وجود بلا غاية-نحو فهم الحياة والإنسان والوجود


سامى لبيب
الحوار المتمدن - العدد: 5438 - 2017 / 2 / 20 - 19:24
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

- نحو فهم الحياة والإنسان والوجود (61) .
- تأملات وخواطر إلحادية – جزء واحد وعشرون .

خضت فى مقال سابق عن الغاية والغائية لأعتبرها وهم إنسانى , لذا أرى من الأهمية بمكان فتح هذا الملف ثانية والإستفاضة فى الغائية وإثبات وهمها .
أتصور أن حسم فكرة الغاية واللاغاية ستغنينا عن التطرق لأمور كثيرة تُشاع وتجد لغط ومغالطات كبيرة ليدار حولها جدل شديد كالسببية والتصميم والحجة الكونية والإرادة والمشيئة ألخ .
عندما نتطرق للغاية ونفهم ماهيتها ونثبت وهمها فلن يكون هناك داع للإستشهاد بالسببية , وللدقة سنصل إلى أهمية أن يكون السبب من ذاك المُسبب المادى حصراً وتحديداً لذا فلسنا فى حاجة إلى فكرة الإله لتقفز وتقتحم السبب عنوة وتعسفاً بغية خلق غاية , وللدقة سنصل فى أفضل الأحوال إلى فكر الألوهيين إذا كان من الأهمية الإعتقاد بوجود إله .
عندما نثبت وهم غاية الحياة والطبيعة والوجود ونحسم موقفنا من الغاية فلا داعى للكلام الممل عن التصميم والإعجاز فليس هناك غاية تُصمم وتَصنع وتُبدع فليس هناك صاحب غاية حتى يتحقق هذا , فالأمور يمكن تفسيرها طبيعياً بدون غائية , كذا ستنتفى الإرادة والمشيئة عندما ندرك أن الفعل المادى يتم وفق ماهيته الحركية والتفاعلية فلا يحتاج لمٌرتب ومُريد .. عندما نثبت وهم الغاية ستتأكد رؤيتى فى وهم الحرية فى كافة فرضياتها الإنسانية والميتافزيقية .

- أرى أن سر الفهم المغلوط للحياة والوجود هو تعاطينا مع فكرة الغائية لتكون منهجية تفكير رافقت الإنسان القديم حتى المعاصر , لذا فتبديد وهم الغائية سيُجهز على فكرة الآلهة والأديان ويدق المسمار الأخير فى نعشها , فمن فكرة ومنهجية الغائية خلقنا الإله وتسربت رؤى ومصالح الأقوياء والنخب فى السيادة والهيمنة من خلال المعتقدات والأديان فهكذا هى غايات الآلهة كما يزعمون .
لقد حولنا مظاهر الحياة الطبيعية إلى غايات الآلهة ومراميها فى سياق إسقاط الإنسان ذاته على الطبيعة مما أدى إلى مفاهيم مَغلوطة فى التعاطى مع الحياة والوجود مازالت سائدة للأسف فى الفكر الدينى حتى الآن .

- يقولون أن الصدفة لا تنشئ نظاماً وإبداعاً لأرى ان مقولة الصدفة هنا تعبير خاطئ لا علاقة لها بفكرة وقصد هذا القائل .. هى مقولة شائعة على لسان المؤمنين لتجد حضوراً على لسان الملحدين , فلا يوجد شئ إسمه صدفة فيستحيل أن يتطابق مشهد وجودى مع مشهد آخر بحكم التطور وبحكم أن الماء يستحيل أن يمر فى النهر مرتان , لذا أقول أن القائل بالصدفة يعنى أن اللاغائية لا تصنع إبداع ومن هنا نضع النقط على الحروف وندرك أهمية التعاطى مع مفهوم الغاية حصراً .. ولنرى هل الطبيعة تصنع فعلها بغائية أم لا ؟!.

- المشكلة اللاعقلانية من أطروحة غائية الإله أنك لابد أن تعتبر الأشياء نفسها ذات غائية أى فعل وحراك عاقل للذرة والجزئ والخلية والنبات والحيوان فهى تحمل غائية وهدف محدد .. فهل يقبل أحد يتحلى بأى فكر عقلانى فكرة تفاعل عنصر الحديد مع الاكسجين بغية أن الحديد يريد الصدأ .!

