سميرة ورزان والحجاب: استعادة كرامة السفور


ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن - العدد: 5454 - 2017 / 3 / 8 - 16:42
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     


اختطفت سميرة الخليل ورزان زيتونة وغيبتا منذ ثلاثة سنوات وثلاثة أشهر لأنهما غير محجبتين. ليس لهذا السبب حصراً، لكن سفورهما هو عنصر الاختلاف الذي جعل المرأتين مرئيتين أكثر، مراقبتيْن أكثر، وأشد تعرضاً للخطر من قبل متسلطين دينيين متعصبين. في ملف أعده جيش الإسلام قبل شهور قليلة لتبرئة نفسه من جريمة الخطف (ويبدو أنه قدّمه لمن يهمه أمرهم أو يهمهم أمره، ولم ينشر للعموم)، ذكر واقعة تعرض حسين الشاذلي، "ضابط أمن الغوطة الشرقية"، لرزان لأنها غير محجبة. لم أكن سمعت بالواقعة التي قد تكون مختلقة بغرض حجب واقعة أخرى معلومة: تهديد الشاذلي نفسه لرزان بالقتل إن لم "تنقلع" من دوما خلال ثلاثة أيام. لكن إيراد الواقعة يؤشر على النظرة التي كانت رزان وسميرة معروضتان لها، وعلى نمط التماثل الذي فرضه المتحكمون الجدد، وما تولد عن هذا التماثل المفروض من اختلافات صارت تعتبر شاذة وغير مرغوبة، وتالياً واجبة الحذف.
ولم يكن سفور المرأتين خروجاً مجانياً على أعراف مجتمع محلي، كما تبرّع بالقول هيثم المالح، "شيخ الحقوقيين السوريين"، في كلام يسوِّغ جريمة الخطف ويتواطؤ مع الخاطفين، ويتعارض مع مفهوم الحق ذاته. كان سفور سميرة ورزان جزءاً من شخصية كل منهما، وممارسة لحق شخصي تنسجم مع كفاحهما طوال سنوات طويلة من أجل الحرية.
يستعيد خطف وتغييب سميرة ورزان، ومعهما في هذا الشأن سمر صالح (المخطوفة من قبل داعش مع خطيبها محمد العمر منذ 12 آب 2013)، كرامة سفور النساء والصراع من أجل السفور. كان السفور قد فقد كرامته في واقعة رمزية دالّة يوم 29 أيلول 1981، وقت اعتدت مظليات رفعت الأسد على نساء محجبات في شوارع دمشق ونزعن أغطية رؤوسهن، وأذللنهن. منذ تلك الواقعة، ولثلاثين عاماً بعدها، تحول السفر من عنصر حرية واستقلال للمرأة، وتحرر اجتماعي، إلى عنصر هوية وتماه جمعي، يحيل بقوة إلى تمايزات دينية أو طائفية. صار عنصراً في بناء هويات تتجه تماهياتها في اتجاهات متعاكسة. في حقل عمل التماهيات الناشئة وقتذاك، كل عنصر تماه هو عنصر تماه عكسي، فيقف الحجاب قبالة السفور كعنصر تعريف وتمييز جوهري. فصار الشكل القياسي للمرأة المسلمة، السنية، هو المحجبة (وهي وحدها الملتزمة والأخلاقية، أو هي وحدها "المتخلفة")، وصارت غير المحجبات منحدرات من "أقليات" (وهن وحدهن المتحررات، أو هن وحدهن "الفلتانات"). وتعمل التماهيات والتماهيات العكسية تبادلياً ويغذي بعضها البعض الآخر، بحيث يقترن المزيد من الحجاب بالمزيد من السفور، فيؤول هذا التعاكس إلى تباعد اجتماعي ونفسي وسياسي واسع، كلن ملحوظاً جدا في سورية طوال سنوات قبل الثورة. على هذا النحو كفّ زي المرأة عن أن يكون خياراً فردياً حراً، أو فعلاً من أفعال تحرر سياسي واجتماعي، وهذا بقدر ما هو اندرج في بناء التمايزات الجمعية.
ليست كل النساء السافرات والمحجبات مندرجات في كيمياء الهويات هذه، وليست أجساد جميعهن حوامل سلبية لإعادة إنتاج تمايزات جمعية. من السافرات نساء حريصات على استقلالهن عن أي سلطة جمعية، ومن المحجبات نساء مضطرات، لا يستطعن انتزاع ملكية أجسادهن من الجماعة. لكن كان في سورية ميل صاعد إلى استخدام أجساد النساء كأدوات في الصراع الاجتماعي والسياسي ونيل الأسبقيات الجمعية، وهذا في إطار سياسي محدد، الحكم الأسدي، أدرج هذه الواقعة في "فتزينة" عرض نفسه عالمياً، واستخدمها أيضاً كلغة رمزية تخاطب قطاعات من السوريين يعمل على أن تتماهى به بقوة أكبر.
