الفصل الخامس من كتاب (رأسمالية الزومبي) النظام والإنفاق الحكومي


كريس هارمان
2017 / 2 / 28 - 08:47     



إذا كان التزايد الهائل لأهمية للدولة في الاقتصاد يمثل إحدى السمات التي ميزت رأسمالية القرن العشرين عن الرأسمالية في وقت ماركس، فإن نمو جميع أنواع الإنفاق غير المنتِج بصورة مباشرة يمثل سمة أخرى ميزت رأسمالية ذلك القرن.

وكان ماركس قد أخذ عن آدم سميث التفرقة بين العمل “المنتِج” و”غير المنتِج”. فقد وضع سميث كتاباته في وقت كان فيه نمط الإنتاج الرأسمالي لا يزال في مرحلة الطفولة. وكان يسعى إلى معرفة ما تحتاجه الرأسمالية كي تتجاوز العقبات التي تقف عائقا أمام المزيد من تطورها، وهو ما دعاه إلى التمييز بين استخدام العمل المأجور الذي يمكِّن الرأسمالي من تحقيق أرباح، وبالتالي زيادة الإنتاج، وبين العمل المأجور الذي يمتص الموارد الموجودة فحسب. ووفقا لهذا المنطق، كان تشغيل شخص ما بغرض إنتاج أشياء يجري بيعها عملا منتِجا، بينما كان تشغيله بغرض الاعتناء بالرغبات الشخصية للمرء عملا غير منتِج. وبمعنى آخر، يؤدي تشغيل فرد ما في مصنع إلى إنتاج الثروة، بينما يؤدي تشغيله كخادم شخصي إلى استهلاك الثروة، ليس إلا. لكن أولئك الذين اعتبرهم سميث بهذا المعنى غير منتجين ومهدرين للثروة لم يتقصروا على الخدم، بل إنه اتخذ النهج نفسه تجاه من يتربحون من السياسة عبر تولي وظائف حكوميةوالنساء اللاتي يعشن على استهلاك عائدات الدولة التي لم يكن قد جرى إصلاحها بما يكفي كي تناسب احتياجات الإنتاج الرأسمالي.1

أخذ ماركس هذا التمييز بينما كان يُعِد المسودات الكثيرة من رأس المال، وقام بتطوير طريقته الخاصة في فهم هذا التمييز. ومثله مثل سميث، كان ماركس مهتما بما يمكن أن يؤدي إلى تسيير عمل الرأسمالية ـ وإن كان ذلك بغرض معارضة النظام وليس دعمه. ومن هنا كان اهتمامه بما هو “منتِج” بحسب الشروط الرأسمالية2، مشيرا إلى أنه يشمل ما يُنتِج فائض قيمة. ذلك أن العمل الذي يُنتِج فائض قيمة يمكِّن الرأسماليين من التراكم، بينما الذي لا يُنتِج فائض قيمة لم تكن له فائدة في هذا الصدد ـ أي أنه كان “غير مُنتِج”.

وفي كل ذلك، كان ماركس حريصا على توضيح أن “عدم إنتاجية” العمل لا تتوقف على شكله المادي أو مدى فائدة المنتَج اجتماعيا. بل كان كل ما يهمه هو قدرة هذا العمل على إنتاج فائض القيمة. وكتب يقول في إحدى كراساته إن “هذه التفرقة بين العمل المنتِج وغير المنتِج لا علاقة لها بمجال التخصص المميِز لهذا العمل أو نوع القيمة الاستعمالية… المتضمنَة… فيه”.3

ولم تكن التفرقة التي طرحها ماركس هي تفرقة بين الإنتاج المادي والإنتاج الذي يصنَّف اليوم باعتباره “خدمات”. ذلك أن بعض الخدمات لديها قيمة استعمالية تباع وتُشترى كسلعة في السوق ـ أو تقدم إضافة مفيدة لبعض السلع الأخرى. ويكون لهذه الخدمات قيمة تبادلية تتحدد بواسطة العمل الاجتماعي المطلوب لإنتاجها، بالتالي، يمكنها أن تقدم للرأسماليين فائض قيمة جديد. وعلى ذلك، فإن هذه الخدمات تُعتبر إنتاجية. وعلى سبيل المثال، يُعد التمثيل في فيلم عملا منتِجا، مادام يخلق قيمة استعمالية (تضيف إلى متعة الأفراد، وبالتالي يحسَّن من مستوى معيشتهم) يبيعها الرأسمالي ـ الذي يعمل عنده الممثل ـ كسلعة تدر ربحا. وبالمثل، يُعتبر نقل الأشياء من المكان الذي صُنعت فيه إلى مكان الاستهلاك ـ كما يفعل عمال النقل ـ عملا منتجا، لأنه بالفعل جزء من عملية استكمال هذا الإنتاج. وعلى النقيض من ذلك، لا يُعتبر ظهور الممثلين في التليفزيون بغرض إقناع الناس بشراء سلعة ما عملا منتِجا، لأنه لا يخلق قيما استعمالية أو تبادلية جديدة.

وقد كان جوجلييلمو كارشيدي محقا عندما قال:

لا يؤدي تصنيف “خدمات” إلى إلا خلط الأمور، وبالتالي تجب إزالته.”ليست الخدمة سوى الأثر المفيد للقيمة الاستعمالية، سواء كانت تخص سلعة أو عملا [وفقا لماركس].4 وبالتالي، تتضمن “الخدمات” عملا منتِجا، (مثل الفنادق والترفيه)، وعملا غير منتِج (مثل الإعلان وبحوث السوق)…5

وكما هو الحال مع آدم سميث، افترض ماركس في مجادلاته المبكرة حول هذا الموضوع في بداية ستينيات القرن التاسع عشر أن العمل غير المنتِج يتعلق بخدمات يقدمها الأفراد إلى الطبقة العليا.6 وتضمنت هذه الخدمات توفير “وسائل التسلية”، والتعامل مع “العيوب الجسدية” (أي عمل الأطباء) و”الضعف الروحي” (أي عمل كهنة الكنيسة)، وتسوية “الصراعات بين المصالح الفردية والمصالح القومية” (أي عمل الساسة والمحامين والشرطة والجيش). وكان “الرأسماليون الصناعيون أنفسهم” يرون النوع الأخير من العمل باعتباره نوعا من مصروفات الإنتاج النثرية التي يجب أن تُخفَّض إلى الحد الأدنى الضروري، وتُقدَم بثمن بخس إلى أقصى درجة.7

وقد أقر ماركس بأنه أحيانا لا تُقدَّم الخدمات الشخصية لأعضاء الطبقة الحاكمة بواسطة أفراد يعملون لحسابهم، بل بواسطة رأسماليين يستخدمون العمل المأجور بغرض توفير هذه الخدمات للآخرين. وقد علّق على ذلك قائلا إن العمل المستخدَم في هذه الحالة يكون منتِجا لأنه يخلق فائض قيمة. وفي نهاية المطاف، يبيع الرأسماليون الذي استخدموا هؤلاء العمال المنتَج بثمن يزيد عن الذي دفعوه لقوة العمل، ويحصلون على ربح نتيجة ذلك. وبالتالي إذا قام مدرس يعمل لحساب نفسه بتدريس أطفال شخص آخر في المنزل، فإنه بذلك يقدم خدمة بلا ربح، وبالتالي يكون عمله غير منتِج. وعلى النقيضمن ذلك، عندما يعمل مدرس في شركة تحقق أرباحا عبر إدارة مدرسة، فإن عمله في هذه الحالة يكون منتِجا. ذلك أن الوظيفة الأولى لم تساعد بأي شكل الرأسماليين في إحداث تراكم للقيمة، في حين أن الثانية ساعدت في تحقيق هذا التراكم. إذا فالتفرقة هنا هي بين عمل يُعتبر جزءا لا يتجزأ من الإنتاج والتراكم الرأسماليين، وبين عمل آخر ليس كذلك.

لكنه في كتابه رأس المال أيضا، وجد ماركس نفسه في حاجة إلى إعادة النظر في مسألة التمييز بين العمل المنتِج وغير المنتِج في سياق مختلف ـ سياق كان جزءا لا يتجزأ من الإنتاج الرأسمالي في كليته، وليس أمرا خارجيا بالنسبة له. لأنه مع تطور الرأسمالية، تزايد اعتمادها على العديد من أشكال العمل التي لا تنتج شيئا.