- لن يكون مدخلنا لتبديد وهم الغائية أن نخترقها من قلعتها الميتافزيقية المتهالكة بالقول أن وجود الغاية لدى الإله يعنى وقوعه تحت الحاجة والإحتياج والرغبة مما يبدد كماله وألوهيته علاوة أن كثير من الغايات الإلهية تنبئ أنه شرير أو ذو أفعال تبدو متناقضة وعبثية , لننصرف عن هذا ليكون تبديدنا لوهم الغاية من التناول العقلى العلمى المنطقى .

- الغاية تعنى تقديم الإرادة على الفعل لذا عندما نقول أن الأرض تفيض بالخير أو البراكين أو حتى مقولاتنا العلمية الحديثة كالإنتخاب الطبيعى فهذا يعنى أننا نفترض أن الطبيعة تقذف بمشاهدها بوعى وتنتقى بإرادة وعقل , وهذا قول مهترئ شديد التهافت , فالطبيعة مادة ليس لها عقل ولا فكر ولا إرادة .

- الغاية نظرة بشرية مستقبلية وقدرة على التنبؤ المستقبلى تأمل فى التحقق , فإستباق الحاضر لا يتم إلا عقلياً فكرياً , لذلك الغائية مرتبطة بالتفكير الواعى وحالة تخيلية إفتراضية لذا من الهراء القول بأن الطبيعة ذات غاية فهى لا تفكر ولا ترتب ولا تنظم وليس لديها آمال وخطط تبغى تحقيقها وتجاهد فى سبيلها بل تخضع لحتمية علاقاتها المادية .

- الغائية مبنية على السَببية , وهنا ليس لدينا إشكالية التعاطى مع منطق السببية فى ذاته بالرغم مما يؤخذ عليه ليكون توقفنا أمام من يعطى السَبب لغير مُسببه وهذا هو الخلاف بين الفكر الإلحادى والإيمانى كون الأخير يضع سببية مُفترضة للأشياء ليست منه بينما الإلحاد والعلم يعتنى أن يكون السَبب من ذاك المُسبب المادى .

- من العبث القول أن للطبيعة غرضاً وهدفاً بالمعنى الإنساني لهذه الكلمة , لأن كل من يقول بوجود هدف معين فهو يفكر في وجود نموذج سابق يستقى منه رؤيته ويطلب تحقيقه بينما تكوينات النموذج السابق واللاحق هو فكر عقلى بشرى فى النهاية بكل مراحله وفقا لظرفه الموضوعى , فما هى علاقة الطبيعة هنا بنماذج الإنسان , وهل لها نماذجها ؟!

- الغاية من المفاهيم التى إختلقها الإنسان ثم نسى أنه من خلقها فلا وجود يحتوى على غاية بل نحن من نمنحه الغاية , فالمشهد الحياتى والوجودى بدون غاية فى ذاته .. لنتوهم بسذاجة أن الاشياء ذات غاية , فالشجرة تقدم لنا الغذاء فتصبح ذات معنى بالنسبة لنا ثم نقفز لنتوهم أن ورائها صاحب غاية يتولى إطعامنا ويُسخر الموجودات لنا لنخلق الجدوى ! .. الشجرة متواجدة قبل حضور الإنسان بملايين السنين تنتج ثمارها فكون حيوان أو إنسان يتطفل عليها ويقتات منها فى وقت لاحق فلا ترتيب ولا غاية فى ذلك , ليجرب الإنسان أن يأكل تحت رغبة الحاجة فإستحسن طعامها فإعتبر بتعسف وغرور إنها تواجدت خصيصاً من أجله ولم يلحظ أن هناك أشجار يستقبح إنتاجها .. كما أن هذه الأشجار كانت قبل وجوده بملايين السنين فلمن تقدم وظيفتها وإنتاجها .؟!!

- الفرق الجوهرى بين تفكيرنا والحالة الوجودية للجماد والكائنات الحية الأخرى إننا نفكر ونتعامل مع الوجود بطريقة مختلفة عن باقي الموجودات كوننا نستخدم البنيات الفكرية السببية والتنبؤية كما نستبق المستقبل في التعامل مع الخيارات , فمن هذا التمايز نتميز عن باقي البنيات الوجودية الأخرى , لنتعامل مع الخيارات في زمن ماض وحاضر ومستقبل , أما باقي البنيات الجامدة والحية فهى تحت الطبيعية المتاحة مع إنعدام إدراكها بالزمن أو كجزء من زمن ماضي لتتفاعل مع لحظة آنية فقط , فلا تستطيع القفز من الحاضر إلى المستقبل في تعاملها مع الخيارات لتعيش فى إطار حالتها المادية والبيولوجية الآنية .

