جامعة المستقبل: الرؤية والرسالة


السيد نصر الدين السيد
الحوار المتمدن - العدد: 5430 - 2017 / 2 / 12 - 01:02
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

"الجامعة" هي تنظيم اجتماعي ابتدعه الانسان بهدف "انتاج المعرفة" عبر انشطتها البحثية، و"نقل المعرفة" عبر انشطتها التعليمية، و "استخدام المعرفة" عبر انشطتها الخدمية.

وهي كتنظيم اجتماعي تؤثر في المجتمع وتتأثر بما يحدث فيه وما يحدث في بيئته الخارجية من تغيرات. وقد شهدت الجامعة عبر تاريخها، منذ نشأتها في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، العديد من النقلات النوعية التي انعكست على بنيتها وعلى أهدافها. ولعل اهم تلك هذه النقلات تلك التي أحدثها ميلاد منظومة العلم الحديث. فقد قامت هذه المنظومة على عدة مبادئ على رأسها مبدأ "التفكيك". وطبقا لهذا المبدأ يمكن تبسيط دراسة أي مشكلة أو ظاهرة بـ "تفكيكها" إلى أجزاء منفصلة، أو مكونات، يسهل دراسة كل منها على حدة. وقد أدى تبني هذا المبدأ إلى انقسام المعرفة وتفرقها على "موضوعات" Subjects يعنى بدراسة كل منها "نظام علمي (تخصص)" Discipline بعينه. وبالطبع فإن هذا التقسيم ليس من الخصائص الأصيلة للطبيعة ولكنه تقسيم اختياري من صنع الإنسان ويتغير بتغير مستوى وعيه. وقد أدى تبني هذا المبدأ الى ظهور نموذج جديد لتنظيم الجامعات يمكن ان نطلق عليه اسم "نموذج التخصصات المتفرقة" Disciplinary Approach. وطبقا لهذا النموذج تتكون الجامعة من مجموعة من الكليات (والمعاهد العليا) تعني كل منها بعدة موضوعات التي يتم دراستها عبر مجموعة من التخصصات. ولقد دعم هذا النموذج انتقال المجتمع من مرحلة حضارة الزراعة الى مرحلة حضارة الصناعة التي قامت على الآلة وشكلت الثروات الطبيعية المورد الرئيسي لإنتاج القيمة (الثروة).

وعلى الرغم من نجاح هذا النموذج في دعم هذه النقلة الحضارية الا لم يكن مهيئا للتعامل مع النقلة الحضارية التي تلتها والتي نعيش احداثها وهي النقلة من مجتمع حضارة الصناعة الى مجتمع حضارة المعرفة. ومجتمع حضارة المعرفة، او مجتمع المعرفة، له خصائصه الفريدة التي تميزه عما سبقه من مجتمعات. وأهم تلك الخصائص هي طبيعة المورد الرئيسي الذي يستغله المجتمع في انتاج الثروة (القيمة). فلأول مرة في تاريخ تطور المجتمعات البشرية يصبح هذا المورد موردا غير ملموس وهو المعرفة العلمية والتكنولوجية على وجه الخصوص، والمعرفة البشرية على وجه العموم. ويتطلب الاستخدام الأمثل لهذ المورد توفر الافراد القادرين على انتاج المعرفة الجديدة ونقل واستخدام المعرفة المتوفرة. وهم الأفراد الذي تشكل معرفتهم وخبراتهم ما يطلق عليه "رأس المال البشرى" Human Capital.

