ماركس ووايتهيد والميتافيزيقيا والديالكتيك (19)


طلال الربيعي
الحوار المتمدن - العدد: 5437 - 2017 / 2 / 19 - 23:12
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

لمن لم يقرأ كتاب اكبر مؤرخ للعلم في القرن العشرين فيرابند (1) Feyerabend, او لمن لا يريد او لا يرغب او لا يستطيع ان يقرأ الكتاب بسبب اللغة او لاسباب اخرى, وهو امر بمثابة خسارة كبيرة, وخصوصا لمن يرغب في تعميق فهمه للماركسية واستخدامها كبروتوكول بحثي, اود لفت الانظار الى التشابه, بل التماثل, بين لينين وفيرابند فيما يخص عدم وجود منهجية واحدة للبحث, مما يقوض بالتالي من اية ماركسية, او فكرة, عِلمانية اختزالية, التي الاعتقاد بها يؤدي لا محالة الى ثنائية مقيتة من العلم/اللاعلم, واللاعلم هنا بعرف هؤلاء الماركسيين او غير الماركسيين, الذين يجمعهم الابتذال كقاسم مشترك, هو صنو للخرافة. والخرافة هي مجرد تجريد لامور قد يعتبرها البعض غير مُثبتة لحد (الآن), وبالتالي فهؤلاء يرددون اصداء فلسفة علمية بائدة, الفلسفة الوضعية, logical positivism, التي لا نرى الآن منها الا اشباحها تطل علينا متجلببة بجلباب الظلام بالرغم من ادعائها التنوير كيافطة لعصر سلف. واعتقاد كهذا, كما اسلفت من قبل, يلغي التجربة, بعرف وايتهيد, وبذلك يلغي لا محالة الانسان. ولكن هؤلاء لا يفقهون حتى ابجدية العلم او الجماليات, والجماليات هي ما يشكل العمود الفقري لفلسفة وايتهيد وللمشروع الشيوعي باعتباره اشباعا للحاجات الروحية وليس المادية فقط, وكما بينت من قبل. لذا يمكن القول ان المزاوجة بين ماركس ووايتهيد هي صنو للماركسية الجمالية, وليس فقط الماركسية العضوية التي شرحتها في عدد سابق.

يقول فيرابند (17-18):
"هذا هو في الواقع الدرس الذي يمكننا تعلمه من ملاحظة ذكية ومدروسة. من خلال هذه ( خاصية العملية التاريخية)"، يكتب لينين، "نخرج باستنتاجين عمليين مهمين جدا: أولا، أنه من أجل إنجاز مهمتها، الطبقة الثورية (أي فئة من أولئك الناس الذين يريدون تغيير إما جزء من المجتمع، مثل العلم، أو المجتمع ككل) يجب أن تكون قادرة على فهم وتطبيق ليس فقط منهجية واحدة بعينها، ولكن أية منهجية، (او أي شكل منها يمكن تخيله)، من دون استثناء. وثانيا، يجب أن نكون على استعداد للعبور من منهجية إلى آخرى بتسارع وبطريقة غير متوقعة".

كما ذكرت سابقا, ان ميتافيزيقيي الماركسية العِلمانية اعتبروا التحليل النفسي لا علما او علما كاذبا او زائفا. واول مرة اُستخدم مفهوم العلم الكاذب كان في عام 1796, وذلك عندما اعتبر المؤرخ James Pettit Andrew الخيمياء علما زائفا- الخيمياء هي علم الكيمياء في العصور الوسطى, وهي فلسفة تأملية ايضا كانت تهدف إلى تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب، واكتشاف علاج شامل للامراض، واكتشاف وسيلة لإطالة العمر إلى أجل غير مسمى. وقد تردد استخدام مصطلح العلم الزائف منذ 1888s كما يشرح مصدر (2).

ولكن بدون ما يسمى العلم الكاذب, الخيمياء, لما كان في مستطاع الطبيب والمحلل النفسي السويسري الكبير كارل يونغ ابتكار علم التحليل النفسي الجماعي (وهو فرع من علم التحليل النفسي الذي يؤكد على وجود انماط جماعية في العقل الباطن لكل البشر, تعّبر عن نفسها من خلال المعتقدات الدينية والاساطير والاحلام, وذلك على عكس فرويد الذي ركز على غريزة الجنس وتفرعاتها مثل عقدة اوديب في تشكيل النفس البشرية. وقد ربط بعض الباحثين بين انماط يونغ النفسية ومفاهيم نظرية الكم في الفيزياء, باعتبار المزاوجة بين الاثنين تشكل افقا للبشرية في القرن21 (3).