- التخطيط الفكري هو ترتيب الصور المادية يرافقها السببية الفكرية وهو ما يميز تفكيرنا عن باقي بنيات الوجود , فنحن فقط من نستطيع أن نختار الخيار الأنسب من بين مجموعة خيارات متاحة لنا وذلك بفرزها وإنتقاء أفضلها وفقاً لنفعيتها وإن كان هذا الخيار لا يتم بإستقلالية تامة كما نتصور بل تحت تأثير القوى المادية الموضوعية المؤثرة وهذا ما تناولناه سابقا فى بحث "وهم الحرية" , لذا توهم الإنسان بوجود غاية فى مشاهد الطبيعة ليسقط أداءه ومنهجية تفكيره على الطبيعة ليمنحها سلوكه ورؤيته هو أداء فكرى خاطئ ومن هنا جاءت فكرة الآلهة والأوثان وعبادة الطبيعة .

- منشأ فكرة الغائية جاء من لجوء الانسان الى إسقاط السلوك البشرى الهادف على الكون كله مستعيراً منهجية سلوكه الهادف بإسقاطه على الطبيعة وقد طبع هذا على الفكر الانسانى منذ زمن سحيق لينتج الأسطورة واللاهوت والميتافزيقا , بل للأسف تعدى هذا إلى العلم ذاته ليقرأ أصحاب اللاهوت والميتافزيقا العلم بنزعة غائية وسنذكر لاحقاً أمثلة على هذا النهج فى ظل عدم إعتناء العلم بدحض هذه الرؤية كونها رؤية صوفية .

- نستطيع أن نفهم لماذا لجأ الإنسان منذ أن وطأت قدمه الأرض إلى فكرة الغائية كمنهج تفكير , فالإنسان كائن نفعى يبحث عن منفعته الخاصة للحفاظ على وجوده وهو فى هذا لا يختلف عن أى كائن بيولوجى لتتخلق فى داخله أهداف وخطط تبحث عن التحقيق فى ظل غموض الوجود وقسوة الطبيعة , إضافة إلى جهله بالعلاقات بين الأشياء , مع إدراكه أن هناك لحظة مستقبلية قادمة تحمل الغموض والتوجس والأمل ليبحث فى ظل هذا الخضم عن علل ومخططات مأمولة ومن هنا جاءت غاية الآلهة ,ولكن هذا الفهم عندما يتناول الطبيعة يكون خاطئاً كونه يفسر الظواهر الطبيعية كصاحبة منفعة وإنفعالات ورؤية إنسانية بينما المادة لا تستجيب لرؤى آملة متوهمة أو إنفعالات أو حالة نفسية مزاجية .

- الغاية نتاج وعى أدرك الوجود واللحظة الماضية والمستقبلية , فإدراكنا الواعى باللحظات التى مرت بنا ويقيننا أن هناك لحظات مستقبلية سنمر بها خلق فكرة الغاية فى الداخل الإنسانى لنسبب الأسباب ونخلق المُسببات حتى ولو بتهور لتأتى إشكالية فهمنا للوجود من كوننا نقحم عليه غاية ليست منه ومن هنا أنتجنا أفكار ومعتقدات وخرافات فى ظل هذه المنهجية الباحثة عن غاية فى وجود بلا غاية .

- العلة الغائية حالة من الإغتراب الفكرى عن الوجود المادى يحركها البحث عن المنفعة , فالإغتراب الفكرى نتاج عجز وفهم خاطئ للعلل والوجود لتنتج حالة إغترابية تؤدي إلى قطع العلاقات بين الأشياء حتى يعتاد الإنسان وضع العلة مكان النتيجة والفرضية مكان السبب .!
عندما يغترب الإنسان أي عندما يبحث عن العلل بدون أن ينجح في بحثه نتيجة إفتقاره للمعرفة مع تشبثه بمحاولة فهم الوجود بمنظور الأنا الذاتية سينتهي به الحال إلى تفسير الظواهر الطبيعية التي تخضع للحتمية بتفسيرها إنطباعياً غائياً حسب ما يشعر به ووفق ما يريد فهمه ليسقط هذا النهج الفكرى المقلوب على الظواهر الطبيعية , فيقول أن الأشياء تَواجدت وخُلقت لهذه الغاية والوظيفة فينزلق في التفسير الغائي بشكل لا شعوري ويصل به الحال إلى النرجسية متوهماً أن وجود الكائنات الحية جاءت من أجل سواد عيونه وليبلغ به الشطط والتخريف حداً ليتوهم أن غاية الكائنات والوجود المادى الجامد هو السجود والتمجيد والتسبيح للإله وبالطبع لن ننحدر فى بحثنا الذى يبغى تفنيد وهم الغائية بتناول هكذا صور خرافية وهلوسات .!

