النرجسية..مرض المثقفين والحكّام المستبدين


قاسم حسين صالح
الحوار المتمدن - العدد: 5459 - 2017 / 3 / 13 - 09:54
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     


معروف لحضراتكم حكاية (نرسيس) الفائق الجمال في الميثولوجيا الأغريقية الذي تنبأ له العراف " تريزياس" بانه سيعمر طويلا شرط ان لا يرى انعكاس وجهه في المرآة، وكيف اغرته احدى الحوريات ليشرب من ماء بحيرة صاف ليرى انعكاس وجهه فيعجب بجماله ويتجمد ويتحول الى زهرة النرجس التي اصبحت رمزا للحب بلا عاطفة صادقة، ومنها اشتقت (النرجسية) التي تعني حب الذات.
وما هو غير معروف بالدقة هو دخول مصطلح (النرجسية) ميدان الطب النفسي واختلاف الرأي ما اذا كانت النرجسية اضطرابا "مرضا" نفسيا ام حالة عادية، الى ان استقر الرأي عبر سنوات من المعاينات التشخيصية لأشخاص يشتركون او يتشابهون في تصرفات وانفعالات وافكار متعبة لهم والآخرين،جرى وضعهم في صنف اطلق عليه اضطراب الشخصية النرجسية حددت اعراضه بتسعة في الدليل التشخيصي الأمريكي، بينها (الشعور بالعظمة ،المبالغة في الانجازات ،الحاجة الى الإطراء وألقاب التعظيم،الغطرسة والتعالي ،واستغلال الآخرين دون الأهتمتم بمشاعرهم).وبتأثيرها شاع اعتقاد خاطيء هو ان النرجسية حالة مكروهة وغرور سفيه،وهذا ليس بصحيح بمعيار التعميم، لأن الغالبية المطلقة من المبدعين يحملون قدرا معينا من النرجسية،ما يعني ان النرجسية التي تعبر عن الاعتزاز بالذات دون التعالي على الآخرين تعدّ احد اهم دوافع الابداع لاسيما في الشعر والأدب والفن.

الى هنا،وتحديدا ستينيات القرن الماضي،كان لدينا صنفان من النرجسيين:" العاديون" بالتوصيف في اعلاه،والمرضيون بتوصيف الطب النفسي..ثم ظهر الصنف الثالث وهم (النرجسيون الخبيثون). وصار ينظر الى النرجسية على انها طيف او بعد ممتد من السيكوباث في النهاية الأسوأ الى النرجسية الخبيثة في الوسط الى اضطراب الشخصية النرجسية في النهاية الأقل حدة.

ولدى مراجعتنا لعدد من الدراسات الأجنبية،ومتابعتنا الشخصية..وجدنا صنفين من النرجسية شائعين بنوعين من البشر هما المثقفون والحكّام..وعن هذي الصنفين سنتحدث.

المثقفون والنرجسية

علينا ان نميز بين النرجسية وحب الذات لأنهما حالتان مختلفتان وليستا واحدة كما يعتقد كثيرون .فان يحب الفرد ذاته فهذا يعني انه على وفاق معها،وانهما يسعيان الى ان يكونا بحال افضل اعتباريا ومعرفيا،شرط( وهذا هو الحد) أن يكون هذا الحب قائما على تقدير موضوعي لما يمتلكه من قدرات ومواهب.ولهذا يحق للشاعر او المثقف ان يعتز بنفسه(ذاته) وبمنجزه الشعري أو الأدبي..فيما المثقفون النرجسيون،لاسيما الشعراء منهم، يتصفون بالتعالي وتضخيم الذات وحب الألقاب والزهو والتفرّد والأستعراضية وحب الظهور والأنانية المفرطة والانشغال بخيالات تتعلق بشهرة او حصول على جوائز عالمية( نوبل مثلا)..فضلا عن ان حاجتهم الى الأطراء والأعجاب تكون عندهم كحاجة جهنم :يسألونها هل امتلأت تقول هل من مزيد!
وثمة فرق بين نرجسية جميلة لطيفة منتجة تنطبق على صاحبها كما هي عند نزار قباني ونرجسية اخرى لدى شاعر يجعل من نفسه مركز الكون..وهذا مرتبط بموضوع المنجز الشعري.فالذي غفر لنزار نرجسيته هو الحب والغزل والتودد،فيما لم نغفر لآخرين نرجسيتهم لأن موضوع شعرهم تركز في البطولة والاستعلاء والقدرات الاستثنائية.فأنت لا تتعامل مع المتنبي في قوله:
(وكل ما قد خلق الله ولم يخلق...محتقر في همتي كشعرة في مفرقي)
كتعاملك مع نزار في قوله:
(لن تستطيعي بعد اليوم أن تحتجي بأني ملك غير ديمقراطي

فانا في شؤون الحب اصنع دساتيري وأحكم وحدي...و:

كان عندي قبلك ... قبيلة من النساء
انتقي منها ما اريد .... واعتق ما اريد )

برغم أن نرجسيته ومنطقه كما لو كان خليفة عباسي.

