ماركس ووايتهيد والميتافيزيقيا والديالكتيك (14)


طلال الربيعي
الحوار المتمدن - العدد: 5420 - 2017 / 2 / 2 - 10:04
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

كما ناقشت في الحلقة السابقة, ان الماركسيين المبتذلين قد ساووا بين الماركسية والعلم الطبيعي, ونقد فيلسوف العلم كارل بوبر Karl popper للماركسية هو وجه المرآة الآخر لهؤلاء الماركسيين العِلمانيين. لقد وصف بوبر الفلاسفة هيغل, كومت، وميلز (بالرغم من الفروق بينهم ) بالتاريخانية.

بوبر قام بتعريف المذهب التاريخاني كالتالي (1):
التاريخانية هي طريقة في معالجة العلوم الاجتماعية تفترض أن التنبوء التاريخي هو غايتها الرئيسية، كما تفترض إمكانية الوصول الى هذه الغاية بالكشف عن القوانين أو الاتجاهات أو الأنماط أو الإيقاعات التي يسير التطور التاريخي وفقا لها.

ويمكن تلخيص برهان بوبر على عقم المنهج التاريخاني بخمس أمور.
1. يتأثر التاريخ الإنساني في سيره تأثراً قوياً بنمو المعرفة الإنسانية.
2. لا يمكن لنا، بالطرق العقلية أو العلمية، أن نتنبأ بكيفية نمو معارفنا العلمية.
3. إذن فلا يمكن التنوء بمستقبل سير التاريخ الإنساني.
4. وهذا معناه أننا يجب أن نرفض إمكان قيام تاريخ نظري؛ أي إمكان قيام علم تاريخي اجتماعي يقابل علم الطبيعة النظري.
5. إذن فقد أخطأ المذهب التاريخاني في تصوره للغاية الأساسية التي يتوسل إليها بمناهجه؛ وببيان ذلك يتداعى المذهب التاريخاني.

لا يرى بوبر استحالة التنبوء في جميع العلوم الاجتماعية، فيمكننا في علم الاقتصاد مثلاً أن نتنبأ بأحداث معينة نتيجة شروط معينة، ونبني ذلك على أساس نظريات اقتصادية، إنما تبين البراهين السابقة استحالة التنبوء بالتطورات التاريخية الى الحد الذي يؤثر بنمو معارفنا. شرح بوبر مهمة عالم الاجتماع في نظر المذهب التاريخاني. في رأي التاريخانيين أن علماء الاجتماع يجب أن يحاولوا صياغة الفرضيات الخاصة بالاتجاهات العامة القائمة فيما وراء التطور الاجتماعي، حتى يستعد الناس لاستقبال التغيرات الوشيكة الوقوع باستنباط النبوءات من تلك القوانين. يرى المذهب التاريخاني أنه إذا كان من المُستطاع لعلماء الفلك التنبوء بحوادث فلكية، بناءً على نظريات علمية، فأنه إذن في مقدور عالم الاجتماع أن يكتشف (قوانين التعاقب الطبيعية) للتنبوء بتطور التاريخ الإنساني. لقد تأثر التاريخانيون المحدثون تأثرًا عظيمًا بنظرية نيوتن، وخاصة بما لها من قدرة على التنبوء بمواضع الكواكب السيارة بعد زمان طويل. وقد رأوا في إمكان مثل هذه التنبؤات البعيدة المدى ما يدل على أن الأحلام التي راودت الناس قديمًا عن إمكان التكهن بالمستقبل البعيد لم تكن تفوق حدود العقل الإنساني. وفي رأيهم أن العلوم الاجتماعية لا ينبغي أن تهدف إلى ما هو أدنى من ذلك. فإذا كان من الممكن لعلم الفلك أن يتنبأ بظواهر الكسوف، فلم لا يمكن لعلم الاجتماع أن يتنبأ بالتطورات الاجتماعية. ثم بين بوبر أن الرأي الذي يعتبر المجتمع متنقلًا في سلسلة من الفترات المتعاقبة، القائل بوجود (قوانين التعاقب الطبيعية) هو نتيجة خلط صادر عن تطبيق خاطئ للمصطلحات الفيزيائية على الميدان الاجتماعي. ويتضح ذلك في هذه العبارة التي تعبر عن هذا الرأي “ليست المدنيات حالات ساكنة للمجتمع وإنما هي حركات ديناميكية من نوع تطوري وهي ليست فقط عاجزة عن التوقف بل انها لا تستطيع ان تعكس اتجاه دورانها دون ان تخرج عن قانون حركتها“. تجتمع في هذه العبارة فكرة الديناميكا الاجتماعية (المعارضة للاستاتيكا الاجتماعية)، والحركات التطورية للمجتمعات (تحت تأثير القوى الاجتماعية)، وفكرة الاتجاهات (والمسارات والسرعات) المنسوبة الى هذه الحركات التي يقال انها لا يمكن عكسها دون الخروج على قانون حركتها). وهذه الالفاظ (المكتوبة بين قوسين) منقولة كلها من علم الطبيعة الى علم الاجتماع، وقد كان استخدامها سببًا في ظهور سلسلة من الآراء الخاطئة المدهشة في مراهقتها. ولكنها من خصائص ذلك التقليد الأعمى لعلم الطبيعة وعلم الفلك.