- من هنا إزدهرت الأفكار الغائية المتمثلة فى الأسطورة والتى ترجع سبب الخلق الى رغبات الآلهة فى إثبات وجودها وهيمنتها , ليروج الدين لهذه الفكرة بغية تحقيق رؤى النخب والاقوياء , فالإنسان من خلال فكرة الإله لديه رغبة ومنظومة مجتمعية وأخلاقية محددة تطلب التنفيذ تتمثل فى أسياد وعبيد فكما هناك سيد فى السماء وعبيد على الأرض فهكذا هناك أسياد وعبيد فى الأرض لتشرعن وتقنن فكر السادة , علاوة على تجذير فكرة السيادة والهيمنة الذكورية كرغبة إلهية كما فى المعتقدات الحديثة وليسبق كل هذا تابو الملكية فلا إقتراب من أرزاق بل الإنزعاج الشديد من السرقة والزنا كإعتداء وتبديد لتلك الثروات ..أى أن الغائية فكرة إنسانية أنتجت فكرة الإله فى سياق نهج فكرى لتظهر فجاجتها فى الأديان عندما يعلن الأقوياء عن غاياتهم ومصالحهم بشكل فج , أى أن الأديان توظيف عملى للغائية لصياغة المجتمعات وفق نظام ومصالح النخب .

- لا يجرؤ دعاة الغائية الإعلان عن فكرة الغاية عند التعاطى مع الوجود الفيزيائى بالقول مثلاً أن غاية الاكسجين هو صدأ الحديد كذا غاية الرياح إسقاط الأمطار فسيكون كلامهم مهترئ عابث , فالوعى السائد عن المادة أنها غير واعية بينما السلوك الهادف صفة الوعى وبالتالى لا يمكن أن تكون الطبيعة هادفة علاوة أن المادة ذات سلوك حتمى لا يحيد عن الخط الحتمى المعروف إلا تحت تأثير سبب خارجى مادى طبيعى أيضا .

- من هذا الفهم الخاطئ للوجود المادى يصيغ أصحاب الميتافزيقا القوانين الفيزيائية بصيغة غائية تتناسى الحتمية المادية والفعل المادى الغير واعى , ليتردد القول أن الحامض يتحد بمركب قلوى من أجل تكوين الملح وهذا قول خاطئ فكأنما هناك إرادة وغائية للحامض لإنتاج الملح , لذا صوابه القول أنه في حالة تفاعل حامض مع قلوى ينتج ملح , فالعلم يرصد حالة مادية لا يضيف إليها رأى ووجهة نظر أو شيئا من خارجها بينما يسقط الميتافزيقون الغائية بالباراشوت وبتعسف بدون إثبات وبشكل مهترئ كونهم يريدون إرساء منهجية تفكير ساذجة مغتربة باحثة عن إسقاط الأنا لإثبات فعل غائية مجهولة .

- إن القانون الفيزيائى للغازات القائل : " أنه عند ثبوت درجة الحرارة يزداد الضغط بصغر الحجم بحيث يكون حاصل ضربهما ثابت " هو قانون حتمى فمن السخافة صياغته غائيا بالقول : " يحاول الغاز زيادة ضغطه إذا قل حجمه والعكس من أجل ابقاء حاصل ضربهما ثابتاً عند ثبوت درجة الحرارة " . فهنا تم وضع فعل إرادى إختيارى ذو غاية للغاز , بينما الغاز مادة غير واعية تسلك وفق سلوكها المادى فحسب ليقودنا هذا إلى إستعراض أراجوزاى وصل به الحال أن يجعل للغاز إرادة وتخطيط .!

