المشكلة الجوهرية في الجزائر-من أجل فتح نقاش علمي-


رابح لونيسي
الحوار المتمدن - العدد: 5428 - 2017 / 2 / 10 - 16:38
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

المشكلة الجوهرية في الجزائر
-من أجل فتح نقاش علمي-

البروفسور رابح لونيسي
- جامعة وهران-


يسود الجزائر اليوم نقاش عقيم وهزيل جدا، واخذ شكلا كاريكاتوريا، وضخمته الأدوات الأيديولوجية التابعة للسلطة القائمة، في الوقت الذي تطمس كل خطاب جديد يسعى لطرح جوهر المشاكل التي يعيشها الجزائريون، وأكثر من هذا عمدت السلطة إلى إبراز إعلامي لشخصيات هزيلة كاريكاتورية، وطمس أخرى وإبعادها عن المشهد الإعلامي والسياسي، وذلك كله بهدف إبعاد الشعب الجزائري عن أي أمل في بديل جدي لما هو كائن، لأنه يرى بأن الآتي أسوء من الموجود، فحب السلطة والتشبث بها أعمى البصيرة وعدم الإدراك أن جزائر ملايين الشهداء هي التي تغرق يوميا بفعل سياساتهم، وليس فلان أو علان.
تعيش الجزائر اليوم مرحلة تحولات خطيرة لرهن مستقبلها، فهل من المعقول أن لايدرك صناع القرار فيها أن العالم اليوم في تحول كبير، وأن نظاما عالميا جديدا على شكل هرمي قيد التشكل، ويتحدد موقع كل أمة في هذا الهرم حسب قوة دولتها، وإذا لم تستدرك الجزائر وضعها الذي يزداد تقهقرا يوما بعد يوم، فإن موقعها سيكون في قاعدة هذا الهرم وعلى هامش التاريخ.
أن صناع القرار في الجزائر منشغلون بمصالح ضيقة جدا، ولا يرقى تفكيرهم إلى هذا المستوى الإستراتيجي، فإن كانت أمم عديدة منشغلة بالعمل من أجل التموقع في أعلى هرم هذا النظام القيد التشكل، فإن البعض ممن يعتبرون أنفسهم "محررو الجزائر" ومعهم "نخب سياسية مزيفة" همهم التموقع على حساب الشعب للإستفادة من الريوع، وربط بعضهم شبكة علاقات مع قوى خارجية إستغلالية، ليتحولوا إلى كولون جدد لإستعباد الشعب، خاصة بعد ما حبا الله الجزائر بأموال طائلة بفعل الفورة النفطية، والتي وظفت لشراء الذمم لأهداف سلطوية بحتة بدل توظيفها في بناء دولة قوية وإقتصاد منتج يضعها على الأقل في مستوى كوريا الجنوبية، فضيعوا على الأمة فرصة لا تتكرر بسبب تفكير سلطوي وأنانية مفرطة.
أن التقهقر اليومي للجزائر سببه آليات نظام سياسي وضعتها المجموعة التي أستولت على الدولة، وحولتها إلى ملكية خاصة بها بعد إنقلابها على المؤسسات الشرعية للثورة في1962، فهي آليات تفرز الرداءة والزبائنية والإنتهازية وتهميش الكفاءات والوطنيين المخلصين، وعجزت على إنتاج رجال دولة، وأنتجت رجال سلطة محاطون بإنتهازيين يناورون لخدمة أهداف سلطوية ضيقة لا غير على حساب مستقبل الجزائر، كما أفرزت مسيرين عاجزين حتى على تسيير النفايات وقنوات الصرف الصحي، ولفظت وطردت هذه الآليات عشرات الآلاف من الكفاءات والطاقات التي تزخر بها الجزائر، والتي لايمكن لها البروز إلا بالآليات الديمقراطية الحقيقية لا المزيفة، فلو أفرزت لنا هذه الآليات نخبا كفؤة ونزيهة لسارت كل المؤسسات بفعالية، فتقدمت الجزائر وتحسنت الحياة اليومية للمواطن، لكن مادام تفرز نخبا مغشوشة ومزيفة تغلب عليها الرداءة وإنعدام الأخلاق والنزاهة، فمن الطبيعي أن تنهار الجزائر تدريجيا، وتتردى الحياة اليومية للمواطن.
يستحيل الخروج من هذه الأزمة المزمنة بمعالجات وترقيعات جزئية للمشاكل المتعددة، بل يجب الذهاب إلى رأس وجوهر المشكل بإحداث القطيعة مع هذه الآليات الفاسدة وإستبدالها بآليات فعالة في إفراز النخب الحقيقية الكفؤة والنزيهة.
يجب أن يدور النقاش الحقيقي حول إيجاد آليات وميكانيزمات بديلة لإفراز نخب حقيقية كفؤة ونزيهة، لكن المستفيدون من الآليات القديمة الموضوعة في1962 يبعدون الشعب عن هذا النقاش بأساليب شتى كإلهائه بمشاكل ونقاشات هامشية، بل مفتتة في بعض الأحيان للمجتمع، فعلى المعارضة إن كانت فعلا معارضة تقديم الآليات البديلة والفعالة، لكن يبدو أن أغلبها أيضا هي نتاج هذه الآليات الفاسدة، ولهذا فهي على نفس شاكلة النخب الحاكمة، وكأنهم خرجوا كلهم من نفس القالب.