كان هناك عمل يهدف إلى الحفاظ على النظام داخل المنشأة الرأسمالية ـ وهو “عمل” المديرين والمشرفين والملاحظين. كما كان هناك العمل التجاري المتضمَن في تبادل السلع التي جرى إنتاجها بالفعل، أثناء مرورها بالعديد من سلاسل الشراء والبيع، إلى أن تصل إلى المستهلك النهائي. وكان هناك العمل المالي المتضمَن في تقدير الارباح والخسائر، وتقديم الائتمان، وتقسيم فائض القيمة بين مختلف قطاعات الطبقة الرأسمالية. وأدرك ماركس أن حجمأنواع العمل هذه سوف ينمو مع توسع الراسمالية:

من الواضح أنه مع توسع نطاق الإنتاج، فإن العمليات التجارية المطلوبة على نحو مستمر من أجل إعادة تدوير رأس المال الصناعي… تتضاعف وفقا لذلك… كلما اتسع نطاق الإنتاج، اتسعت… العمليات التجارية لدى الإنتاج الصناعي.8

وإذا استخدم الرأسمالي هذا العمل بهذا الشكل، فإنه لا يمكن اعتباره منتِجا أكثر من ذلك الذي يقوم به الخادم. ذلك أن الحفاظ على النظام أو بيع السلع أو إجراء الحسابات، تُعتبر وظائف ضرورية يجب دفع مقابل عنها عبر الاقتطاع من فائض القيمة، لا أعمالا خلاقة تؤدي إلى زيادة فائض القيمة. فهذه الأعمال لم تنتِج شيئا جديدا، بل كانت تختص فحسب بالسيطرة على إنتاج القيمة بواسطة الآخرين، أو تحويلها من شكل (السلع) إلى آخر (النقود)، أو تقسيمها بين الناس. إذا فالأنشطة التي يقوم بها المشرف أو محاسب البنكأو عامل البيع، لا يمكنها خلق مزيد من القيمة (ومن ثم فائض القيمة) يفوق تلك التي يمكن للخادم أن يخلقها.

لكن ماذا يحدث إذا استخدم الرأسمالي المنتِج رأسماليين آخرين للقيام ببعض هذه الوظائف نيابة عنه؟ وفقا لتعريف ماركس الراسخ، يجب أن يُعتبر العمل الذي يستخدمه هؤلاء الرأسماليون عملا منتِجا، لأنه يمكِّنهم من تحقيق أرباح. لكن رؤية المسألة بهذه الطريقة تمثل مشكلة، لأن الربح لم يتحقق عن طريقة زيادة مقدار النائج الإجمالي بأي درجة تزيد عن ذلك الذي كان سيتحقق حال توظيف الرأسماليين المنتجين أفرادا بصورة مباشرة لأداء هذه الأعمال. إذا فالأمر يساوي ببساطة اقتطاع الرأسمالي الثاني جزءا من فائض القيمة الذي كان في الأصل في أيدي الرأسمالي الأول. واستنتج ماركس أنه من وجهة نظر الإنتاج الرأسمالي، يُعتبر هذا العمل غير منتِج، حتى لو بدا هذا الطرح مرتكزا إلى تعريف للعمل المنتِج مختلف عن ذلك الذي استخدمه في مناسبات أخرى. ولهذا السبب طرح جاك بيديه، على سبيل المثال، أن ماركس لم يكن متسقا9.لكن استنتاج ماركس يبدو منطقيا فيما يخص المسألة التي كان هو وآدم سميث مهتمين بها ـ أي التمييز بين الأشياء التي تؤدي إلى تقدم التطور الرأسمالي، وتلك التي تؤدي إلى تراجعه.

ومادام الرأسماليون يعملون في بيئة اقتصادية لم يصبح فيها الإنتاج الرأسمالي مسيطرا بعد، فإن الذين كان يستأجرون عمالا بغرض تقديم خدمات شخصية، كانوا يقدمون هذه الخدمات أساسا لأفراد جاءت ثرواتهم من خارج النظام الرأسمالي. فقد كانت المدفوعات التي يتلقاها ملاك مدرسة، على سبيل المثال، تمثل انتقالا للموارد من جيوب المستغَلين الذين يعملون في أنشطة ما قبل رأسمالية، إلى القطاع الرأسمالي ـ وهي موارد كان يمكن آنذاك استخدامها في التراكم الرأسمالي. وعلى النقيض من ذلك، كان التجار أو أصحاب المحال التجارية الذين يتعاملون مع السلع التي يصنعها الرأسماليون المنتجون، يحصلون على أرباحهم من فائض القيمة الذي خلقه بالفعل الرأسمالي المنتِج. وبالتالي لم يكونوا يضيفون شيئا إلى فائض القيمة الإجمالي ولا إلى المزيد من تراكم رأس المال.

وكما يشير ماركس:

بالنسبة إلى الرأسمالي الصناعي، تبدو تكاليف تداول السلع مصاريف غير منتِجة، وهي كذلك بالفعل. لكنها بالنسبة للتاجر تبدو مصدرا للربح يتناسب مع حجم هذه التكاليف بالنظر إلى المعدل العام للربح. وعلى ذلك، يكون الإنفاق على تكاليف التداول هذه استثمارا إنتاجيا بالنسبة للرأسمالي التجاري… وبالمثل، يكون العمال التجاريون الذين يشترى قوة عملهم عمالا منتجين على نحو مباشر بالنسبة لهذا الاستثمار.10

وتعني المنافسة بين الرأسماليين التجاريين وبعضهم البعض أن كلا منهم كان يخضع للضغط نفسه الذي يخضع له الرأسماليون المنتجون، والخاص بالعمل على أبقاء الأجور منخفضة مقارنة بقيمة العمل. ولهذا السبب، كان من يعملون لدى الرأسماليين التجاريين مستغَلين مثلهم مثل من يعملون لدى رأس المال المنتِج. وكلما استطاع الرأسمالي التجاري خفض الأجور وزيادة عبء العمل الواقع على عماله، زاد النصيب الذي يستطيع أن يستبقيه لنفسه من المدفوعات التي حصل عليها من الرأسماليين المنتجين مقابل تقديم خدمات لهم. مثلا، إذا كان العمل الاجتماعي الضروري للقيام بعملية بعينها من عمليات البيع هو ثماني ساعات، وكانت أربع ساعات فقط من العمل الاجتماعي تكفي لتغطية أجر عامل المبيعات، فإن الرأسمالي صاحب المحل التجاري يستطيع الاحتفاظ لنفسه بما قيمته أربع ساعات من فائض القيمة الوارد من مكان آخر في النظام.

لكن ذلك لا يعني أنه يمكن مساواة العمل التجاري بالعمل المنتِج عندما يتعلق الأمر بفهم ديناميكيات النظام ككل، حيث إن أحدهما دون الآخر يخلق موارد يمكن استخدامها في المزيد من التراكم.

لهذا كان ماركس مصرا على ما يلي:

قد تكون التكاليف التي تؤدي إلى زيادة سعر السلعة بدون أن تضيف شيئا إلى قيمتها الاستعمالية ـ وبالتالي يجري تصنيفها باعتبارها مصاريف غير منتِجة بالنسبة للمجتمع ـمصدرا لإثراء الرأسمالي الفرد. من ناحية أخرى، حيث إن هذه الإضافة إلى سعر السلعة تقوم فحسب بتوزيع تكاليف التداول على نحو متساوٍ ليس إلا، فإنها تظل غير منتِجة في طبيعتها. على سبيل المثال، تقوم شركات التأمين بتقسيم خسائر الرأسماليين الأفراد بين الطبقة الرأسمالية. لكن ذلك لا يمنع هذه الخسائر الموزعة بالتساوي من أن تكون خسائر بالنسبة إلى رأس المال الاجتماعي المجمع.11

غالبا ما يُنظر إلى التمييز بين العمل المنتِج وغير المنتِج باعتباره مسألة مدرسية، ليس إلا. لكنه بمجرد أن ننظر لهذا التمييز من زاوية ما الذي يساهم في التراكم وما الذي لا يساهم فيه، تصبح له آثار هائلةـ بعضها لم يُشر إليه ماركس نفسه قط. إن ما يُعد “منتِجا لفائض القيمة” بالنسبة للرأسمالي الفرد (أي التعريف الذي استخدمه ماركس في كراساته) لا يكون بالضرورة منتِجا من زاوية الإضافة إلى فائض القيمة المتاح للتراكم الرأسمالي بصفة عامة. ويُعتبر رأس المال المتاح للتراكم هذا هو الأمر المركزي بالنسبة لديناميكية النظام.