هذه القطاعات متمايزة أهلياً، وصاعدة اجتماعياً على العموم. الاجتماعي هنا لا يعني فقط دخولاً أعلى فقط، ولكن أماناً أكبر وخوفاً أقل، وشعوراً بالراحة أكبر حيال الأوضاع العامة، ورأسمالاً اجتماعياً يسهل الوصول إلى خدمات متنوعة. وعبر العقود صار السفور في عين شرائح مفقرة وغير آمنة من السوريين، محرومة ماديا وجنسياً، وسياسياً طبعاً، وتقيم في أحياء طرفية وبلدات مفقرة، صار يرمز إلى عالم النخبة البعيد الممتاز.
لم يكن جسدا سميرة روزان سميرة ورزان حاملي رموز لخدمة مشروع نخبوي من أي نوع. كانتا مناضلتين من أجل الديمقراطية، تعترضان على النظام السياسي في البلد، وعلى وعي بما يتيحه من تماهيات متعارضة. رزان دافعت عن المعتقلين السلفيين كمحامية، واهتمت بالأوضاع الاجتماعية لبيئاتهم والتقت بنسائهم المنقّبات المهانات أمام محكمة أمن الدولة في مركز دمشق أو في بيوتهن الفقيرة البعيدة. وسميرة كانت طوال الوقت أقرب إلى المعارضة الجذرية للنظام، التي لا تُروِّج لحداثته وتضع السفور في خدمة نظام للتحجيب السياسي الشامل، ولا تتطوع لإعادة إنتاج التماهيات العكسية التي اعتاش على إدارتها والتلاعب بها.
كان سفور المرأتين خياراً شخصياً حراً. وهو كذلك في حالة رزان أكثر من سميرة. فبحكم منبتها العلوي، وبحكم أن التماهي العلوي سار في جيلها نحو السفور بدءاً من وضع كانت مظهر النساء الريفيات من جيل والدتها لا يكاد يتمايز بتمايز الجماعات الأهلية، بحكم هذا الوضع لم يكن ميسوراً تبيّن ما إذا كان سفور سميرة عنصر امتثال لنظام تماهيات جمعية يضع السفور في خدمة الأهلي، أم هو خيار استقلال وحرية شخصية. أما رزان فتنحدر من بيئة اجتماعية محافظة، وكانت طفلة منقبة في المدرسة في السعودية حيث عاشت أسرتها لسنوات. قرارها بالسفور اندرج في تصورها لنفسها ولحياتها، وإن لم تجعل منه في أي وقت قضية كبيرة على ما تظهر مقالتها الرائعة: الرقص مع النقاب (كلمن، http://www.kalamon.org/articles-details-37). لكن رزان أصرت على السفور في دوما، وكانت مستعدة دون ريب لأن تجعل منه قضية كبيرة، حين كان الدفاع عن السفور دفاعاً عن حريتها واختلافها. في بلدة مثل دوما كانت تتصاعد فيها سيطرة تنظيم سلفي استنفر السخط الشعبي حيال النخبة الأسدية (لكن وجهه في اتجاهات فاشية)، كان الإصرار على الحق في السفور، مثل الدفاع عن الحق في الحجاب، دفاعاً عن الحرية.
سميرة ورزان تجسدان استعادة السفور لكرامته كفعل تحرر في مواجهة المتحكّمين الإسلاميين. ففي ظل نموذج السلطة البطريركية الإكراهية للإسلاميين، يكف الحجاب عن كونه حقاً فردياً لنساء، أو اضطراراً من قبل بعضهن أمام السلطة البطريركية في الأسرة، أو حتى عنصراً في تماه جمعي ضمن حقل تماهيات متعاكسة وفي إطار سياسي لا يكف عن تغذية تباعد تماهيات المحكومين؛ ويصير أداة تحكم سياسي واجتماعي بيد نخبة سياسية دينية وفي مشروع سلطة مطلقة. الحجاب في مثل هذه الشروط نظام اجتماعي وسياسي، وليس مجرد مظهر خارجي للنساء. ومقاومة الحجاب والنضال من أجل السفور يغدو عنصر مقاومة لهذا النظام وتحرر منه. وظاهرة التخلص من الحجاب من قبل نساء سوريات اليوم تندرج في أفعال المقاومة والتحرر هذه، ولها بعد احتجاجي ظاهر ضد المتسلطين الجدد. لا يكون الحجاب حقاً إلا حين يكون السفور حقاً.
اندرج خطف سميرة ورزان وتغييبهما في مشروع عام للحجب، الحجب السياسي، وحجب النساء، وسيطرة أقلية سلفية عدوانية على مجتمع متنوع في توجهاته الدينية، وإن يكون كله مكوناً من مسلمين سنيين، متدينين عموماً. كانت سميرة ورزان آخر امرأتين سافرتين في الغوطة الشرقية.
حرك الثورة السورية تطلع إلى السفور السياسي، أي الكلام دون رقابة والتنظيم العلني والاحتجاج في الفضاء العام، أي أيضا الخروج من الحجاب السياسي المفروض قسراً. السفور السياسي يتعارض مع فرض الحجاب بالقوة بقدر ما يتعارض مع نزع الحجاب بالقوة. وهو ما يعني أن النضال ضد الحجاب نضال من أجل السفور السياسي في مواجهة الإسلاميين، بقدر ما كان الدفاع عن حق المحجبات في ألا ينزع حجابهن بالقوة هو الدفاع عن السفور السياسي في مواجهة الأسديين.
سميرة الخليل ورزان زيتونة رمزان كبيران في هذا الصراع.