجتمعات الأكثر رقيا حضاريا هي مجتمعات منفتحة لحرية الرأي والتعددية الثقافية والفكرية.. وبالتالي هي منتجة الحضارة الإنسانية في عصرنا.

2 – المخ البشري عاجز عن التمييز بين الواقع والخيال

قرأت بحثا علميا جديدا عن المخ البشري. المفاجأة كانت أن البحث أكد مسألة كثيرا ما أثارت حيرتي، كيف بإمكان إنسان أكاديمي بشهادات علمية عالية، أن يؤمن ويتمسك بغيبيات وأوهام لا أساس لها في الواقع العلمي أو العقلاني ؟
نتائج البحث أثبتت ان المخ البشري، رغم كل التطور الهائل الذي اجتازه ، إلا انه لا يميز بين الواقع والخيال. أي ان الكثير من القصص الخيالية، الأساطير والغيبيات، تستوعبها عقول أوساط واسعة جدا من البشر، بدءا من بسطاء الناس وصولا إلى أوساط متقدمة في التعليم والعلم كوقائع وأحداث حقيقية رغم عدم وجود أي دليل ملموس عليها، أي أن المخ لوحده غير قادر على التمييز.. هناك ما يعرف الوعي الذاتي، وهو وعي يتطور بناء على تطوير قدرة المخ على الفصل بين الحقائق الواقعية والأوهام. للأـسف هذه الظاهرة القدرة على الفرز بين الواقع والخيال هي من نصيب نسبة لا تتجاوز 25% من البشر، طبعا هناك مؤثرات ليس من السهل مواجهتها ، مثل المؤسسات الدينية والسلطوية المندمجتان بتوافق مصالح كامل خاصة في المجتمع الشرقي.. كذلك لا يمكن تجاهل المؤسسة الدينية بعظمتها الهائلة في الغرب.. ثراء فاحش، إعلام لا يتوقف لثانية واحدة وتثقيف الأجيال الناشئة على قناعات لا فكاك سهل منها.

3- الفكر صفة للإنسان فقط

انفصال الإنسان عن عالم الحيوان بدأ بالتفكير.. ولا اعني بالتفكير انشغال الإنسان بمسائل روتينية تتعلق بمأكله ومشربه، إنما اعني بالتفكير بداية المحاولات لفهم العالم المحيط بالإنسان وليس اجترار قصص أسطورية وإغلاق الرأس بمفتاح سمكه نصف قطر الكرة الأرضية على الأقل. الحركة الفلسفية التي دعت نفسها باسم “الفلسفة التحليلية”، تناولت في بداية نشاطها المسائل التي تتعلق باللغة واشترطت بشكل لا تراجع عنه إمكانية التعبير بشكل لا يفسر على وجهين في مواقف حول قضايا معينة.
من أشهر فلاسفة اللغة الفيلسوف البريطاني برتراند راسل (1872 – 1970) الذي يعتبر من أهم مفكري القرن العشرين، شهدت الفلسفة الإغريقية أيضا اهتماما بفلسفة اللغة، نجد ذلك في الحوارات التي كتبها أفلاطون، حيث تحدث عن المشترك بين حصانين مختلفان، يمكن أن نتعلم من التشابه في شكلهما وأصواتهما وأننا نستعمل نفس الكلمة في تسميتهما (خيل)، لكنهما بنفس الوقت مختلفان واحد عن الآخر بصفاتهما. أرسطو أيضا اهتم بفلسفة اللغة وطرح نظرية تصف كيف ترتبط المعاني مع الفكرة. وكانت هناك أبحاث عديدة عن العلاقة بين اللغة والمعنى وبين اللغة والواقع.