نطاق العمل غير المنتِج

خلال القرن العشرين، ارتفع مستوى المصروفات غير الإنتاجية التي يجري إنفاقها في المبيعات والتمويل. ويقدِّر شيخ وتوناك أن عدد عمال التجارة في الولايات المتحدة تزايد من 10.690.000 في 1948 إلى 24.375.000 في 1989، بينما ارتفع عدد العاملين في التمويل والتأمين من 1.251.000 إلى 7.123.000 في الفترة نفسها. في غضون ذلك، ارتفع عدد عمال الصناعة من 32.994.000 إلى 41.148.000 فقط.12ويقدر فريد موزيلي أن أعداد عمال التجارة نمت من 8.9 ملايين إلى 21 مليونا بين عامين 1950 و1980، بينما تزايد عدد العاملين في التمويل من 1.9 ملايين إلى 5,2 ملايين في الفترة نفسها، مقارنة بنمو قوة العمل في مجال الإنتاج من 28 مليونا إلى 40.3 مليونا فقط.13

ولا تشمل هذه الأرقام العدد الكبير من المديرين، الذين اعتبرهم ماركس “غير منتجين”، لأنهم يعملون في مراقبة المنتجين الفعليين للقيمة. وقدَّر سيمون موهن أن النمو في أعداد هؤلاء والرواتب التي يتلقونها أدى إلى تزايد نصيب الأجور والمرتبات “غير المنتجِة” من “القيمة المضافة المادية” في الولايات المتحدة من 35 بالمائة عام 1964 إلى ما يزيد عن 50 بالمائة سنة 2000. 14 كما تنتقص هذه الأرقام من حجم النمو الكلي للعمل غير المنتِج، لأنها لا تشمل العاملين في وظائف غير منتِجة بالدولة مثل الجيش والنظام القانوني.

المصروفات غير المنتِجة والإنتاج المهدر

هناك نوع أخر من العمل يتعين أخذه في الاعتبار عند دراسة رأسمالية القرنين العشرين والواحد والعشرين، وهو العمل الذي يذهب إلى إنتاج سلع تُباع مثلها مثل السلع الأخرى، لكنها لا تدخل مجددا في دورات الإنتاج اللاحقة، سواء كوسائل إنتاج أو كسلع يشتريها متلقو الأجور. ويقع العمل الذي يذهب إلى إنتاج سلع ترفيهية للطبقة الرأسمالية ضمن هذا التصنيف، مثله مثل العمل الي يذهب إلى إنتاج الأسلحة للجيش. وبالرغم من أن الماركسيين عادة ما يعتبرون هذه الأعمال “منتِجة”، إلا أنها تتشابه مع العمل غير المنتِج في كونها لا تضيف إلى التراكم الرأسمالي. ولهذه الأسباب طرح مايكل كيدرون في بداية السبعينياتأن أنواع العمل هذه يجب أن يُنظر إليها أيضا باعتبارها غير منتِجة:

أدى تقدم الرأسمالية في العمر… إلى ظهور فجوة بين معيارين من معايير الإنتاجية كان هو [أي ماركس ـ المؤلف] يستخدمهما باعتبارهما مترادفينـ هما تشغيل العمال بواسطة رأس المال وزيادة رأس المال… وحيث إن رأس المال قد أصبح الآن مسيطرا… لم يَعد المعياران متطابقين. ذلك أن هناك ملايين العمال الذين يعملون مباشرة لدى رأس المال، بغرض إنتاج سلع وخدمات لا يمكن استخدامها في تحقيق المزيد من التراكم تحت أي ظروف يمكن تصورها. ويُعتبر هؤلاء العمال منتجين وفقا لمعيار منهما، وغير منتجين وفقا للمعيار الآخر… وفي ظل الحاجة إلى اختيار أحد المعيارين، يجب تعريف العمل المنتِج اليوم باعتباره عملا يوضع ناتجه، أو يمكن أن يوضع، كمدخلات للمزيد من الإنتاج. ويمكن لهذا العمل وحده أن يساهم في التوسع الذاتي لرأس المال… ولتوضيح الأمر، فإنه في المراحل المتأخرة من الرأسمالية، يمكن استخدام جزء فقط من الفائض في توسُّع رأس المال، بينما يظل الباقي إنتاجا مهدرا.2

وفي وقت لاحق، اقترح ألان فريمان أيضا ضرورة توسيع مفهوم العمل غير المنتِج، كي يتضمن استخدام العمل من أجل إنتاج أشياء تُستخدم بعد ذلك بطريقة غير منتِجة. “يُعتبر العمال الذي يزينون بالرخام البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية غير منتجين، وهم لا يختلفون في ذلك عن الموظفين العاملين به.16وعلى النقيض من ذلك، يقول جوجلييلمو كارشيدي إن العمل يكون منتِجا إذا كان يخلق قيمة جديدة، حتى لو لم تسهم هذه القيمة بأي شكل في دورة التراكم اللاحقة.17وبغض النظر عن كيفية تصنيف العمل المهدر، فإن نسبة هذا العمل من وجهة نظر التراكم الرأسمالي قد أصبحت ضخمة. وقد قدَّر كيدرون أن “ثلاثة أخماس العمل الذي تم الاضطلاع به فعلا في الولايات المتحدة في السبعينيات كان هدرا من وجهة نظر رأس المال نفسه”.18

قطاع الدولة والعمل غير المنتِج

يمكن تفكيك مصروفات الرأسمالي الفرد التي لا تذهب إلى الاستثمار الرأسمالي أو إلى أجور العمال المنتجين إلى فئات مختلفة:
•المعنيون بفرض النظام على قوة العمل، وضمان أنها تعمل بأقصى سرعة ـ أي الإنفاق على الأمن الداخلي والمشرفين وقياس الوقت والحركة والتحقق من سرعات العمل.
•المعنيون بالحفاظ على ولاء قوة العمل، مثل الإنفاق على العلاقات العامة الداخلية، ونشرات العمل، ولجان العمل التي تديرها الإدارة، ودعم الفرق الرياضية في المنشأة.
•الذين يكرسون جهودهم للمعاملات المالية والحصول على الائتمان ورسوم البنوك، إلخ.
•الذين يكرسون جهودهم للمبيعات والإعلانات، إلخ.
•المعنيون بالحفاظ على قوة العمل في حالة صحية جيدة وقادرة على الإنتاج ـ الخدمات الطبية التي تقدمها الشركة، والمطاعم، إلخ، وفي بعض الأحيان يجري توفير سكن لقوة العمل.
•المعنيون بتدريب قوة العمل ـ ما يسميه الاقتصاديون عادة “رأس المال البشري”.
•الإنفاق على البحوث والتطوير.

تُعتبر المصروفات في فئتي أ وب غير منتجِة بشكل لا لبس فيه، حيث إنها لا تخلق شيئا، وكل ما يعنيها الحصول على الحد الأقصى من قيمة خلقها العمال بالفعل. ولا تُعد النفقات في فئتي ت وث منتجِة من وجهة نظر رأس المال عامة، حيث لا تقدم أية إضافة إلى قدرة النظام ككل على التراكم. لكن الشركات، كل على حدة، يمكن أن تعتبرها منتِجة، على غرار ما كتبه ماركس حول العمل المنتِج للتاجر الرأسمالي ـ بمعنى أن العاملين في هذين الفئتين يساهمون في السيطرة على فائض القيمة الذي كان سيذهب إلى الشركات المنافسة لولا الدور الذي يقومون به. ومن ثم، فإن الإنفاق على الإعلان، على سبيل المثال، يمكن أن يُنظر إليه من الشركة باعتباره يشبه الإنفاق على معدات جديدة، أي أنه وسيلة لتوسيع نفوذها في السوق وإحباط محاولات الشركات الرأسمالية الأخرى دخول السوق، وهلم جرا. ويمكن النظر إلى الإنفاق المماثل على الاختراعات وحماية براءات الاختراع كوسيلة لإحكام السيطرة على السوق (سوف أعود لاحقا لفئتي ج وخ).