برزت ضرورة الخيمياء بالنسبة الى يونغ من خلال مصدرين. الاول هو ضرورة إيجاد موازاة تاريخية لاكتشافاته الخاصة بخصوص الحياة النفسية اللاواعية: العقل الجماعي الباطن. والثاني يشير إلى سلسلة من الأحلام التي أثارت مسار البحث الجديد، الذي يتحدث عنه يونغ مطولا في سيرته الذاتية Memory, Dreams, Reflections: ذكريات، أحلام وتأملات (4).

يقول يونغ انه قبل اكتشافه وجود الخيمياء, كان قد حلم مرارا أحلاما تعالج في كل مرة نفس الموضوع: في جوار منزله كان هنالك منزلا آخرا, وبشكل أكثر تحديدا جناح منزل او تركيبة بشكل بناء ملحق بمنزله, والذي كان مثار دهشته كل مرة يتكرر فيها الحلم, لأنه لم يكن يعرف هذا الجزء من المنزل، والذي على ما يبدو كان موجودا هناك منذ البداية. هذا الجزء الغريب من المنزل كشف معناه في النهاية: كان الجناح المجهول جزء من شخصيته، وهو جانب من عقله اللاواعي، وسوف يكشف هذا الجانب عن نفسه على أنه رغبة بدراسة معمقة لكيمياء العصور الوسطى, عندما حلم يونغ نفسه كأسير في القرن ال17. "في وقت لاحق فهمت أن هذا الحلم كان يشير إلى الخيمياء" - يكتب يونغ "التي وصلت ذروتها في القرن ال17".

الخيمياء هي تمثيل رمزي لعملية التميز الفردي. في الخيمياء الجادة، يعتقد يونغ، يتم توصيف صيرورات النفس الفردية بشكل شفرات, كما في الاحلام مثلا. وحل الشفرات الخاصة للخيمياء (مثل prima materia unus mundus, Mercurius, filium philosophorum, lapis, وغيرها الكثير, التي شرحها هنا ليس هدفا للمقالة) قد تطلب من يونغ جهدا شاقا لأكثر من 10 اعوام, الذي تُوج باصدار كتابه الكلاسيكي الشهير المطول المسمى Psychology and Alchemy: علم النفس والخيمياء (5)، وهذا الكتاب يشكل مصدرا أساسيا للذين يدرسون علم النفس التحليلي، عملية التميز, واستكشاف اللاوعي من خلال تأويل الأحلام.

يمكن لنا أن نتبين تجربة يونغ الواسعة في الخيمياء في الاقتباسين التاليين:
- "الخيمياء، كفلسفة طبيعة مهمة في العصور الوسطى، تشكل جسرا للعبور الى الماضي، والى ال gnosis (وهي كلمة اغريقية تشير الى المعرفة والبصيرة الكفيلة بالتخلص, لحد ما, من القيود التي تفرضها التجربة البشرية لكل منا، وأيضا إلى المستقبل، وكذلك الى علم النفس الحديث الخاص باللاوعي)."

- "فقط من خلال اكتشاف الخيمياء فهمت بوضوح أن اللاوعي هو عملية او صيرورة, وان علاقات الأنا مع اللاوعي ومحتوياته هي التي تمهد الطريق للشروع بعملية التطور النفسي, او, بكلام أكثر دقة, التغيرات النفسية الحقيقية."

تقول MARIA POPOVA ان:
"الأحلام امر غريب للغاية. يمكن روئيتها احيانا بوضوح مرعب، مع تفاصيل تُحدد بدقة مثل الجواهر، حيث تتقافز الاحداث فوق بعضها البعض، كما لو أنك لم تلاحظ ذلك على الإطلاق - المكان والزمان، على سبيل المثال. تحدث في الحلم أشياء غير مفهومة. مثلا، توفي أخي قبل خمس سنوات. أحيانا أراه في المنام: انه يشارك في شؤوني، ونحن سعداء للغاية، وأنا في كل الوقت وطوال الحلم اعرف واتذكر تماما أن أخي مات ودفن. فلماذا لا يفاجئني وجوده؟ اننا كلانا سعيدان بوجودنا معا. لماذا يسمح ذهني بذلك؟" (6).

ويظهر ان تجربة يونغ قد تكررت مع اشخاص آخرين ومنهم الكاتب الروسي الشهير فيودور دوستويفسكي (6). اكتشف دوستويفسكي مغزى الحياة في حلم يوما ما, فقال عندها "انه امر بسيط جدا ... سوف اعرف على الفور كيف اعيش."