4 – الثورة العلمية التكنولوجية والماركسية

ظل ماركس ومعظم ورثاء نظريته يصرون على معارضة العلم والتكنولوجيا بالإنسان.. بمعنى ان التطور التكنولوجي في الصناعة الرأسمالية سيضاعف البطالة والإملاق للعمال.
كان التطور العلمي والتكنولوجي، في عصر ماركس بطيئا بحيث من الصعب أحيانا ملاحظته إلا كل عقدين من السنين، من هنا أصر ماركس على أن هذا التطور "أهميته كاذبة" لأن رؤيته أن العمل ذاته أهم من الآلة. وان الآلة ستقود إلى مزيد من الإملاق والبطالة للعمال، لأنها ستحل مكان العامل. هذه الأفكار القديمة للأسف تبنى عليها سياسات حركة كان لها دورها العظيم.. من هنا رؤيتي اننا نعيش مرحلة اجتماعية، اقتصادية وفكرية جديدة لا يمكن وصفها بالنظام الرأسمالي التقليدي ، بل نظام "ما بعد الرأسمالية". ربما يجد احد الاقتصاديين تسمية مناسبة. وعلى الماركسيين أن يعيدوا النظر بقدس أقداسهم.. بالتحرر مما لم يعد مناسبا لمرحلتنا التاريخية بكل ما تحمله من نهضة علمية، تكنولوجية، اقتصادية ، الآلة لم تزد البطالة، بل ضاعفت الإنتاجية والثروة الوطنية، وباتت المتطلبات المهنية التكنولوجية ضرورة حيوية للصناعة، فتطورت المدارس والكليات التكنولوجية ، بدونها لا تطور صناعي ولا إنتاجية قادرة على تلبية متطلبات السوق والمواصفات المطلوبة، أي أن العمل تعمق طابعه الاجتماعي أيضا. قد يكون ماركس انتبه لهذا الأمر، إذ نجد اتجاه آخر لماركس نفسه لم يولوه أهمية كبيرة حيث يقول: "إن العصور الاقتصادية تختلف عن بعضها البعض ليس بما تنتج بل كيف تنتج وبآية أدوات عمل". كلام سليم يتناقض مع أقواله السابقة . إذن الأداة لم تغير أسلوب الإنتاج فقط، ولم تقد إلى تعميق الاستغلال الطبقي واتساع البطالة، بل غيرت الإنسان الذي يستعملها وغيرت مضمون النظام الذي أنتجها. وهذا ما يجب ان يؤخذ في تطوير النظريات الاقتصادية والاجتماعية وصياغة الفكر السياسي المعاصر.
إن التطور العلمي والتكنولوجي احدث انقلابا بتركيبة وتفكير ووعي ومعلومات ومعارف كل الطبقات الاجتماعية بما فيها الطبقة العاملة. لم تعد الطبقة العاملة هي الطبقة التي صاغ ماركس نظرياته الاقتصادية والفلسفية بناء على فهمه لواقعها. بمعنى أكثر اتساعا، المجتمع البشري لم يعد نفسه المجتمع البشري الذي حلله ماركس واستنتج من واقعه الكثير من أحكامه النظرية، خاصة موضوعة الصراع الطبقي التناحري الذي لم يحدث منذ عصر ماركش وحتى يومنا، وان البروليتاريا لم تعد بروليتاريا مسحوقة، بل فئات اجتماعية لها مكانتها الحاسمة في عملية الإنتاج، وان هناك طلب يتسع للمهنيين ذوي الخبرة والمعرفة التكنولوجية والإدارية، والعامل غير الملم بتشغيل الماكينات والتجهيزات الآلية هو عامل هامشي في الحساب الاجتماعي والاقتصادي وسوق العمل.
التأهيل ومستوى المعرفة للعامل اختلفت. الصناعة لم تعد تعتمد القوة الجسدية فقط، المهنية أصبحت مميزا هاما للعامل. المعرفة التكنولوجية أصبحت ضرورة لا قيمة للعامل بدونها. الآلة التي كان الظن أنها ستحل مكان العامل في العمل طورت العمل والإنتاج وانعكست على تطوير المبنى المهني والعلمي للعمال، فرضت مستوى مرتفع للمعارف وطابع العمل وشروطه وغيرت العلاقة بين العامل وصاحب العمل. الموضوع لم يعد مجرد بيع قوة عمل، هذا التعريف البدائي سقط. العامل لم يعد مجرد قوة عضلية، بل عامل مهني يملك ثقافة تكنولوجية وعلمية لا إنتاج ولا إنتاجية بدون دوره الإنتاجي وحصوله على شروط عمل وامتيازات كانت حلما في السابق. أصبح صاحب العمل بحاجة ماسة للعمال المهنيين والتكنوقراطيين. أي بات نوعا من التعادلية بين العامل وصاحب العمل. لم يعد العامل عبدا مضطرا لبيع قوة عمله، بل يختار من يدفع الأجرة المناسبة مقابل قدراته المهنية والتكنولوجية أو الإدارية، وحيث ترتفع الأجور يذهب العامل، أصبحت المنافسة على العامل المهني تفرض واقعا مختلفا في علاقات العمل.. أي نشا صراع بين أصحاب المشاريع الصناعية لتجنيد العمال في مشاريعهم، وهنا جرى اختراق الأجور وشروط العمل الى اتفاقات عمل عامة واتفاقات عمل خاصة. اختفى كل مفهوم الصراع الطبقي التناحري.. هناك نضال من اجل تحسين الأجور وشروط العمل والتأمينات المختلفة.
إن تطوير الآلة فرض ضرورة تطوير جيل جديد من العمال التكنوقراطيين، بحيث أصبح صاحب العمل مضطرا إلى شراء مهنيتهم بإغراءات المعاش وشروط العمل.
كان العامل سابقا، الصناعي أو الزراعي، يعمل كل حياته دون أن يتبدل شيئا من أدوات الإنتاج أو من العلوم والتكنولوجيا التي تتعلق بنوع عمله أو إنتاجه، إذا تبدل شيء ما فهو غير ملموس ولا ينعكس على العامل نفسه إلا بشكل سطحي وفردي. أي أن أدوات عمله لم تتغير، ظروفه المعيشية ظلت خاضعة لزمن طويل جدا لنفس الشروط الاقتصادية التي لم تتأثر بأي تطور يغير من مردود إنتاجية العمل.
منذ أواسط القرن العشرين نلاحظ ان التطور العلمي التكنولوجي بدأ بقفزات هائلة، أدوات الإنتاج تتبدل وتطورت سنويا أو ما دون ذلك أحيانا.. من الألة البسيطة الى الآلة الميكانيكية، ومنها الى الآلة الالكترونية، ودخل عالم الهايتك في الإنتاج، العمل العضلي يخلي مكانه للعمل الفكري حتى في الصناعات الثقيلة. أدوات تنفيذ المهمات المهنية تتطور باستمرار. إنتاجية العمل تضاعفت بشكل لا يمكن مقارنتها مع المراحل السابقة.الثروة تضخمت بشكل أسطوري.. العامل المهني اليوم يجدد أدوات إنتاجه بسرعة تزيد عشرات المرات عن القرن التاسع عشر ، ما طور في القرن التاسع عشر كله تطور في القرن العشرين كل سنة تقريبا.. وفي القرن الحالي (الواحد والعشرين) بسرعة أكبر..
ان الثورة العلمية التكنولوجية أصبحت تشكل انقلابا اجتماعيا واقتصاديا في حياة المجتمع البشري.هذا الانقلاب لم يأخذ مكانته بشكل كامل في الأدبيات الاقتصادية – الاجتماعية لليسار عامة واليسار الماركسي (الشيوعي) خاصة وبالتحديد.
السؤال الذي يفرض نفسه هنا بالغ الأهمية: هل يمكن التعامل مع النظام الرأسمالي بنفس العقلية التي سادت المجتمعات البشرية قبل الثورة العلمية التكنولوجية؟
هل تشكل الماركسية في عالم اليوم المتطور، أداة إيديولوجية يمكن ان نبرمج على أساسها نهجا سياسيا حزبيا بنفس المسار الذي ساد القرنين السابقين القرن التاسع عشر والقرن العشرين؟