أدى نمو الإنفاق الحكومي خلال القرن الماضي إلى اضطلاع الدول بمسؤولية جزئية عن العديد من هذه النفقات، بعد أن كانت تتولاها الشركات الخاصة التي تتخذ من التراب الوطني لهذه الدول مقرا لها. وبالتالي يمكن تفكيك الإنفاق الحكومي إلى فئات تلعب الدور نفسه أو تقوم بوظائف تناظر تلك التي تضطلع بها الشركات.

كما توجد نفقات غير منتِجة على نحو واضح، من حيث المساهمة في تحقيق التراكم عبر النظام ككل. وتتضمن هذه المعنيون بحماية الملكية، والحفاظ على الانضباط الاجتماعي، وضمان سلاسة عملية إعادة إنتاج العلاقات الطبقية، والحفاظ على الأشكال التي تديرها أو تمولها الدولة بغرض الإبقاء على الولاء الشعبي للنظام (مثل الدعاية التي تقوم بها الدولة والدعم الذي تقدمه للمؤسسات الدينية) والحفاظ على استمرار الأيديولوجيا المسيطرة عبر أقسام من النظام التعليمي، والحفاظ على البنية التحتية المالية للنظام عبر طبع العملات الوطنية وإدارة البنوك المركزية.

وإلى جانب أشكال الإنفاق هذه، هناك نفقات تفيد رؤوس الأموال الوطنية عند التنافس مع رؤوس الأموال الأجنبية، لكنها ـ مثلها مثل نفقات الشركات الفردية على الإعلان والتسويق ـ لا تضيف إلى التراكم ككل. وتشمل هذه الإنفاق العسكري، والإنفاق على مشروعات لترويج الصادرات، والمفاوضات مع الحكومات الأخرى حول قواعد التجارة الدولية والاستثمار، إلخ.

وكانت هذه هي النفقات غير المنتِجة التي أشار إليها ماركس عندما كتب يقول:

تبنى الاقتصاد السياسي في فترته الكلاسيكية، مثله مثل البرجوازية نفسها عندما كانت محدثة نعمة، نهجا ينتقد بقسوة أجهزة الدولة. لكنه في مرحلة لاحقة، أدرك وتعلم من التجربة أن ضرورة وجود مثل هذه الطبقات غير المنتجِة على الإطلاق تنبع من تنظيمها الخاص نفسه.19

وأصبح لهذا النمو في المصروفات غير المنتِجة أثر كبير في ديناميكية النظام بعد وفاة ماركس.

الناتج المهدَر وديناميكية النظام

ألمح ماركس إلى نقطة مهمة حول العمل غير المنتِج أثناء محاولته الأولى لكتابة مسودة رأس المال، الـGrundrisse. وأدرج بين “اللحظات” التي يمكنها تأجيل ارتفاع التركيب العضوي لرأس المال وانخفاض معدل الربح ما يلي:

تحويل جزء مهم من رأس المال إلى رأس مال ثابت لا يعمل كأداة للإنتاج المباشر؛ الهدر غير المنتِج لقسم كبير من الإنتاج، إلخ (دائما ما يجري إحلال رأس المال الموظف على نحو منتِج بطريقة مزدوجة، حيث إن وجود رأس المال المنتِج يفترض مسبقا قيمة مضادة). إن الاستهلاك غير المنتِج لرأس المال يحل محله من جانب، ويقضي عليه من جانب آخر… 20.

ويقول ماركس إنه لسبب ما، يضل جزء من فائض القيمة المتاح للاستثمار طريقه، متوجها نحو استخدامات أخرى، مما يقلل من حجم رأس المال المتاح لدى الشركات الراغبة في القيام بتجديدات تؤدي إلى تخفيض التكلفة، وهو ما يحد من الميل نحو الاستثمار كثيف رأس المال. وشرح مايك كيدرون هذه النقطة بطريقة أكثر وضوحا في الستينيات ـ ويبدو أنه لم يكن يعلم أن ماركس كان قد طرح هذه المسألة.21وأشار كيدرون إلى أن مقولة ماركس حول انخفاض معدل الربح:

قد ارتكزت إلى افتراضين، كلاهما واقعي: أولا، يتدفق كل الناتج عائدا إلى النظام كمدخلات إنتاجيةعن طريق الإنتاج الاستهلاكي للعمال أو للرأسماليين ـ من الناحية المثالية، لا تحدث تسربات في النظام، ولا يكون هناك بديل سوى تخصيص الناتج بأكمله بين ما نسميه في الوقت الحالي الاستثمار واستهلاك الطبقة العاملة؛ ثانيا، في نظام مغلق مثل هذا يتذبذب تخصيص الناتج هذا تدريجيا في صالح الاستثمار.

إذا أسقطنا الافتراض الأول الخاص بتدفق الناتج بأكمله عائدا إلى النظام، بمعنى آخر، إذا فُقد جزء من هذا الناتج أثناء دورة الإنتاج، فلن ينمو الاستثمار بمعدل أسرع من العمل المستخدَم. وهنا لن يعمل قانون انخفاض معدل الربح. ذلك أن فائض القيمة الذي “يتسرب” من الدورة المغلقة للإنتاج والاستثمار والإنتاج سوف يعوِّض ميل معدل الربح إلى الانخفاض.22

وكما أشار كيدرون في عمل لاحق:

وفقا لماركس، يفترض النموذج وجود نظام مغلق يتدفق فيه الناتج بأكمله، عائدا في شكل مدخلات في صورة سلع استثمارية أو سلع يشتريها متلقو الأجورـ بينما لا توجد تسربات. لكن مبدأ التسرب بوسعه أن يحمي الدافع الاضطراري للنمو من نتائجه الأكثر أهمية… في مثل هذه الحالة، لن يكون هناك تراجع في متوسط معدل الربح، ولن يوجد ما يدعو إلى توقع حدوث حالات ركود قاسية، إلخ.23

هذه مقولة لا يشوبها خطأ. ويمضي كيدرون قُدما مقترحا الشكل التي تتخذه هذه التسريبات:

من الناحية العملية، لم تشكل الرأسمالية نظاما مغلقا قط، لأن الحروب والركود كانا يدمران كميات ضخمة من الناتج، تتضمن تراكما هائلا للقيمة، وهو ما أعاق إنتاج المزيد منها. وقد أدت صادرات رأس المال إلى تغيير اتجاه، وأيضا تجميد، تراكمات أخرى لفترات طويلة.24

وكما رأينا في الفصل الرابع، كان هنريك جروسمان قد أدرك أن الإمبريالية عندما كانت تحوِّل فائض القيمة إلى الخارج، فإنها بذلك كانت تقلل مؤقتا من الضغوط التصاعدية على التركيب العضوي لرأس المال في الاقتصاد المحلي، وبالتالي تقلل من الميل نحو الأزمة. كما أن جروسمان سبق كيدرون، على الأقل جزئيا، في النقطة المتعلقة بأثر الإنفاق العسكري. فقد لاحظ أنه بينما تؤدي الحروب إلى إلحاق دمار هائل بالقيم الاستعمالية، فإنها تؤدي إلى تخفيف حدة التناقضات الاقتصادية الصرفة للرأسمالية لأنها “تدمر القيم” و”تبطئ من التراكم”. وعندما تقلل الحروب من ميل التراكم إلى الزيادة بسرعة تفوق سرعة زيادة قوة العمل المستخدَمة، فإنها بذلك تقاوم الانخفاض في معدل الربح:

يُعتبر الدمار وتخفيض القيم المرتبطان بالحرب وسيلة لدرء الانهيار الملازم [للرأسمالية]، وخلق فسحة للتنفس بالنسبة لتراكم رأس المال… إن الحروب ـ وما يصاحبها من تدمير لقيم رؤوس الأموال ـ تحد من انهيار [الرأسمالية] وتخلق بالضرورة قوة دافعة جديدة لتراكم رأس المال… تمثل سيطرة الروح الحربية مجالا من مجالات الاستهلاك غير المنتِج، حيث إنه بدلا من ادخار القيم، يجري تدميرها.25

يمثل الإنفاق العسكري شكلا خاصا من أشكال الهدر الذي يمكن أن يقبله الرأسماليون المنتمون لدولة ما، لأنه يعزز من قدرتهم على الصراع مع رأسماليي الدول الأخرى، من أجل السيطرة على فائض القيمة العالمي. ويُعتبر هذا الإنفاق مفيدا بالنسبة لمجموعات رأس المال المستندة إلى أساس قومي، مثله مثل الإعلان بالنسبة للشركات المفردة ـ بالرغم من أنه يؤدي إلى إهدار الموارد بالنسبة للنظام ككل. وبالتالي فهو ظاهرة مميزة للشكل الكلاسيكي للإمبريالية الذي أدى إلى الحرب العالمية الأولى ـ ومازال هذا الإنفاق موجودا إلى يومنا هذا في صورة إنفاق ضخم على التسليح في الولايات المتحدة بصورة خاصة.