- نستطيع تفسير سقوط الأجسام نحو الأرض , وتفسير كيف يشكل النهر مجراه وكيف ينحت موج البحر والرياح الجبال ألخ , دون أن نعتمد على تخطيط فكري غائى مُسبق وذلك بالإعتماد فقط على العناصر الموجودة والآليات الفيزيائية والكيميائية التي تؤثر وتتفاعل , أما فى حالة الجهل وتصاعد الأنا والنزعة النرجسية والإغتراب الفكرى فستنطلق ميتافزيقا الغاية لتدلو بدلوها وتسرد لنا قصص طريفة ساذجة .

- العلم حتمي فإما أن يكون كذلك أو لا يكون علم , لتظهر الحتمية بجلاء فى عالم الفيزياء حيث الأحداث التي نلاحظها في الحاضر أو المستقبل مربوطة بمعارفنا عن قوانين الطبيعة مما يسمح لنا معرفة مسبقة وبصورة دقيقة ومنضبطة للظاهرة أو ماسيحدث في أوقات لاحقة هذا فى حال معرفتنا الكاملة بالحالة الفيزيائية لذا لا معنى على الاطلاق لمقولة الغائية .

- العلماء والفلاسفة يعتبرون الحتمية سائدة غير مشكوك فى صحتها وتحقق فهم حقيقي لعالمنا المادى , فالتعامل مع الوضع الراهن للكون كأنه أثر ناتج عن حالته السابقة وهو السبب الذي يتأتى منه حالته اللاحقة .

- العقل أدرك القوانين العلمية من رصد لسلوك المادة بعد وعيه بشكل قوى الطبيعة المحركة للظواهر والمتحكمة فيها فلا شيء يستطيع أن يخرج عنها , كما أن المستقبل كما الماضي كما الحاضر في عيون العلم والوجود المادى , وعليه لا يكون أى معنى للغاية فى ظل حتمية مادية , فالأمور تسير فى إتجاه علاقات مادية فحسب , فحالة تفاعل حامض مع قلوى سينتج ملح حتماً ليصبح من العبث القول أن الحامض يتحد بمركب قلوى من أجل تكوين ملح أو أن الشمس تسقط أشعتها على الأرض لتجلب الدفء أو لتكوين فيتامين d فى أجسادنا وهذا يقربنا من مفهوم العشوائية التى تعنى فى رؤيتى إنعدام الغاية الموجهة , فسقوط الشمس على الأرض جلب الحرارة كحالة مادية وجودية غير هادفة .

- المرتع الخصب لأدعياء الغائية تكون فى البيولوجيا ولا يكون هذا إتكاءاً على منطق أو علم يقدمونه بل لكون البيولوجيا شديدة التعقيد والغموض وعصية على الفهم وتحتاج لجهد جهيد وأبحاث كثيفة عميقة لإدراك عمق وجذور وقدم الظواهر البيولوجية لذا تجد الأسئلة تندفع فى السؤال عن كيفية تكوين الخلية الحية والعين والبروتين وهكذا .
يظهر بعض اللاهوتيون بثوب يتمسح بالعلم كأصحاب نظرية التصميم الذكى الذين لا يقدمون أى رؤية علمية بل أسئلة ودهشة وغموض وأفواه مفتوحة تنثر ملاحظات كثيرة عن التعقيد فى الحياة لنقول كان حرىّ بهؤلاء الذين يسألون أسئلة حائرة أن يقدموا نظريتهم وفهمهم ويشرحوا لنا شرحاً دقيقاً بخطوات كيف تكون البروتين والخلية الحية والعين بواسطة فاعل غائى , ولكن ستجد بالفعل إفلاس وفشل تام فثقافتهم ظنية تلفيقية لا تعدو قصة الخلق الطينية الخرافية لتكون وسيلتهم اللعب على جهل الإنسان وإبهاره بالتعقيد .

- يحير البعض ظهور وسائل دفاعية للحيوانات كوجود مخالب وأنياب للحيوانات أو تلون الحرباء باللون الأخضر أو نمو أشواك للقنفذ كوسيلة حماية لتبدو هذه الأمور ذات منحى غائى لجهلنا بآلية تطور وظهور هذه المشاهد , ومن هنا تجد الغائية مكاناً وسط العقول الميتافزيقية لتمرر مقولة أن وظيفة العضو سابقة للعضو وأن هناك صانع ذو غاية .

