فجوة حضاريَّة هائلة


سعود قبيلات
الحوار المتمدن - العدد: 5455 - 2017 / 3 / 9 - 14:25
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     






في المقدِّمة التي وضعها اسحق دويتشر للطبعة الصادرة في نيويورك عام 1967 مِنْ كتاب الأديب والمفكِّر السوفييتيّ أناتولي فاسيليفيتش لوناتشارسكي الموسوم بـ«لوحات ثوريَّة»، لفتتْ نظري الجملة التالية:

«واجتذبتْ محاضراته (لوناتشارسكي)، ومعظمها حول مواضيع أدبيَّة وفنيَّة، جماهير كبيرة لدرجة أنَّ رسوم الدخول شكَّلتْ مساهمة أساسيَّة في صندوق الحزب الذي لم تكن أحواله حسنة».

لم أملك إلا أنْ أتوقَّف عند هذه المعلومة بالكثير من الدهشة والأسى؛ ففي مطلع القرن الماضي (أيَّام القيصريَّة) كانت ندوات ومحاضرات أديب وناقد ومفكِّر روسي ثوريّ حول الأدب والفن تجتذب جمهوراً كبيراً في سان بطرسبورغ عاصمة روسيا القيصريَّة آنذاك، والأهمّ مِنْ ذلك أيضاً أنَّ هذا الجمهور كان يدفع لقاء حضوره تلك الفعاليَّات الثقافيَّة مبالغ نقديَّة مجزية إلى حدّ أنَّ حصيلتها الماليَّة كانت تُعدُّ مساهمة أساسيَّة في تمويل حزب سياسيّ مهمّ تولَّى السلطة في ما بعد!

ومن المعروف كذلك أنَّ فيدور دستويفسكي، الأديب الروسيّ المعروف، كان قد تفرَّغ للكتابة خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر وأنَّ الريع المالي لكتاباته كان يكفي لكي يؤمِّن له ولأسرته عيشاً مريحاً في مدينة سان بطرسبورغ.

ولقد زرتُ في صيف العام 2006 الشقَّة التي كان يعيش فيها دستويفسكي والتي تحوَّلتْ منذ زمنٍ طويل إلى متحف خاص به، فوجدتُ أنَّها تقع في حيّ جميل (جميل حتَّى الآن)، وأنَّها قائمة ضمن عمارة جيِّدة، وذات أثاث جيِّد لا يزال معروضاً فيها كما هو حتَّى الآن.

وكلّ ذلك المستوى الجيِّد من الحياة، حصل عليه الكاتب الشهير اعتماداً على الدخل الذي كانت تدرّه عليه كتاباته ابتداء مِنْ منتصف القرن التاسع عشر. وقبيل وفاته كان دستويفسكي يفكِّر في شراء «عزبة» في الريف الروسيّ بالمبلغ الماليّ الذي كان ينتظر أنْ يحصل عليه لقاء نشر كتابه الأخير «الأخوة كرامازوف». ومن المعروف أنَّ دستويفسكي مات نتيجة حادث عرضيّ عام 1881.

وكمثال آخر من الأدب الروسيّ أيضاً، نتذكَّر انطون تشيخوف الذي كان منشؤه في الأصل في أسرة فقيرة جِدّاً، بل إنَّ جَدَّه المباشر كان أحد الأقنان الذين تمَّ عتقهم بالمرسوم القيصريّ الشهير عام 1861. ومرَّ تشيخوف في بداية حياته، وهو لا يزال فتىً صغير، بظروف قاسية جِدّاً ما اضطرّه للعمل في بعض الأعمال الصعبة مِنْ أجل أنْ ينفق على نفسه وعلى أسرته وعلى دراسته.

وعندما لم تعد تلك الأعمال تكفي لكي تؤمِّن له الدخل المطلوب، فكَّر، وهو طالب في كليَّة الطب في موسكو، في أنْ يلجأ لكتابة القصص ونشرها في المجلاّت الأدبيَّة الروسيَّة لكي يحصل مِنْ جرَّاء ذلك على دخل كافٍ له ولأسرته. لاقت تلك القصص قبولاً جيِّداً لدى الناشرين والجمهور والنقّاد، على السواء، وعندئذٍ ألزم تشيخوف نفسه بكتابة القصص يوميّاً وواظب على نشرها بلا انقطاع. الأمر الذي مكَّنه مِنْ تأمين مستوى لائق من الحياة له ولذويه واستطاع أنْ ينهي دراسته ويعمل كطبيب لفترة من الزمن، ولكنَّه ما لبث سريعاً أنْ ترك مهنة الطبّ وتفرَّغ للكتابة وراح يعتاش منها وأصبح له مسكنٌ خاصّ في المدينة وآخر مع مزرعة في الريف.