ولم يفطن العديد من الاقتصاديين الماركسين إلى منطق التوسع الاقتصادي المستند إلى التسلح. فقد قالوا إنه من العبث اعتبار أن قيام الدولة بالاقتطاع من فائض القيمة الإجمالي يقاوم بطريقة أو أخرى ميل فائض القيمة للنمو بصورة أبطأ من نمو تكاليف الاستثمار الكلية، وبالتالي يتغلب على انخفاض معدل الربح. لعل ما عجَز هؤلاء عن فهمه هو أن هذه “العبثية” هي مجرد جزء من عبثية أعظم تخص النظام الرأسمالي ككل وطبيعته المتناقضة. ولم ير هؤلاء الاقتصاديون أن الانخراط في المنافسة العسكرية يمكن أن يكون هدفا رأسماليا “مشروعا”، مثله مثل الانخراط في المنافسة الاقتصادية من أجل السيطرة على الأسواق.

وكما رأينا في الفصل السابق، لم تستطع واحدة من أعظم أتباع ماركس، هي روزا لوكسمبورح، أن تفهم كيف يمكن أن تستمر الرأسمالية في زيادة القيمة المتضمَّنة في وسائل الإنتاج، بدون إنتاج المزيد من السلع من أجل الاستهلاك. وبالمثل، لم يستطع هؤلاء الماركسيون أن يفهموا كيف يمكن للرأسمالية أن تستفيد من الاستمرار في التوسع في إنتاج وسائل الدمار. وقد ظلوا مرتبكين للغاية إزاء لا عقلانية ما يفعله الرأسماليون، إلى حد جعلهم ينكرون أن هذه هي الطريقة التي يعمل النظام وفقا لها.

غير أنه نتج عن مثل هذه المصروفات آثار ضخمة بالنسبة للرأسمالية خلال الجزء الأخير من القرن العشرين. فقد لعبت المصروفات المهدرة دورا متناقضا، حيث قللت من مقدار فائض القيمة المتاح للاستثمار المنتِج، وبالتالي قاومت الميل نحو التراكم شديد السرعة والأزمة. لكن الأثر النهائي لإبطاء التراكم كان خلق سلسلة جديدة كاملة من المشكلات بالنسبة للنظام، كما سنرى في الفصل التاسع.

الرعاية الاجتماعية وعرض قوة العمل

لا يقع كل الإنفاق الحكومي المشار إليه في القائمة أعلاه في الفئة غير المنتِجة بتعريفها الضيق، أو في الفئة الأوسع من الهدر؛ ذلك أن عمليات البحوث والتطوير التي تمولها الدولة (وتوافقها فئة خ في القائمة أعلاه)، والتي تساهم في المساعدة في التراكم على مستوى الاقتصاد الأوسع، تقومبوظيفة واضحة بالنسبة للرأسماليين الذي يستفيدون منها، تشبه تلك التي يقوم بها العمل الميت المتضمَّن في وسائل الإنتاج. لكن ماذا عن الإنفاق على الصحة والتعليم وخدمات الرعاية الاجتماعية (التي تناظرها مصروفات ج وح في قائمة مصروفات الرأسمالي الفرد)؟ من الضروري هنا دراسة مسألة لم يناقشها ماركس إلا بصورة عابرة، هي إعادة إنتاج الطبقة العاملة التي تحتاج الرأسمالية إلى استغلالها.

لم يكن الرأسماليون الصناعيون الأوائل في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر في حاجة إلى القلق كثيرا حول مدى كفاية المعروض من قوة العمل، لأنها أصبحت متاحة بوفرة بمجرد أن ألقى “التراكم البدائي” بما يكفي من الفلاحين خارج الأرض. وقد أفترض هؤلاء أن بوسعهم إخضاع الفلاحين السابقين وأطفالهم للنظام كما لو أنهم آلات غير ماهرة26، بينما اعتمدوا على سحب الرجال الذين تدربوا كحرفيين إلى المصانع، كي يقوموا بالعمل الأكثر مهارة. ولهذه الأسباب، فقد تجاهل ماركس ـ الذي تناول على نحو مطول التراكم البدائي وطريقة التعامل مع العمال في المصانع ـ مشكلة حصول الرأسماليين على قوة العمل ذات المهارة والبنية الجسدية الجيدة. غير أنه عند وفاته، كان توسُّع الصناعة الرأسمالية لتشمل قطاعات إنتاجية جديدة تماما قد من جعل عرض وإدارة قوة العمل ـ خارج وداخل المصنع على حد سواء ـ مسألة تثير قلقا متزايدا بالنسبة لمن يريدون تعزيز التراكم الرأسمالي.

لقد كان هدف الرأسمالي الفرد هوأن يدفع للعامل الفرد في الساعة أو اليوم أو الأسبوع ما يكفي فقط لجعله صالحا للعمل ولديه دافعية للقيام به. لكن ذلك لم يكن كافيا لتلبية عدد من الأمور المهمة، إذا كان لقوة العملأن تتوفر لدى الطبقة الرأسمالية ككل بالعدد والجودة المناسبين مع مرور الوقت. كما أنه لم يأخذ في الاعتبار الحاجة إلى تعليم العمال المهارات الضرورية، ولا دعمهم في فترات البطالة، كي يصبحوا قادرين على تقديم قوة عملهم عند انتهاء الأزمة. ولم يتعامل مع مشكلة تعرُّض العمال للمرض أو الإصابة، وهو ما يفقدهم بصورة مؤقتة القدرة على الإنتاج الذي يجري استغلاله. وأخيرا، لم يقدم المطلوب لتربية أطفال الطبقة العاملة الذين سوف يصبحون الجيل التالي من قوة العمل.27

خلال القرن التاسع عشر، كانت هناك عدة محاولات ارتجالية للتعامل مع هذه المشكلات كل على حدة. فقد وفرت الصناديق التابعة للكنيسة والجمعيات الخيرية بعض الإغاثة للمتعطلين أو المرضى. وتم الضغط على نساء الطبقة العاملة كي يتحملن عبء تربية الأطفال، وذلك عن طريق الترويج للأفكار التي تتعامل مع الرجل باعتباره الطرف الذي يتلقى الأجر، وتعتبر ذلك الأجر “أجر الأسرة” (حتى لو كانت نساء الطبقة العاملة يعملن بدرجة ما، ولو كان أجر الرجل نادرا ما يكفي وحده لاستمرار الأسرة).28 وقد تُوفر بعض الشركات منازل تابعة لها ـ وخدمات صحية محدودة أحيانا ـ لقوة العمل لديها. كما قد تدير جماعات العمال المهرة صناديق يتم الإنفاق منها في فترات البطالة والمرض. وقد تُدخِل الشركات نظاما في المصانع يماثل نظام فترات التدريب على المهنة الذي كان سائدا لدى الحرفيين قبل الرأسمالية، حيث يتعلم الصغار الحرفة عبر العمل تحت إشراف العمال المهرة لخمس أو سبع سنوات بمرتبات دنيا.