نوع المجتمع الذي يعتبره عالم الاجتماع ((استاتيكيًا)) يماثل تمامًا نوع المجموعات الفيزيقية التي يعتبرها عالم الطبيعية ((ديناميكية)) (وإن كانت موقوفة stationary). ولنا في المجموعة الشمسية مثال نموذجي على ذلك، فهي المجموعة الديناميكية بالمعنى الذي يقصده عالم الطبيعة، ولما كان لها طابع تكراري (أي موقوفة على حال واحدة تتكرر مرة بعد أخرى)، ولأنها لا تنمو ولا تتطور، ولأن بنيتها لا ينالها أي تغير، لكل هذه الأسباب فهي تماثل من غير شك تلك الأنساق الاجتماعية التي يعتبرها عالم الاجتماع ((استاتيكية)). وهذا يُبطل الرأي الذي يستدل بنجاح التنبؤات الفلكية في إمكانية التنبؤ بالتاريخ الانساني. لهذا الأمر أهمية كبرى فيما يتعلق بدعاوي المذهب التاريخاني، من حيث أن نجاح التنبؤات البعيدة المدى في علم الفلك إنما يعتمد كل الاعتماد على ما للمجموعة الشمسية من طابع تكراري، أو استاتيكي بالمعنى الذي يقصده عالم الاجتماع – أي أن نجاح التنبؤات معتمد في هذه الحالة على اهمالنا لكل عوارض التطور التاريخاني. إذن فالمنهج التاريخاني مخطئ من غير شك إذا افترضنا أن هذه التنبؤات البعيدة المدى، الخاصة بمجموعة ديناميكية موقوفة، تصلح أن نستدل بها على إمكان النبوءات التاريخية البعيدة المدى، الخاصة بالأنساق الاجتماعية الغير موقوفة. إن تطور الحياة على الأرض، أو تطور المجتمع الإنساني، عملية تاريخية فريدة, ولذا لا يمكن أن تُسعفنا مشاهدة العملية الواحدة او الفردية من التنبؤ بمستقبل تطورها. فنحن مهما بذلنا من عناية في مشاهدة نمو يرقة واحدة، فلن يساعدنا ذلك على التنبوء بتحولها فيما بعد إلى فراشة, وهذه الحجة من حيث انطباقها على تاريخ المجتمع الإنساني.

و حسب بوبر (2), ان من قدم صيغة خالصة للتاريخانية والتنبوء التاريخي هو كارل ماركس. ولمّح بوبر الى ان التاريخانية و(الكيلانية holism) هي المسؤولة على حد سواء على قيام الفاشية والشيوعية، حيث ساوى بوبر الأخيرة مع حكم ستالين القمعي في حكمه للاتحاد السوفيتي, الذي يمكن وصفه بشكل اكثر مطابقة للواقع بانه كان نظام رأسمالية الدولة (3).