فمن هو الكاتب في بلادنا العربيَّة الذي يستطيع الآن، وليس في القرن التاسع عشر أو مطالع القرن العشرين، أنْ يوفِّر لنفسه ولعائلته حياة جيدة، بوساطة كتاباته، ويصبح له بيت في المدينة وآخر مع مزرعة في الريف؟

قد يقول قائل إنَّ هذا كان دستويفسكي وذاك كان تشيخوف. ولكنَّني أرى أنَّ مثل هذا القول المُفترض يمثِّل نظرة مقلوبة تماماً لهذه المسألة؛ أمَّا النظرة الصحيحة لها فيجب أنْ ترى، بدلاً مِنْ ذلك، في مركز الصورة، المستوى الحضاريّ للمجتمع الذي أنتج مثل هذين الأديبين العظيمين وأضرابهما؛ فدستويفسكي وتشيخوف وسواهما ما كانوا ليكونوا ما أصبحوا عليه لولا أنَّهم وُلِدوا ونشأوا في مجتمع يقرأ ويفهم معنى ما يقرأ ويعرف قيمته حقّ المعرفة. وإلا فما الذي دفع الشاب المعدم، تشيخوف، لأنْ يفكِّر في كتابة القصص كمصدر محتمل للدخل إذا لم يكن هو معرفته بأنَّ القصص كانت «سلعة» مطلوبة مِنْ مستهلكين كُثُر وأنَّ أولئك المستهلكين كانوا على استعداد تامّ لأنْ يدفعوا جِيِّداً مقابلها.

وفي مقابل ذلك، فإنَّ أبرز الأدباء العرب الآن لا يستطيع أنْ يطبع أكثر مِنْ ثلاثة آلاف نسخة مِنْ أيّ كتاب له لتوزَّع على جميع أنحاء العالم العربيّ بملايينه التي تقارب الثلاثمائة! وطبعاً هذا لا يعني أنَّ هذه النسخ ستباع كلّها، مع أنَّها بمجموعها تُعتَبر رقماً تافهاً جِدّا بالنسبة لأصغر بلدان أوروبّا وأقّلها تقدّماً.

أمَّا المحاضرات والندوات فلا أحد يدفع للأديب مقابل إقامتها، ولا أحد يطلب من الجمهور أنْ يدفع مقابل حضورها، هذا طبعاً إذا حضرها أحد. بل على الأديب أنْ يشعر بالامتنان الشديد ويعبِّر عن شكره للجهة الداعية، كما أنَّ عليه أيضاً أنْ يشكر القلَّة القليلة التي «تجشَّمتْ عناء الحضور».

المشكلة الأساسيَّة، هنا، هي أنَّ الناس في بلادنا العربيَّة لا يقرؤون. وهي مشكلة لا تنعكس على الكتَّاب وحدهم، بل على حالتنا العامَّة بمجملها. بل إنَّ هذا هو أحد أهمّ أسباب تخلّفنا. ولكن، مع ذلك، يُلاحظ أنَّنا حين نتحدَّث عن الفوارق الحضاريَّة المختلفة بيننا وبين المجتمعات المتقدِّمة نذكر كلَّ شي وأتفه الأسباب وأهمّها، ولكنَّنا قلَّما نذكر شيئاً عن الفارق الأساسيّ الأهم بيننا وبين الآخرين؛ وهو بالتحديد أنَّهم يقرؤون كثيراً بينما نكاد لا نقرأ بالمرَّة.

إنَّ نسبة كبيرة من الناس بيننا لم تقرأ في حياتها ولو كتاباً واحداً خارج المنهج المدرسيّ أو الجامعيّ المقرَّر، وفي أحسن الأحوال فإنَّ البعض يكون قد قرأ كتاباً أو كتابين ويعتقد مع ذلك أنَّه قد حقَّق المطلوب على أكمل وجه.

ومع ذلك فإنَّ هذه الأميَّة الثقافيَّة المطبقة لا تحول دون تبوِّء أصحابها مختلف أنواع المناصب والمسؤوليَّات وترقّيهم فيها.

والمشكلة الأهمّ هي ليست فقط أنَّنا لا نقرأ بل أكثر مِنْ ذلك هي أنَّنا لا نعرف أنَّه توجد لدينا مشكلة في هذا المجال، مع أنَّها مشكلة كبيرة وتؤثِّر بشدَّة على مجمل حياتنا وتطوّرنا الحضاريّ. بل إنَّ بعضنا تأخذه العزَّة بالإثم فيباهي علناً بأنَّه لا يقرأ!