ومع مرور الوقت، أصبح واضحا أن هذه الأساليب الارتجالية غير كافية، وأنه يتعين على الدولة الاضطلاع بالعديد من الأعمال التي يقوم بها رأسماليو القطاع الخاص والجمعيات الخيرية. وجاء تدخل الدولة في بريطانيا مبكرا، في عام 1834، عندما صدر قانون الفقراء، كي يضمن أن تكون أوضاع العامل الذي يحصل على إعانة فقر، في فترة البطالة أو العجز، شاقة جدا، إلى الحد الذي يجعل أي شخص قادر على العمل مضطرا للعمل مهما كان الأجر منخفضا. وفي عام 1848، أنشأت بريطانيا “مجلس الصحة” لمواجهة انتشار الأمراض في المناطق التي تقطنها الطبقة العاملة ـ وهو ما كان يؤثر على مناطق الأغنياء أيضا. وخلال العقود التالية، اقتنعت بريطانيا بتخفيض ساعات العمل بالنسبة للأطفال، ومنع النساء من القيام بمهن بعينها قد تضر بقدرتهن على إنجاب وتربية الجيل التالي. وفي سبعينيات القرن التاسع عشر، مضت قدما لتضع نظاما حكوميا للتعليم الأساسي، وتشجع على بناء المنازل للعمال المهرة. ثم في العقد الأول من القرن العشرين، اتخذت الخطوات الأولى من أجل التنسيق بين الإجراءات الارتجالية العديدة التي اتُخذت في السنوات السبعين السابقة، عبر دمجها في هياكل على المستوى القومي، كي تقدم الحد الأدنى من إعانات التأمين الاجتماعي ضد البطالة والشيخوخة والمرض.29ونشأت الحماسة للقيام بذلك من الصدمة التي حدثت أثناء التجنيد لحرب البوير، حيث اتضح أن عدد العمال الأصحاء بما يكفي كي يضطلعوا بالخدمة العسكرية قليل للغاية. ولخصت آن روجرز رد فعل الطبقات العليا والمتوسطة على النحو التالي:

ظل الاعتقاد بضرورة إحداث تغيير ـ إذا كان لبريطانيا أن تنجح في المنافسة مع ألمانيا والولايات المتحدة ـ محوريا. وركزت هذه المقولة، سواء كانت صادرة عن الفابيين أو الإمبرياليين في حزب الأحرار، على الضرر الذي يلحقه الفقر بالمجتمع، وليس على البؤس الذي يسببه للعمال الأفراد… كان السبب الكامن وراء الرغبة في تحسين الحالة الصحية للطبقة العاملة هو الحاجة إلى قوة عمل أفضل صحيا في المصانع والجيش.30

ولم تطبّق هذه الإجراءات لأن رجال الأعمال اجتمعوا واتخذوا قرارات عقلانية تخص النظام. بل إنها لم تأت إلا بعد حملات متكررة شارك فيهاأهل الإحسان المنتمونللطبقة العليا، ممن يحتقرون ـ انطلاقا من منظور محافظ ـ نزوع الرأسمالية القذر للاستيلاء على الأموال، وأبناء الطبقة الوسطى الداعين إلى تحلي سلوك الطبقة العاملة بالأخلاق، والسياسيين الانتهازيين الراغبين في الحصول على أصوات العمال، ومفتشي وأطباء المصانع الذين لديهم اهتمام مهني بسلامة البشر وسعادتهم ـ وإلى جانب هؤلاء، وفي استقلال عنهم، يأتي النشطاء الاشتراكيون والنقابات. لكن هذه التحالفات وضعت إطارا للمشاريع التي ترغب في تنفيذها استنادا إلى ما رأته عقلانيا بالنسبة للرأسمالية، أي استنادا إلى ماهية الأشياء الضرورية لإمداد الرأسمالية بقوة عاملة لديها القدرات الصحية والمهارات الكافية. وقد ظهر ذلك جليا من خلال سمة واحدة على الأقل من السمات التي ميزت إصلاحات أوائل القرن العشرين، مثلما ميزت الجهود الخيرية في أوائل القرن التاسع عشر. فقد كانت الإعانات تُقدّم دائما على نحو يجبر جميع العمال الصالحين للعمل والقادرين عليه على السعي إلى العمل. فقد كان يجب تطبيق مبدأ “الأهلية الأقل”: أي أن الحصول على الإعانات يجب أن يترك من يتلقونها في حال أسوأ من حال من يقوم بأدنى أنواع العمل المأجور. علاوة على ذلك، لم تكن الإعانات تأتي من تحويل جزء من رأس المال إلى العمل، بل عبر إعادة توزيع الدخل في سداخل الطبقة العاملة عن طريق “مبدأ التأمين”: أي أن العمال القادرين على العمل كانوا يدفعون مبالغ أسبوعية لدعم العمال غير القادرين عليه بسبب المرض أو البطالة.

وفي غضون القرن العشرين، تزايد دور الدولة فيما يخص توريد وتدريب وإعادة إنتاج قوة العمل، وبلغ ذروته أثناء الرواج الطويل اذي امتد من منتصف الأربعينيات إلى منتصف السبعينيات، واستمر في فتراتالأزمات التي تلت هذا الرواج. وخلال كل هذه الفترة، استمر تفصيل “دولة الرفاه” بما يلبي مصالح رؤوس الأموال الوطنية، حتى عندما جاءت القوة الدافعة لزيادة دور الدولة من أسفل، مثلما حدث أثناء الحرب العالمية الثانية، حينما قام السياسي البريطاني من حزب المحافظين كوينتين هوج بإعلانه الشهير: إذا لم تمنح الشعب إصلاحا اجتماعيا، فسوف يمنحك ثورة اجتماعية.”31وقال أنورين بيفان، السياسي البريطاني المنتمي لحزب العمال، والذي أصبح وزيرا في الأربعينيات، إن التدابير الصحية العامة أصبحت جزءا من النظام، “لكنها لم تنبع من النظام. فعندما تزعم الرأسمالية أنها صاحبة الفضل في هذه التدابير، فإنها بذلك تعرض بفخر ميداليات كسبتها في معارك خسرتها”.32لكنه في واقع الأمر، فإن من قاموا بصياغة هذه التدابير ـ ومن بينهم بيفان نفسه ـ فعل ذلك بطريقة يمكن أن تناسب احتياجات النظام.

وترتبت على ذلك نتائج مهمة بالنسبة لقوة العمل التي تذهب إلىتلبية هذه الخدمات ـ والبشر الذين يقدمونها. ويوجد ميل واسع النطاق لدى الماركسيين ـ إلى جانب البعض من غير الماركسيين33 ـ نحو التأكيد على أن هذا العمل لا يمكن اعتباره منتِجا لأنه لا ينتِج السلع على نحو مباشر. لكن ذلك ينطبق أيضا على الكثير من الأعمال داخل أية منشأة رأسمالية، والتيتكون مجرد شرط مسبق لأعمال أخرى تقوم بإنتاج المنتجات النهائية. وبالتالي، يُعتبر هذا العمل منتِجا بصفته جزءا من عمل “العامل الجماعي”34في المنشأة. ويمكن أن تكون إنتاجية النجار أو الذي يبني حوائط الطوب، المدرَب تدريبا كاملا، أضعاف إنتاجية نظرائهم من غير المهرة. كما يكون بوسع صانع الأدوات المدرَب تدريبا كاملا القيام بأعمال لا يستطيع أداءها العامل غير الماهر. إن العمل الذي يقوم به أولئك الذين دربوا العمال المهرة يضيف إلى قدرةالعامل الجماعيعلى إنتاج القيمة. كما أنه يجري استغلال هؤلاء المدربين، لأنهم يتلقون قيمة قوة عملهم، وليس قيمة التدريب الذي يقدمونه. وقد يثار جدلحول إلى أي مدى بالضبط تندرج المهارات التي يضيفها عملهم في الفئات التي وضعها ماركس. فهل تجب مساواتها بالمصنع أو المعدات وبالتالي اعتبارها شكلا من أشكال رأس المال الثابت، أم يجب اعتبارهامجرد زيادة في قوة العمل، أي رأسمال متغير؟35كما تجري مناقشات بين الشركات الفردية حول جدوى القيام ببرامج تدريبية، حيث إنها قد تحقق مكاسب في المدى القصير، لكن ما الذي يمنع الشركات الأخرى من “سرقة” العمل الماهر الذي لدى الشركةبدون حتى أن تدفع مقابل التدريب.36وأخيرا، هناك طروحات حول كيفية تصنيف العمل المستخدم في تدريب العمال الآخرين: هل هو عمل “منتِج” أم “غير منتِج”؟ لكن دوره في زيادة الناتج الكلي المحتمل والإنتاجية لا يجب أن يكون محل شك، حيث إنه جزء من العمل المنتِج الكلي للشركة وللنظام ككل.37