قدم موريس كورنفورث Maurice Cornforth استجابة مدروسة وحاسمة لما سماه البعض نقد بوبر القاذع للماركسية (4). وهو النقد الذي يصفه كورنفورث ببساطة بكونه حملة قذرة ضد الماركسية. وفند كورنفورث كذلك اقتراح بوبر أن ماركس كان تاريخانيا بافتراضه قوانين حتمية لتطور المجتمعات. ماركس، بالطبع، مثل انجلز, ، كثيرا ما كتب عن القوانين الطبيعية للمجتمع, ولكن من الواضح تماما ان ماركس كتب أنه اعتقد دائما ان هذه القوانين خاصة بنمط الإنتاج الرأسمالي. انتقد ماركس بشكل خاص برودون وعلماء اقتصاد سياسي مثل آدم سميث و ديفيد ريكاردو لافتراضهم أن القوانين الاقتصادية لها وضع مماثل للقوانين الطبيعية للفيزياء والكيمياء, أو ان التصنيفات والكتل الاقتصادية لها نفس المعنى في جميع الأماكن وجميع الأوقات (5). وكتب ماركس ان افكار برودون تتفق مع الفلسفة التأملية التي تفترض ان التصنيفات الاقتصادية هي أبدية وليست مفاهيما نظرية تحددها علاقات محددة من تطور الإنتاج تاريخيا . في الواقع اشتكى ماركس مرارا أن الاقتصاديين السياسيين يميلون لوصف علاقات الإنتاج في ظل الراسمالية كما لو أنها تركيبات ابدية غير قابلة للتغيير، بدلا من كونها محددة تاريخيا. وبذلك يرتكب هؤلاء الاقتصاديون الخطأ المنطقي Nominalization الذي عالجته في حلقة سابقة, والذي هو نتاج, حسب فلسفة الصيرورة لوايتهيد, لتحويل ما هو ملموس الى فكر مجرد The Fallacy of Misplaced Concreteness. ويقول كتاب آخرون مثل Wood ان ماركس لم يكن لديه تصور غاياتي telological للتاريخ، وأنه كان دائما يصر على تاريخية وخصوصية الرأسمالية (6).

رفض ماركس فلسفة هيغل التأملية للتاريخ، ومن الواضح أن ماركس لم يتصور ان القوانين الاجتماعية هي قوانين شاملة أو متعذر تغيرها في مجال المسار العام للتطور التاريخي. واشتكى في كثير من الأحيان أن الناس قد حولوا مخططه التاريخي لنشوء الرأسمالية في أوروبا الغربية إلى نظرية فلسفية-تاريخية للتطور, تنطبق على جميع المجتمعات، مهما كانت الظروف التاريخية لهذه المجتمعات.

ما سعى ماركس في تحليله للرأسمالية كان هو طريقة جديدة لكتابة التاريخ، والتي كانت, على حد سواء, كتابة علمية وحساسة لعدم تجانس الراسمالية, ولم يترتب عليه أي تصور خطي احادي للتطور التاريخي (الثورة الاجتماعية). وبذلك ان الزعم بان افكار ماركس تاريخانية, اي افتراض وجود قوانين للتاريخ متعذر تغيرها, هو امر يصعب قبوله. وهذا هو امر مهم للغاية عند فحصنا تحليلات ماركس المحددة للتاربخ . فقد انتقد ماركس ما وصفه ب "الاشتراكية الطوباوية". لم يكن لدى ماركس تنبوء بالمستقبل، وكان دائما مترددا حول تصور المعلمات في أي مجتمع مستقبلي، على الرغم من انه, حاله حال اشراكيي القرن 19, تصور زوال الرأسمالية في وقت مبكر، فكما كتب إلى الفيلسوف الالماني Arnold Ruge:
"إذا كان لم يكن لدينا دخل في بناء المستقبل أو تحديده في جميع الأوقات, لا يمكن أن يكون هناك أي شك حول المهمة التي تواجهنا في الوقت الحاضر: نقد لا يرحم للنظام القائم." (5, 207).

في نقده لماركس، أوجز بوبر تصوره الخاص حول العلوم الاجتماعية, الذي يترتب علىه ما يلي: التركيز على أحداث معينة وليس على قوانين عامة- اعتناق منهجية فردية التي تنص على أن" تصرفات المؤسسات أو المجموعات الاجتماعية يمكن اختزاله الى تصرفات أفراد معينين"- تفسير الإجراءات الاجتماعية من خلال ما يصفه بوبر بأنه "منطق الوضع logic of situation- وأخيرا التركيز على التفسيرات السببية المنسجمة مع الفلسفة الوضعية، عن طريق الافتراضية-الاستدلالية أو طريقة الفرضية. ومن المثير للاهتمام بطبيعة الحال، هو أن مفهوم المنهج العلمي لبوبر هو مماثل لذلك الذي وصفه إنجلز في كتابه ديالكتيك الطبيعة، والذي أكد فيه على اهمية الفرضية في تطوير الفهم العلمي.

مع ان ماركس وانجلز وبوبر اعتقدوا كلهم بوجود وحدة نظرية بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية, الا ان بوبر, حاله حال اتباع المنهج الوضعي, والبيولوجيين الاجتماعيين ايضا، تصور ان هذه الوحدة هي ذات طبيعة ميكانيكية, بدلا من كونها ديالكتيكية وتاريخية في مفهوم العلم. ومن المثير للاهتمام ايضا, أن بوبر يشتق افكاره حصرا من نماذج علم الفيزياء ونادرا ما كان يذكر العلوم التاريخية مثل الجيولوجيا، علم المتحجرات paleontology، اوعلم الأحياء التطوري. ماركس وإنجلز كلاهما كانا يحاولان تخطي مفهوم نيوتن للعلم وانشاء علم اجتماعي تاريخي وطبيعي في آن واحد, وبعبارة أخرى، العلم الديالكتيكي.