أما ثاني هذه الخصائص فهي "التعقد الفائق" Hypercomplexity لهذا المجتمع، بالمقارنة مع ما سبقه من مجتمعات، والذي يمكن التعبير عنه بواسطة المعادلة التالية:
التعقد الفائق = التنوع المتعاظم + التواقف المتزايد + التغير المتسارع
حيث يشير "التنوع المتعاظم"، أول عناصر معادلة التعقد الفائق للمجتمع المعاصر، إلى تعدد وتنوع المكونات المادية والمعنوية والبنيوية الذي يوفرها هذا المجتمع لإنسان القرن الواحد والعشرين. ولا يقتصر تعدد وتنوع مكونات المجتمع المعاصر على مكوناته المادية المتمثلة فيما ينتجه من سلع مصنعة أو ما يوفره من خدمات بل يمتد أيضا ليشمل مكوناته غير المادية (المعنوية) بما تنطوي عليه من رؤى ومعتقدات وأفكار. أما ثاني عناصر معادلة التعقد الفائق، "التواقف المتزايد"، فيتعلق بطبيعة العلاقات بين مكونات هذه المجتمعات التي تتميز هي الأخرى بتنوعها وتعددها وكثافتها. ولعل أفضل وصف لهذه العلاقات المتشابكة هو عبارة "التواقف" (أو "الاعتمادية المتبادلة") Interdependence (Simon, 1996). وهي العلاقة التي تصف مدى اعتماد وجود كل مكون من مكوناته وأفعال هذا المكون على إمكانيات وأفعال بقية المكونات. ويهتم ثالث عناصر معادلة التعقد الفائق، "التغير المتسارع"، بالبعد الزمنى لهذه المعادلة. ويأخذ هذا العنصر أشكال متعددة ويتجلى على عدة مستويات. وأحد هذه الأشكال هو التقلص المتزايد للفترة اللازمة لتحويل الاكتشاف العلمي إلى منتجات ملموسة أو خدمات محسوسة ذات عائد اقتصادي مرتفع. وطبقا لدراسة حديثة فإن معدلات التغيير خلال العقد الأول من القرن الواحد والعشرين تبلغ خمسة أضعاف متوسط معدلات التغيير في القرن العشرين (Kurzweil, 2005).

وتشكل هاتين الخاصيتين تحديا امام الجامعات التي ترتكز على "نموذج التخصصات المتفرقة". فهذا النموذج يعجز عن الإحاطة بكل أبعاد ما ينشئه "التنوع المتعاظم" و"التواقف المتزايد" من ظواهر ومن ثم على انتاج المعرفة المتعلقة به. ومن امثلة هذه الظواهر الاحتباس الحراري والإرهاب. لذا تصبح المقاربات "متداخلة التخصصات" Interdisciplinary Approach، التي تقوم على تبادل مناهج البحث والأفكار بين النظم العلمية المختلفة، و"متعددة التخصصات" Multidisciplinary التي تقوم على استخدام نطم علمية مختلفة لدراسة ظاهرة بعينها، و"العابرة للتخصصات" Transdisciplinary بما تتضمنه من تكامل بين النظم العلمية المختلفة، هي المقاربات الملائمة للتعامل مع التعقد الفائق لواقعنا المعاصر. كما يشكل جمود البرامج التعليمية وعدم مواكبتها لـ "التغير المتسارع" في واقعنا المعاصر عقبة رئيسية تعوق عملية انتاج المعرفة الجديدة. لذا تعتبر "المرونة امر حيوي إذا كانت المؤسسات في صدد التكيف مع البيئة المتغيرة. فعلى مؤسسات التعليم العالي ان تكون قادرة على التفاعل برشاقة وسرعة بإنشاء البرامج الجديدة وإعادة تشكيل ما هو موجود وإلغاء البرامج المتقادمة دون أن يحول سعيها أي عمليات وقوانين بيروقراطية" (IBRD, 2003).

انطلاق مما سبق يمكن القول ان جامعة الغد هي الجامعة التي يمكن ايجاز رسالتها على الوجه التالي:
دعم عملية التنمية المستدامة عبر زيادة رأس المال البشرى (الإنساني) وذلك من خلال تبني برامج تعليم مرنة (ديناميكية) والتركيز على المقاربات (متداخلة/متعددة/عابرة) التخصصات.
ورؤيتها المستقبلية هي:
ان تصبح مركز تميز لإنتاج المعرفة ولإعداد الافراد القادرين علي انتاجها (البعد البحثي) وعلى نقلها (البعد التعليمي) وعلى استخدامها (البعد المجتمعي) ويمتد تأثيره على المستوى الإقليمي والقاري والعالمي.
أما قيمها الحاكمة فهي:
- حرية البحث العلمي
- تشجيع الإبداع والتميز
- العمل بروح الفريق
- التفكير النقدي
- التعلم مدى الحياة
- احترام تنوع الرؤى والأفكار
- الموضوعية


المراجع

IBRD. 2003. بناء مجتمعات المعرفة: التحديات الجديدة التي تواجه التعليم العالي. القاهرة: البنك الدولي للتعمير والتنمية.
Kurzweil, R. 2005. The Singularity is Near: When Humans Transcend Biology. London: Binguin Books.
Simon, H. 1996. The Sciences of the Artificial (Third Edition ed.). Cambridge, MA: MIT Press.