أمَّا في البلدان المتقدِّمة فالقراءة تعتبر عادةً أساسيَّة شائعة جِدّاً وراسخة. إنَّهم هناك يقرؤون بانتظام في البيوت والمكتبات والحافلات والقطارات والطائرات، في الأدراج الكهربائيَّة الهابطة إلى محطَّات المترو أو الصاعدة منها، وفي الحدائق العامَّة، وعلى أرصفة الشوارع، في استراحات العمل وفي الطريق منه أو إليه، وفي الفترات القصيرة التي يجلسون فيها بانتظار الصديق أو الصديقة.. الحبيب أو الحبيبة، وفي كلّ فرصة سانحة مهما كانت صغيرة. يقرؤون كلّ يوم، يقرؤون في الأدب والسياسة والفلسفة والعلوم والفنون، يقرؤون مِنْ مختلف الأعمار؛ فتيان وفتيات في سنّ المراهقة وشبَّان وشابَّات في أوج شبابهم وكهول وعجائز في أرذل العمر، ومِنْ مختلف المعتقدات والاتِّجاهات وبمختلف النوازع والأهواء والهوايات.

وليس لإقبالهم النهم هذا على القراءة علاقة بالجينات، كما حاول (ويحاول) البعض مِنْ رموز الاستشراق والاستشراق المعكوس أنْ يروِّجوا، بل هي محصِّلة سياق حضاريّ؛ أعني بالأحرى سياق متحضِّر؛ فمفردة «حضاريّ» التي يشيع استخدامها كثيراً في بلادنا بفهم عاميّ ليست مرادفة بالضرورة لمعنى التحضّر. ذلك لأنَّ جميع المجتمعات، وحتَّى أكثرها تخلّفاً، هي مجتمعات حضاريَّة؛ أي أنَّها تنتمي إلى مستوى ما مِنْ مستويات الحضارة بغضّ النظر عن مدى تطوّره أو تخلّفه، أمَّا التحضّر فهو، بخلاف ذلك، يعني الاندماج «العضويّ» باللحظة الحضاريَّة الراهنة والاقتراب من المعيار العامّ لمستوى تطوّرها.

المهمّ هو أنَّنا ما لم نتجاوز هذه الفجوة الحضاريَّة الهائلة بيننا وبين الأمم المتحضِّرة في مجال القراءة بشكل أساسيّ، فلن نتقدَّم أبداً ولن نتجاوز عثراتنا، وسنظلّ ندور في حلقة مفرغة إلى ما لا نهاية؛ فنبدأ دائماً من الصفر تقريباً ثمَّ لا نلبث أنْ نعود إليه مِنْ دون أنْ نبلغ غاياتنا. كما أنَّنا سنظلّ أسرى للارتجال والعشوائيَّة في مجمل شؤون حياتنا؛ ذلك لأنَّ التخطيط والتدبير يحتاجان إلى فكر، والفكر لا يتحصَّل إلا بالقراءة، والقراءة تكاد تكون معدومة لدينا.

والطريف هو أنَّنا مع ذلك نعتقد بصورة نمطيَّة أنَّنا نعاني مِنْ فائض كبير في الفكر إلى الحد الذي أصبحتْ معه كثرة انشغالنا بالتفكير تعيق انصرافنا للعمل! هذا ما تعبِّر عنه بوضوح وبلاهة المقولة العاميَّة النمطيَّة الشائعة لدينا التي لطالما نطقتْ بها ألسنة المتعلِّمين وغير المتعلِّمين وعامَّة الناس والمسؤولين، على السواء؛ وفحواها:

«لقد شبعنا تنظيراً وآن الأوان للعمل»!

لا يعرف هؤلاء أنَّ ما يدَّعون أنَّهم شبعوا منه إنَّما هو الثرثرة الأميَّة التافهة (التي هم في الواقع بعض منتجيها المواظبين) وليس التنظير، وأنَّهم بكلامهم الساذج هذا لا يفعلون شيئاً سوى المساهمة في استمرار دوران عجلة الثرثرة واستشراء آفة الأميَّة والجهل إلى ما لا نهاية.

أمَّا المجتمعات الحيَّة؛ المجتمعات التي تعمل حقّاً وتنتج حقّاً وتتقدَّم حقّاً فإنَّها لا تتذمَّر من التنظير ولا تشبع منه ولا يخطر في بالها أنَّها تستطيع الاستغناء عنه؛ بل هي تهيّئ له دائماً الأرض الخصبة الملائمة ليزدهر ويتواصل ويتطوَّر باستمرار؛ ففي ذلك معنى حياتها ورشادها وسلامة وعيها، كما أنَّ فيه الضمانة الحقيقيَّة الأهمّ لاستمرار نمائها وتطوّرها وازدهارها.