الحكّام والنرجسية الخبيثة
يعد عالم النفس الاجتماعي ايريك فروم هو اول من نحت مصطلح النرجسية الخبيثة (malignant narcissism )عام 1964،واصفا اياها بأنها (مرض عقلي حاد..وأنها تمثل جوهر الشر) ،محددا حالتها بانها (المرض الأشدّ حدة، وجذر الحالات الشريرة الأكثر وحشية ضد الانسانية) . وفي عام 1967 وصف ( Edith Weigert )النرجسية الخبيثة بأنها هروب نكوصي من الاحباط الناجم عن تشوش او انكار للواقع، فيما وصفها Herbert Rosenfeld (1971 بانها نمط مشوش من الشخصية النرجسية حين تكون العظمة ،الأبهة ،الفخامة قد بنيت على العدوان،وحين تكون الجوانب التدميرية للذات قد اكتملت.

وبتطور هذه الأفكار توصل المحلل النفسي Otto Kernberg الى ان الشخصية المضادة للمجتمع هي اساس او جوهر الشخص النرجسي عديم الاخلاق،بمعنى ان السادية السيكوباثية هي الخاصية المميزة للنرجسي الخبيث.ومع ان (أوتو) كان اقترح في العام1984ادخال النرجسية الخبيثة في دليل الطب النفسي الامريكي ودليل منظمة الصحة العالمية بوصفها تشخيص طبنفسي،فانها لم تقبل في الدليلين المعتمدين.
ولقد وضع المحلل النفسي الفرويدي هذا (أوتو)توصيفا لها بانها متلازمة من اضطراب الشخصية النرجسية وصفات من الشخصية المضادة للمجتمع ،وسمات من البرانويا..مضيفا لها صفات غياب الضمير والحاجة النفسية للقوة والشعور بأهمية فخامة الذات.وبتشخيص مشابه،وصف بولوك Pollock النرجسية الخبيثة بأنها شعور مرضي بالفخامة ،ونقص في الضمير وانتظام السلوك مصحوبا بالقسوة والسادية التي تمنح صاحبها الشعور بالمتعة والبهجة.
ويتفق علماء النفس والأطباء النفسيون بأن الأشخاص النرجسيين كثيرون فيما النرجسيون (الخبيثون) قليلين ،محددين الفرق الرئيس بينهم بخاصية السادية او الاستمتاع غير المبرر لرؤية الآخرين يتألمون.فالنرجسي (العادي)يتعمد مواصلة ايذاء الآخرين لرغبات انانية ولكن يمكن ان يعتذر وقد يظهر في حالات الشعور بتانيب الضمير ،فيما النرجسي (الخبيث) يؤذي الآخرين ويستمتع بذلك مظهرا القليل من الشفقة او الندم لما حصل لهم من أذى.غير ان متابعتنا الشخصية على الصعيد العربي اوصلتنا الى ان الحكّام المصابين بالنرجسية الخبيثة(او الحقودة لدلالتها السيكولوجية على الانتقام) يكونون قساة بوحشية،عديمي الضمير لا يشعرون بالذنب لما سببوه من أذى للآخرين،بل أنهم يستمتعون برؤية من يعذّبون،ولا يشعرون بالندم على ضحياهم وان دفنوهم احياء تحت الأرض.
والمفارقة أن انموذج النرجسية الخبيثة، كان الرئيس معمر القذافي التي ما كانت شائعة ولا معروفة في زمانه..فان الفضل في احيائها وانشغال السيكولوجيين والاطباء النفسيين بها يعود الى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب..الذي صوره الاعلام الأمريكي بأن نرجسيته الخبيثة،التي اشاعها السيكولوجيون، ستجعل منه (مجنونا) فيما هو بالمقارنة مع معمر القذافي وصدام حسين..الأعقل في حبه لوطنه وشعبه.