يلعب قسم كبير من العمل الذي يتوجه إلى النظام التعليمي دورا مثيلا في توفير المهارات التي يحتاجها رأس المال، بالرغم من أنه في هذه الحالة، لا تكون المهارات متاحة للرأسماليين كل على حدة فحسب، بل لجميع الرأسماليين الذين يعملون داخل الدولة التي توفر هذا النظام. إن التدريب على المهارات الذي يتلقاه عمال المستقبل من المدرس في مؤسسة تعليمية ما يضيف إلى كمية العمل الاجتماعي الضروري الذي بوسعهم إنتاجه في الساعة، مثله تماما مثل التدريب الذي قد يتلقونه داخل منشأة. وتمثل تكلفة التدريب جزءا من تكلفة توفير قوة العمل، مثلها مثل الأجر الذي يذهب إلى شراء الغذاء والملبس والمسكن الذي يحتاجه العامل. تحتاج المنشآت في ظل الرأسمالية الحديثة إلى قوة عمل لديها حد أدنى من مستوى معرفة القراءة والكتابة والحساب. ويجب اعتبار المدرسين الذين يقدمون هذه المعرفة جزءا من العامل الجماعي، لأنهم يعملون في نهاية المطاف لدى مجموعة من رؤوس الأموال الوطنية التي تخدمها الدولة. ويقر المدافعون عن الرأسمالية بهذه الحقيقة بدون قصد، عندما يشيرون إلى توفير التعليم باعتباره “يضيف إلى رأس المال الاجتماعي”، ويطالبون بقيام المدارس بتقديم “قيمة مضافة”.

وينطبق المبدأ العام نفسه على الخدمات الصحية المقدمة إلى العمال الحاليين أو المحتملين أو المستقبليين. وفي الحقيقة، يُعتبر الإنفاقمن أجل الإبقاء على القوة العاملة صالحة للعمل وقادرة عليه جزءا من الأجر، حتى لو دُفع عينيا وليس في صورة نقود، وحتى لو ذهب للعمال على نحو جماعي وليس فرديا. ووفقا لتعبيرات ماركس، يمثل ذلك جزءا من “رأس المال المتغير”. ويبدو ذلك واضحا تماما في بلدان مثل الولايات المتحدة، حيث تقدَّم الخدمات الصحية لمعظم العمال عن طريق برامج تأمين صحي يوفرها أصحاب العمل. كما يجب أن يكون ذلك واضحا بالدرجة نفسها في بلدان مثل بريطانيا، حينما تقوم الدولة بتوفير هذه الخدمات نيابة عن رؤوس الأموال الوطنية. يُعتبر لفظ “الأجر الاجتماعي” الشائع بمثابة وصف دقيق. ويكون دقيقا بالدرجة نفسها عند تطبيقه على إعانات البطالة المتاحة فقط لأولئك الذين يُظهرون أنهم قادرون على العمل وراغبون فيه، وعلى برامج المعاشات التي تعتمد على إنفاق العامل عمره في العمل. يريد الرأسمالي عمالا قانعين كي يستغلهم، مثلما يريد المزارع أبقارا قانعة. ولا يمكن أن نتوقع من العمال بذل الجهد بأي درجة من الانتماء للعمل، إلا إذا كان هناك وعد ما بأنهم لن يموتوا جوعا بمجرد بلوغهم سن المعاش. وعلى حد قول ماركس، هناك عنصر حتمي اجتماعي وتاريخي ونفسي أيضا، فيما يخص تكلفة إعادة إنتاج قوة العمل.

لكن قوة العمل ليست شيئا يماثل السلع الأخرى التي تتسم بالسلبية أثناء شرائها وبيعها، بل أنها تعبير حي عن مخلوقات بشرية. إن ما يبدو من وجهة نظر الرأسمالي “معافاة قوة العمل”، يبدو بالنسبة للعامل فرصة للاستجمام والاستمتاع والإبداع. وبالتالي فهناك صراع على الأجر الاجتماعي يشبه الصراع على الأجر العادي، حتى لو كان الإثنان، إلى حد ما، ضروريين لرأس المال.

ولعل ما يزيد المشكلة تعقيدا من وجهة نظر رأس المال هو أن الرعاية الاجتماعية التي يتم توفيرها ليست كلها منتجِة بأي معنى من المعاني. ذلك أن جزءا كبيرا منها يهتم فقط بالإبقاء على علاقات الاستغلال الراهنة. وتبين الدراسات حول تعليم أطفال الطبقة العاملة في المدارس في القرن التاسع عشر إلى أي حد كان ما يجري تقديمه لهم ليس تعليما على مهارات بقدر ما كان غرسا لقيم الانضباط واحترام السلطة بداخلهم.38 ولم تبدأ الرأسمالية البريطانية في التركيز على توفير المهارات الأساسية لقوة العمل إلا في وقت متأخر من القرن التاسع عشر.39 واليوم، تحاول تخصصات مثل الاقتصاد والاجتماع إعادة إنتاج الإيديولوجيا البرجوازية، بينما تهتم تخصصات أخرى، مثل المحاسبة، بالتوزيع غير المنتِج لفائض القيمة بين أعضاء الطبقة الرأسمالية.

وإذا كان رأس المال ليس لديه اختيار فيما يخص تحمُّل “مصاريف الإنتاج” غير المنتِجة، فهناك توجد عناصر أخرى في إنفاق الرعاية الاجتماعية يود لو يستطيع التخلص منها، ويبذل قصارى جهده من أجل خفضها إلى حدها الأدنى. وتذهب هذه النفقات إلى الذين لا يحتاجهم رأس المال كقوة عمل (المتعطلون لفترات طويلة ممن ليست لديهم المهارات المطلوبة) أو غير القادرين على تقديم قوة عملهم (ذوو الأمراض المزمنة والمعاقين). ويتبنى رأس المال النهج نفسه إزاء النفقات المقدَّمة إلى جموع المسنين، لكن الذي يقيده إلى حد ما هو الحاجة إلى إعطاء انطباع للعمال الحاليين بأن مستقبلهم آمن. وكان ماركس قد أشار إلى أنه يوجد إلى جانب “الجيش الاحتياطي من العمال” القادرين على دخول السوق كقوة عمل نشطة، حينما يشهد النظام توسعا دوريا (ويمارسون في الوقت نفسه ضغطا لأسفل على الأجور)، فائض من السكان ليس لرأس المال أيه مصلحة في وجوده، اللهم إلا مقاومة التمرد والحيلولة دون إضعاف معنويات الطبقة العاملة المشاركة في سوق العمل.

كان تاريخ تشريعات الرعاية الاجتماعية خلال الـ180 عاما الماضية تاريخا لمحاولات الفصل بين الإنفاق الضروري بالنسبة لرأس المال، الذي يتساوى في أهميته مع مدفوعات الأجور، وبين الإنفاق غير الضروري، المجبر عليه بفعل الحاجة إلى احتواء الاستياء الشعبي. وقد عبَّر ذلك عن نفسه في المجادلات المتكررة بين من يديرون رؤوس الأموال الوطنية فيما يخص كيفية التفاعل بين سياسات الرعاية الاجتماعية وبين سياسات سوق العمل، وبين اقتصاديي التيار السائد حول مستوى البطالة “الطبيعي” أو “غير التضخمي”، وبين المخصصين في الاجتماع ومنظري العمل الاجتماعي حول “الطبقات الدنيا”.