قصة ساخرة: الصراع الطبقي بين زينب ومشغلتها

كانت زينب تشتغل مساعدة في منزل، تقوم بكل أشغال المنزل، لأن الزوجة غائبة معظم ساعات النهار بحجة تواجدها مع صديقاتها، والزوج غائب في عمله بإدارة شركة مقاولات، لكنه بين فينة وأخرى يتردد على المنزل لبعض الوقت.. ومع الأيام صار تردده شبه يومي أحيانا، إلا إذا كان على سفر. زينب لا تجهل حقيقة تمتعها بجسد متناسق ووجه يطيب للإنسان النظر اليه، فهو وجه جذاب بتقاسيمه وصفاء بشرته...
في يوم من الأيام وقبل أن تخرج الزوجة للقاء صديقاتها، قالت لها زينب انها تريد إضافة على معاشها أو ستترك العمل لتعمل في مكان آخر. قالت الزوجة:
- لكننا ندفع لك معاشا جيدا.
- لم يعد يكفي... مقابل ما أقوم به من خدمات منزلية..
- ما هي طلباتك...؟
- إضافة 20% على معاشي.
- لماذا يجب أن أضيف لك هذه الزيادة؟
- أولا أنا اعد الطعام وزوجك يقول لي أني طباخة ماهرة وطبيخي أفضل من "الخبيصة" التي تعديها له عندما أكون غائبة.
- ليسامحه الله.. لا يعجبه العجب.
- لكنه معجبا بما أعده من طعام.
- هذا ليس سببا كافيا لزيادة معاشك.
- أقوم أيضا بتنظيف البيت ومسح الغبار وكي الملابس وزوجك يقول لي أني منذ بدأت العمل في بيتكم صار البيت أكثر نظافة وترتيبا ولم يعد بحاجة لإرسال ملابسه للكوى.. بل يقول لي أني أفضل منك في كي ملابسه وتنظيف البيت وترتيبه.
- هذه تفاهات لا تعني شيئا .. وهي ضمن أشغالك المتفق عليها.
- الم تقتنعي بعد بأني استحق إضافة معاش؟
- لا .. حججك لا قيمة لها يا زينب.. وما تقومين به تقوم به كل شغالة أخرى وربما أفضل منك!!
- حسنا .. يقول لي ما هو أهم وأخطر.. باني أفضل منك في السرير...
- ماذا؟ زوجي نام معك في السرير..؟
- ليس زوجك فقط، الجار أيضا قال لي أني أفضل منك في السرير!!
[email protected]