بينما كان بوبر لاذعا في نقده تجاه اولئك الذين وصفهم بأنهم دعاة فلسفة النبوءة oracular philosophy, وكان يقصد بذلك وايتهيد وفيتجنشتاين، كان بوبر إيجابيا جدا تجاه العلم الاجتماعي لماركس. ويبدو انه فقط كان منتقدا شديدا لتاريخانية ماركس المزعومة. وبالتالي يشيد بوبر بمادية ماركس وتأكيده على استقلالية علم الاجتماع، وكذلك بمكافحة ماركس النزعة النفسانية psychologism, التي تعني, وبالاخص لدى الفيلسوف جون ستيوارت ميل, أن الظواهر الاجتماعية هي ببساطة مظاهر لنفسية البشر أو لطبيعتهم. ولكن بوبر لا يفسركيف ان رفضه ل psychologism، وانسجاما مع منهج ماركس, يختلف عن اعتناقه للمنهجية الفردية. كما أنه لا يشرح كيف ان تأكيده على الديمقراطية والآفاق المفتوحة المجتمع تتفق مع دعمه للاقتصاد الراسمالي. اي ان حاله هو حال فلاسفة مثل Isaiah Berlin, الذي يعتبره البعض اكبر عقل عرفه القرن العشرين, والذي كان هو الآخر مُبررا للنظام الراسمالي (للمزيد عن برلين يمكن مراجعة مصدر 7). ولكن كورنفورث Cornforth يؤكد انه لدى ماركس وبوبر العديد من القواسم المشتركة, مثل ماديتهما, منهجهما النقدي, وفي مفاهيمهما العامة للعلوم الاجتماعية او التاريخية.

واود ان اضيف بايجاز ان تأكيد المغكر سمير امين على "اهمية التحرر من الفيروس الليبرالي القائم على أسطورة تمجيد الفرد الذي بات العنصر الأهم في التاريخ" (8) ينسجم مع رفض النزعة النفسية التي اشرت اليها اعلاه.
وكثال على النزعة النفسية المناقضة للعلم الديالكتيكي هو ان علماء نفس بارزين لا يزالون يستخدمون النزعة النفسية للتأثير في مجرى تطور الامور السياسية, كما في حالة المعالج النفسي John D. Gartner من Johns Hopkins University Medical School, الذي يعتبر رونالد ترامب مصابا باضطراب عقلي خطير ولذلك ينبغي اقالته (9). ولكن من الجدير بالذكر والمهم جدا التأكيد على ان التشخيص عن بعد مخالف تماما للاعراف والاخلاقيات الطبية ايضا (10).

يتبع
------------
المصادر
1.كارل بوبر يشرح وينتقد المذهب التاريخي
http://www.saqya.com/%D9%83%D8%A7%D8%B1%D9%84-%D8%A8%D9%88%D8%A8%D8%B1-%D9%8A%D8%B4%D8%B1%D8%AD-%D9%88%D9%8A%D9%86%D8%AA%D9%82%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B0%D9%87%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE%D9%8A/
2. The Open Society and Its Enemies by Karl Popper, Volume two. 85
3. Anthropology and the Human Subject by Brian Morris, 2014, 26
4. The Open Philosophy and the Open Society: A Reply to Dr. Karl Popper s Refutations of Marxism, by Maurice Campbell Cornforth
5. The Poverty of Philosophy by Karl Marx, Lawrence and Wishart. 207
6.Democracy Against Capitalism: Renewing Historical Materialism, Radical Thinkers
by Ellen Meiksins Wood, 2016
7 Isaiah Berlin
https://plato.stanford.edu/entries/berlin/
8. سمير أمين
ازمة النظام الراسمالي
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=546849
9. Temperament Tantrum Some say President Donald Trump s personality isn t just flawed, it s dangerous
http://www.usnews.com/news/the-report/articles/2017-01-27/does-donald-trumps-personality-make-him-dangerous?src=usn_tw
10. Malignant narcisissm : Donald Trump displays classic traits of mental illness, claim psychologists
http://www.independent.co.uk/life-style/health-and-families/donald-trump-mental-illness-narcisissm-us-president-psychologists-inauguration-crowd-size-paranoia-a7552661.html