- القول بأن وظيفة الجلد حماية الأنسجة الداخلية من عوامل الوسط الخارجى هو مفهوم غائى مهترئ كأن الجلد موجه لوظيفة وهدف بينما يمكن القول أن وجود الجلد بين الوسط الخارجى والأنسجة الداخلية تسبب فى عزل عوامل الوسط الخارجى عن الأنسجة كحال استخدامنا للمواد العازلة للرطوبة والحرارة والصوت فى البناء فلا يمكن القول أن هذه المواد وظيفتها العزل بل حال وجودها تقوم بعزل الرطوبة والحرارة فهكذا طبيعتها الفيزيائية الكيميائية .

- القول أن وظيفة خلايا الدم البيضاء حماية الجسم من العدوى قول غائى خاطئ وكأن خلايا الدم البيضاء موجهة وذات فعل إرادى لأداء هذه الوظيفة بينما يقول العلم أن وجود خلايا الدم البيضاء فى تركيز معين يقلل من فرصة غزو البكتريا للأنسجة وبدء العدوى , فهكذا تفاعلات نتج منها حالة معينة كحال مثال الملح لنمنحها نحن المعنى ولنتهور بخلق وهم الوظيفة والغاية .

- قانون ستارلنج الفسيولوجى الذى يتم صياغته غائياً بالقول كلما ازدادت كمية الراجع الدموى الوريدى تمددت عضلة القلب لتدفع بكمية أكبر من الخارج الدموى الشريانى ولكن نفس القانون يمكن التعبير عنه حتمياً كالآتى دون تغير مضمونه : يؤدى إزدياد كمية الراجع الدموى الوريدى الى تمدد عضلة القلب وبالتالى الى إزدياد كمية الخارج الدموى الشريانى , وهنا نحن وصفنا المشهد بدون إقحام تفسير ليس فيه .

- عندما يقال أن وظيفة الكلوروفيل فى النبات تصنيع النشا يكون هذا القول قولاً غائياً منح الكلورفيل فعلا إرادياً وظيفياً بينما القول أن النشا يتكون حال وجود الكلوروفيل قول حتمى يرصد الحالة بدون إدخال فرضيات ليست فيه كالقول السابق أن الحامض يتحد بمركب قلوى من أجل تكوين ملح فكلمة (من أجل) هذه تفتح الباب أمام الغائية بينما الأمور بالنسبة للكلورفيل والملح غير موجهة بل تفاعلات طبيعية أنتجت مواد إستطعنا أن نميزها ونعطى لها معنى .

- الإنسان منذ البدء لم يتناول طعامه مدركاً فائدته البيولوجية بل لإشباع جوعه فقط فهو لم يدرك الأطعمة التى تحتوى على بروتينات لبناء جسده أو المواد الكربوهيداتية والسكرية لإمداده بالطاقة أو فائدة الفيتامينات فكل هذا لم يدركها إلا لاحقاً من الملاحظة لذا من السخف القول أن هذه المواد تواجدت لإفادة الجسد , فهى تؤثر كيميائيا على الجسم على هذا النحو الغير هادف كحال تأثير المواد المخدرة , هذا إلا إذا كانت الطبيعة تريد أن تخدرنا .

- إعتبار الظواهر الطبيعية واقعة تحت تأثير غائية يأخذنا الى فرض غير مقبول عقلياً أن الوظيفة سبقت الماهية , وأن التفاعلات الكيميائية العضوية هى تفاعلات تمت بقوى غائية , وهذا ما يرفضه العلم والعلماء فقد يبدو لنا أن حركة يد الحيوان فى إتجاه الغذاء فعلاً هادفاً للحصول على الغذاء من أجل توفير الطاقة الكيميائية الضرورية للحياة , ولكن التفاعلات التى إنتهت الى تخليق السعرات اللازمة لهذه الحركة هى تفاعلات عمياء غير هادفة كونها حتمية مادية , أما مشكلة التناقض فيما يبدو لنا من مظاهر الظواهر الحية الغائية وجوهرها غير الغائى فيمكن تبديدها بتجنب صياغة الظواهر البيولوجية صياغة غائية والاكتفاء بوضعها فى صيغة حتمية كمنهجية تفكير وبحث ومعاينة مثلما تعاملنا مع القوانين الفزيائية .