إن التفرقة بين الإنفاق الاجتماعي المنتِج بمعنى ما بالنسبة لرأس المال والإنفاق غير المنتِج تتقاطع مع بعض الطرق المعتادة في تقسيم الموازنة القومية. وبالتالي يكون التعليم بمثابة تدريب لأجل العمل المنتِج، وكذلك تدريب لأجل اشكال غير منتِجة من العمل (على سبيل المثال في حالة الترويج للمبيعات أو التمويل) إلى جانب غرس القيم الإيديولوجية البرجوازية. وتقوم الخدمات الصحية وإعانات البطالة بالإبقاء على قوة العمل في حالة صالحة للعمل ومستعدة له، كما أنها تمثل آليات للحفاظ على التماسك الاجتماعي عبر توفير الحد الأدنى من الخدمات للمسنين والعجزة والمتعطلين لفترات طويلة. وتصبح هذه الجوانب الملتبسة مهمة كلماوجد رأس المال أن تكاليف الخدمات التي تقدمها الدولة تبدأ في الاقتطاع من معدلات الربح.

وعند هذه النقطة، تقع الدول تحت الضغط نفسه الذي تخضع له رؤوس الأموال الكبيرة عندما تواجه منافسة مفاجئة ـ أي الضغط من أجل إعادة هيكلة وإعادة تنظيم عملياتها، كي تتوافق مع قانون القيمة. ويعني ذلك من ناحية محاولة فرض مقاييس للعمل وبرامج دفع على عمال قطاع الرعاية الاجتماعية تماثل نظيرتها الموجودة داخل الشركات الصناعية الأكثر تنافسية. ويعني من ناحية أخرى خفض إنفاق الرعاية الاجتماعية بغرض تقليصه إلى أقل درجة ممكنة، بحيث يخدم فقط قوة العمل الضرورية بالنسبة لتراكم رأس المال ـ والقيام بذلك بطريقة تجعل أولئك الذين يقدمون قوة العمل هذه على استعداد للقيام بذلك في مقابل الأجور التي تُعرض عليهم.

وتتزايد هذه الضغوط كلما تزايدت أهمية مسألة إدارة قوة العمل بالنسبة للدولة. وفي هذه العملية، فإن الموظفين الذين يعملون في قطاعات الرعاية الاجتماعية والصحة والتعليم، والذين كان بوسعهم في مرحلة ما من التطور الرأسمالي اعتبار أنفسهم جزءا من الطبقة الوسطى المهنية ـ في ظل أجور وظروف عمل تضاهي تلك التي يحصل عليها المحامون أو المحاسبون ـ أصبحوا يجدون أنفسهم خاضعين لعملية موجعة من التحول إلى بروليتاريا. ويضيف ذلك، كما سوف نرى، إلى المشكلات التي تزعج الدول القومية الرأسمالية عند محاولتها التغلب على الأزمات المفاجئة. وتصبح النفقات العامة بؤرة مركزية للصراع الطبقى بصورة لم تكن موجودة في عصر ماركس.

الهوامش:
1.See Marx’s comments on Smith in this regard in Karl Marx, Theories of Surplus Value, Volume One (Moscow, nd), pp170 and 291.
2.“Productive and unproductive labour is here throughout conceived from the standpoint of the possessor of money, from the standpoint of the capitalist, not from that of the workman”, as above, p155.
3.As above, p156.
4.Marx, Capital, Volume One, p192.
5.Guglielmo Carchedi, Frontiers of Political Economy, p40.
6.According to Enrique Dussel, Marx’s argument in his notebooks is that “unproductive labour” will, “with only minor xceptions, only perform personal services”. Enrique Dussel, Towards An Unknown Marx (Routledge, 2001), p69.
7.Marx, Theories of Surplus Value, Volume One, p170.
8.Marx, Capital, Volume Three, p293.
9.Jacques Bidet, Exploring Marx’s Capital (Leiden, Brill, 2007), pp104-121.
10.Marx, Capital, Volume Three, p296.
11.Marx, Capital, Volume Two, p137.
12.See Table F.1, in Anwar Shaikh and E A Tonak, Measuring the Wealth of Nations (Cambridge, 1994), pp298-303.
13.Fred Moseley, The Falling Rate of Profit in the Post War United States Economy, p126.
14.Simon Mohun, “Distributive Shares in the US Economy, 1964- 2001”, Cambridge Journal of Economics, 30:3 (2006), Figure 6.
15.Michael Kidron, “Waste: US 1970”, in Capitalism and Theory, pp37-39.
16.Alan Freeman, “The Indeterminacy of Price-Value Correlations: A Comment on Papers by Simon Mohun and Anwar Shaikh”, available at http://mpra.ub.unimuenchen.
17.Guglilmo Carchedi, Frontiers of Political Economy, pp83-84.
18.Michael Kidron, ‘Waste: US 1970”, p56.
19.Marx, Theories of Surplus Value, Volume One, p170.
20.Karl Marx, Grundrisse, pp750-751.
21.The Grundrisse was not published in English until 1973.
22.Michael Kidron, “International Capitalism”, International Socialism 20 (first series, 1965), p10, available at http://www. marxists.org/archive/kidron/works/1965/xx/intercap.htm. Carchedi recognises the different effect of production of nonreproductive goods (which he calls “non-basic”, using the terminology of the Ricardians he is criticising) on the dynamic of accumulation without explicitly drawing Kidron’s conclusion about the rate of profit. “Non-basics cannot”, he writes, “be the transmission belt through which value changes in the previous production process are carried into the next one”—G Carchedi, Frontiers of Political Economy, p83.
23.Michael Kidron, Capitalism and Theory, p16.
24.Michael Kidron, “Capitalism: the Latest Stage”, in Nigel Harris and John Palmer, World Crisis (London, Hutchinson, 1971), reprinted in Capitalism and Theory, pp16-17. For a longer exposition of this insight which takes up criticisms from Ernest Mandel, see my Explaining the Crisis, pp39-40 and 159-160.
25.Henryk Grossman, The Law of Accumulation, pp157-158. T S Ashton, The Industrial Revolution (London, Oxford University Press, 1948), pp112- 113. They did then have to enforce on them their own discipline of work, timed by the clock. See E P
26.Thompson, “Time and Work- Discipline”, in Customs in Common (London, Penguin, 1993 pp370-400
27.For a development of this argument with historical references, see Suzanne de Brunhoff, The State, Capital and Economic Policy (London, Pluto, 1978), pp10-19.
28.See Lindsey German, Sex, Class and Socialism (London, Bookmarks, 1989), pp33-36.
29.T H Marshall, Social Policy (London, Hutchinson, 1968), pp46-59.
30.Ann Rogers, “Back to the Workhouse”, International Socialism 59 (1993), p11.
31.Hansard, Parliamentary Debates, 17th February, 1943, Col 1818.
32.Quoted in T H Marshall, Social Policy, p17.
33.Notoriously, the attack on public sector employment in Robert Bacon and Walter Eltis, Britain’s Economic Problem: Too Few Producers (New York, St Martin’s, 1976).
34.Marx’s term in Capital, Volume One, p349.
35.If they are counted as part of constant capital, this is a peculiar form of constant capital that can walk away from the firm and work elsewhere, and in some interpretations this leads to the view of skilled workers as in some way possessors of their own “human capital” and a part of their wages is viewed as a “return” on this capital. It should be added, however, that disputes over this question can be in danger of turning into pure scholasticism, since in any case the costs of training add to the investment costs of a firm. At the same time, insofar as training is generalised across the system as a whole, it increases average labour productivity and so serves to reduce the value in terms of socially necessary labour of each unit of output—and in doing so reduces the gains accruing to the individual capitalist from undertaking the training.
36.The “free rider” problem: see, for individual capitalist from undertaking the training. The “free rider” problem: see, for instance, Mary O’Mahony, “Employment, Education and Human Capital”, in R Floud and P Johnson, The Cambridge Economic History of Modern Britain, Volume Three (Cambridge, 2004).
37.Assuming the labour they train is going to end up as productive labour.
38.See Richard Johnson, “Notes on the Schooling of the English Working Class 1780-1850”, in Roger Dale and others (eds), Schooling and Capitalism (London, Routledge & Kegan Paul, 1976), pp44-54. See also Seven Shapin and Barry Barnes, Science, Education and Control”, in the same volume, pp55-66.
39.For a full account of developments in the major industrial countries of the time, see Chris McGuffie, Working in Metal (London, Merlin, 1985).