ففي ليلة من ليالي نوفمبر في 1870s، اكتشف دوستويفسكي (11 نوفمبر، 1821- 9 فبراير، 1881) معنى الحياة في المنام - أو، على الأقل الراوي، في قصته القصيرة, The Dream of a Ridiculous Man, حلم رجل مثير للسخرية، التي تستكشف موضوعات مشابهة لتلك التي في رواية دوستويفسكي 1864 ملاحظات من تحت الأرض، وتعتبر أول رواية وجودية حقيقية. فبخصوصها يؤكد الروائي ستيفن كينغ: "إن الخيال الجيد هو الحقيقة المتواجدة داخل كذبة". انها قصة تسلط الضوء على الميول الروحية والفلسفية لشخصية دوستويفسكي بوضوح غير عادي-وربما أكثر من ذلك من أي من أعماله الأخرى التي تم نشرها. انها قصة صراع تولستوي مع مغزى الحياة.

تبدأ القصة مع الراوي الذي يتجول في شوارع سان بطرسبرج في "ليلة مظلمة مدلهمة، وحلكة الليل لا يمكن تصورها". تداعت في خياله كل صور الكيفية التي سخر البعض الآخر منه طوال حياته وانزلاقه إلى العدمية مع "كرب رهيب" والاعتقاد بأن لا شيء يهم. حدّق في السماء المعتمة وكل شيئ بدا كئيبا اشد الكآبة. وحالما حدّق في نجم صغير وحيد في السماء, فكر بالانتحار. قبل شهرين، على الرغم من عوزه، كان قد اشترى "مسدسا ممتازا" مع نفس النية في الانتحار، ولكن السلاح بقى حبيس درج له منذ ذلك الحين. فجأة، عندما حدق في النجوم، ظهرت فتاة صغيرة في حوالي الثامنة من عمرها، وكان ترتدي ملابسا رثة. وكان يبدو واضحا انها كانت في محنة. قبضت الفتاة على ذراعه وتوسلت منه ان يساعدها. ولكنه بسبب يأسه وعدم اكتراثه دفعها عنه ورجع الى غرفتة القذرة التي كان يتقاسمها مع ضابط برتبة نقيب في حالة سكر دائمة. وعندما جلس على احد كراسي الغرفة المتهالكة, وبدأ في الحال بالتفكير في انهاء حياته, وجد نفسه مطاردا من قبل صورة الفتاة الصغيرة، مما دفعه للتشكيك في تصرفه العدمي. يكتب دوستويفسكي: لقد نويت الانتحار تلك الليلة باطلاق النار على رأسي لو لم تكن هنالك هذه الفتاة الصغيرة التي احتاجت مساعدتي.
-----------
ان مشرّعو فتوى الثنائية المصطنعة العلم/الخرافة, هم ليسوا رسل القباحة والابتذال فقط, بل انهم يجهلون ايضا, برغم زعمهم انهم من نسل اسلافهم في عصر التنوير, ان النظريات العلمية, كما يؤكد الفائز بجائزة نوبل في الفيزياء Steven Weinberg, لا تحتاج الى اثبات, بقدر, وانسجاما مع وايتهيد الى حد كبير, حاجتها الى التناسق والهارمونية والجمال (7). ونحن نعلم ايضا انه حتى العلم الطبيعي (بضمنه الفيزياء باعتبارها ملكة العلوم الطبيعية) لا يعني حسب (نيتشه) أكثر من كونه وجهة نظر لتفسير العالم (8).

يتبع
------
المصادر
1. Against Method
http://mcps.umn.edu/assets/pdf/4.2.1_Feyerabend.pdf
2. ,Thurs, Daniel P. and Ronald L. Numbers. “Science
pseudoscience and science falsely so-called”, pp. 121–144 in Pigliucci, Massimo and Maarten Boudry (eds.), Philosophy of Pseudoscience. Reconsidering the demarcation problem. Chicago: Chicago University Press 2013
3. Carl Gustav Jung, Quantum Physics and the Spiritual Mind: A Mystical Vision of the Twenty-First Century
http://europepmc.org/articles/PMC4217602
4. http://www.venerabilisopus.org/en/books-samael-aun-weor-gnostic-sacred-esoteric-spiritual/pdf/200/265_jung-carl-memories-dreams-reflections.pdf
5. http://astore.amazon.com/freudandpsychoan/images/0691018316
6. https://www.brainpickings.org/2014/11/11/dostoyevsky-dream/
7. https://www.youtube.com/watch?v=g-y3DPJRVhE
8. Nietzsche, F. (1972). Beyond Good and Evil. Harmondsworth: Penguin