- أتصور أن سبب شيوع التفسيرات الغائية فى البيولوجيا على ألستنا جاء لتسهيل الشرح والتصور وتسريع وتقريب الفهم من الظاهرة بإستعارة تمثيل الأفعال السلوكية كحال فهمنا المغلوط عن الإنتخاب الطبيعى ليتصور البعض أن الطبيعة تنتخب وتنتقى وتختار بينما الطبيعة ليست صاحبة وعى , ولا فكر غائى فلا تنتقى , ولا تنحاز , فالأمور لا تزيد على أن من يمتلك إمكانيات تتوائم مع الطبيعة ليتغذى ويتكاثر سيبقى وغير ذلك سيندثر ولكن هكذا إعتدنا فى تعبيراتنا اللغوية التى إستخدمانها للشرح والفهم لتنسلخ وتستقل وتشكل فهم خاص أو قل تشوه وعىّ .

- من المفاهيم المهترئة القول أن الوظيفة فى الطبيعة سابقة للعضو وأتصور سبب هذا الفهم الغبى هو إسقاط الإنسان لرؤيته التصميمية على الإنجاز بالرغم أنه لا يوجد شئ إسمه تصميم ووظيفة من لا شئ , فنحن نصمم كعملية تركيب وتعديل وتنسيق للمشاهد المادية فقط ووفق قوانينها , ونستقى أفكارنا الإبداعية التصميمية بما هو موجود ومتاح من صور مادية .

- من المفاهيم المغلوطة أيضاً الفصل الميتافزيقى للوجود المادى ليكون هناك فصل بين العمليات والقوانين البيولوجية والفيزيائية , ففكرة الوظيفة نشأت في سياق تفسير العمليات البيولوجية بدون الرجوع إلى القوانين الفيزيائية الأساسية ,أي بدون رد البيولوجيا إلى الفيزياء كما نشأت أيضا في سياق فلسفة العقل الغائى الذى يهدف تجاوز المشكلات التي قابلت تفسير العقل الإنساني .

- إن الدراسة العلمية للظواهر الحية لا يكون إلا في نطاق حتمي ذلك أن الظواهر الحية هي نفسها الظواهر الجامدة فيزيائيا وكيميائيا التى تتحرك بلا غائية , فالمظاهر التي تبدو في الظواهر الحية هي نفسها المظاهر التي تتجلى في الظواهر الجامدة وتخضع لنفس الحتمية .. ولنلاحظ إن طابع التشابه بين الظاهرة الحية والظاهرة الفيزيائية قوي كونه يتعلق أصلا بالمكونات المادية بينما الاختلاف الوحيد بينهما يظهر في درجة تعقيد الحالة البيولوجية والذي يُعد إختلافاً في التعقيد وليس في التركيبة المادية أي اختلاف عرضى وليس جوهري , فالتجارب العلمية تكشف أن تحليل المادة الحية يوصلنا إلى مكونات طبيعية كالكربون , كالسيوم , حديد , يود , فوسفور الخ ثم إن التفاعل الذي يتم على مستوى المادة الحية هو تفاعل كيميائي فى النهاية .

- سأعتنى فى أبحاث قادمة بشرح كيفية تكوين المادة الحية وتطورها وكافة الأسئلة الحائرة المراوغة التى تلح على الغاية لأثبت أن الفعل المادى هو منتجها وكفاعل طبيعى غير مُتعمد ولا مُرتب ولا هادف لذا فلسنا بحاجة إلى فكرة مُصمم ذو غاية ليأتى هذا بعد هذا التناول للمشاهد الطبيعية بمنظور عقلانى منطقى فلسفى .

- ماهية غائية الإنسان .. فكرة الغاية هى فكرة إنسانية متفردة فقد أدركنا وحددنا ورسمنا خططنا وأهدافنا ومن هنا أسقطنا مفهوم الغاية على الطبيعة والحياة والوجود لننتج فكرة الإله , ولكن لى تصور عن غاية الإنسان لأراه وهم غير متحقق أو للدقة هى إختيار وحراك وتخطيط واعى فيما هو مُحدد ومفروض علينا من مفردات فى إطار حاجتنا البيولوجية مُدركاً لهذه المحددات , أى الغاية خطة تتحرك أسيرة الوجود المادى , فالإنسان تحت حاجته للطعام والشبع خلق خطط كثيرة للحصول على الطعام كالعمل فى الزراعة أو الصناعة أو الصيد أو فى مهن تقنية كالطبيب والمهندس والسباك ألخ للحصول على المال لشراء الطعام , كذا الحاجة للجنس أنتج خططه للحصول على حاجته فى هذا الشأن ليمارس مناورات وإلتفافات عديدة فرضها تطوره ومنظومته السلوكية والإجتماعية لإشباع رغباته الجنسية .. من هنا نجد أن الغاية فى الإنسان ليس مثالى محلقاً فى الهواء فهو خيار محدد حتمى محكوم بدائرة مغلقة من إحتياجاته ورغباته فلا غاية خارج طبيعته وأطر تلك الطبيعة .