تعيش الجزائر في نقطة تحول مصيرية في مسار تاريخها، فإما الضياع والهوان والإستعباد، وإما الإنعتاق والصعود إلى القمة، فالصراع في الجزائر اليوم هو بين الإنتهازيين الذين تحركهم مصالحهم الضيقة لاغير، والذين لايختلفون عن بني وي وي في العهد الإستعماري، ونجد في مواجهتهم الوطنيين الحقيقيين -وليس المزيفين-، والذين يعملون من أجل عزة الجزائر وسؤددها، وقد رفض الكثير من هؤلاء الإنخراط في أحزاب الكثير منها هدفها التصفيق والتطبيل والتعليف.
أننا لاندعي إمتلاك الحقيقة والحلول السحرية لمشاكل أمتنا، برغم محاولتنا وحرصنا الدائم على طرح حلول وبدائل عملية وواقعية خاصة بطرح آليات وميكانيزمات بديلة تحتاج إلى نقاش واسع ومعمق في العديد من كتبنا ومقالاتنا، لكن مانريده من خلال هذه المقالة هو التنبيه فقط للأخطار المحدقة بالجزائر، وأنه ليس من المعقول تكرار نفس الأخطاء والأوهام، ليصدم فيما بعد الشعب الجزائري بالحقيقة المرة مرة أخرى، كما كان يصدم دائما، فكما كان يقول مالك بن نبي أن الإستعمارهو نتيجة للقابلية لٌلإستعمار، وأنها كانت موجودة من قبل ما يغتصب الإستعمار الفرنسي أرضنا في 1830، ولو لم تكن تلك القابلية والظروف متوفرة فينا لما دخل الإستعمار بلادنا، وبقي فيها 132 سنة، يجول ويصول بمساعدة إنتهازيين مستعدين لخدمة القوي في كل زمان ومكان سواء كان أجنبيا أو جزائريا كما يخدمونه اليوم، ووجه آنذاك من الطبقة السياسية التي لم ترد الذهاب إلى المشكلة الجوهرية، فطردنا الإستعمار الأجنبي من هنا لنقع في براثن مجموعة أستولت على الدولة وتضحيات ملايين من الشهداء بمساعدة نفس الإنتهازيين الذين وصفتهم في إحدى مقالاتي بأنهم "سياط على وطني".
يجب عل الجزائريين الذهاب إلى جوهر المشكلة والتفكير في إيجاد آليات سياسية تفرزالأكفاء والنزهاء لتسيير الشؤون العامة، وتقصي الإنتهازيين والفاسدين، فإن لم تحل هذه المشكلة، فالأوضاع ستبقى نفسها، وتبقى الجزائر تدور في حلقة مفرغة سواء تغير الأشخاص أو بقوا في مكانهم، فهو سيان، لأن المسألة ليست مسألة تغيير فلان بعلان، بل المسألة في طريقة وآليات عمل النظام السياسي وطبيعته.
لكن يبدو أن جزء كبير من الشعب الجزائري قد ساده الجهل المركب والمقدس بفعل سياسات خطط لها النظام بإحكام من خلال أدواته الأيديولوجية كالمدرسة والمساجد والإعلام كي يبقى في السلطة، فأصبح جزء من هذا الشعب لايختلف عن الأطفال الصغار الذين يلهون بما يطرحه عليه النظام من نقاشات عقيمة لامعنى لها، خاصة النقاشات الهوياتية والدينية، فهو شعب لايهتم بما يطرح من أفكار وبدائل جادة من بعض النخب التي همشها النظام بمساعدة التيارات الأيديولوجية الدينية التي وظفت خطابها لتشويه هذه النخب إلا لأنها أدركت بحكم علميتها وعمق نظرتها، بأن هذه التيارات الأيديولوجية الدينية لا تختلف فيما تطرحه عن ما يطرحه النظام، وأنها لو أخذت السلطة ستكرر نفس السياسات، لكن بشكل أنكى وأبشع، لأنها ستكون مغطاة بالمقدس، فإن كان النظام في الماضي يقصي معارضيه بتخوينهم، فإن هذه التيارات ستضيف لذلك تهمة التكفير ومعاداة الإسلام، وستوسع بذلك عملية الإقصاء للنخب الحقيقية وحصرها أكثر في الموالين لها فقط، فهذه التيارات الأيديولوجية والنظام هما وجهين لعملة واحدة، ويتغذى كل واحد منهم بالآخر كي يستمر، ويعادي كلاهما النخب والعقول المفكرة والمستقلة، فكلاهما مع الولاء الأعمي سواء لصاحب القبعة أو الشيخ صاحب العمامة.

البروفسور رابح لونيسي
- جامعة وهران-