- الوظيفة والغاية فكر ومعنى إنسانى أسقطه على الحالة المادية أى هو تقييم ورؤية وإستنتاج إنسانى للحالة المادية تتوسم المنفعة والإستفادة وكحالة إستنتاجية خاصة فلا يوجد مشهد مادى يتحرك أو أنتج نفسه ليفى غاية ووظيفة محددة بل هو نتاج تفاعلات كيميائية بيولوجية وتأثيرات عوامل فيزيائية أنتجت حالة ما لنضع نحن لها تقييم ومعنى .

- الفرق بين الحتمية المادية والغائية هو الفرق بين رصد الحالة بدون إبداء وجهة نظر مسبقة أى تبقى الحالة كما فى صورتها وهذه هى الحتمية , وبين من يقحم معنى وخيال خاص به على الحالة لتصل الأمور إلى التعسف والقفز لتتصدر الغاية المشهد والفعل وهذه هى الغائية ليمكن ترميز هذه الفكرة بمثال س , ص فتكون الحتمية أن س تؤدى الى ص , أما الغائية فتقول أن ص تنتج من س من أجل تحقيق الحالة ص .!

- الغائية ليست صفة واقعية فى الظاهرة وانما فكرة تعسفية سلفية سبقية , فهى تعسفية كونها ليست تجريبية وبلا وجود محسوس لتميل للظنية الإستنتاجية كوسيلة لتوجيه التفسير أو تسهيل الفهم هذا إذا توخينا حسن النيه .. الغائية إستباقية سبقية كونها غير مستنبطة من مُقدمات سابقة عليها لكى تثبت وجودها من ملاحظات تجريبية لتطرد التفسيرات المناهضة لها .. إذن هى مجرد فكرة نظرية فى الذهن لا يمكن البرهنة عليها ولا التيقن من صحتها تماما مثل فكرة القدر والغيب والخرافات أما كونها تعسفية فلأنها تم إقحامها بدون داعى لذا يمكن حذف الأفكار المُقحمة التعسفية بدون أن تؤثر على صيرورة وفهم المشهد وهذا من مبادئ المنطق , فالأفكار والفرضيات الزائدة يمكن حذفها بسهولة طالما تستقيم الأمور بدونها .. أى يمكن القول ان الغائية قراءة خاصة خاطئة للمشهد يدخل فيه الإنفعال وزواية رؤية متخيلة متعسفة يمكن حذفها دون أن تؤثر على فهم المشهد الحياتى .

- إن الرؤية والنهج الأكثر أهمية والجدير أن نتنبناه هو أن الحياة ليس لها غاية ولا خطة ولا هدف ولا معنى متأصل فيها , وهذه حقيقة يتم التغاضي عنها غالباً ليتم توهم أن هناك خطة ما , فالآلية العشوائية للإختيار الطبيعي مثلا لا تقدم لنا أي إحتمالية للتخطيط والتصميم ,وبدون التخطيط فإن فكرة الهدف والغاية تصبح إفتراضية زائدة لا معنى لها , لذا أي تساؤلات متعلقة بمعنى الحياة تصبح غير منطقية على ضوء التأمل فى عملية النشوء والتطور وحتمية الفعل المادى.

- في عالم بلا تخطيط وبلا هدف لا يمكن أن تكون هناك تساؤلات صحيحة من إسقاط معنى وغاية مستقلة عن الأشياء , فالسؤال " لماذا تكونت هذه الظاهرة على هذا النحو " يصير غير صحيح عندما يستلزم الجواب المُراد به غاية أو هدفاً للوصول لوهم أعلى غير موجود .

- دمتم بخير ومازال فى قضية الغاية والمعنى والقيمة المزيد فى مقالات قادمة .
"من كل حسب طاقته لكل حسب حاجته " - أمل الإنسانية القادم فى عالم متحرر من الأنانية والظلم والجشع .

- سأنهج نهجا جديدا فمن لم يستمتع بالأفكار فليستمتع بموسيقى من مكتبتى الموسيقية .
Giovanni Marradi - Best selection
https://www.youtube.com/watch?v=uXbk-TxmUNk