ماركس ووايتهيد والميتافيزيقيا والديالكتيك (13)


طلال الربيعي
الحوار المتمدن - العدد: 5418 - 2017 / 1 / 31 - 05:32
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

يخلط البعض بين المنطق والعقلانية. المنطق يهتم بشكل أساسي بالنتيجة. على عكس العقلانية التي تهتم بالوسيلة أو الأسلوب .
مثال:
مدير مصنع يريد انتاج عدد كبير من الأجهزة.
المنطق يقول أنه اذا اراد الوصول الى ما يريده فيجب أن يقوم بتشغيل العمال بدون انقطاع.
لكن العقلانية (الرأسمالية!) تقول ان العامل هو قبل أي شئ انسان و يحتاج الى الراحة و بالتالى سيعمل مدة ثم يرتاح مدة.

يؤمن الماركسيون العلميون-المبتذلون بالعقلانية التامة للماركسية، ولذلك يعتقدون إن استخدام العقل سوف يؤدي في النهاية إلى انتصار الماركسية ونشوء النظام الاشتراكي (كحتمية تاريخية وكتفاؤل ثوري بانتصار العقل/النور على الظلام). إن الماركسية نتاج لعصر ما بعد النهضة الذي يعترف فقط بالجانب الواعي للعقل، وهذا التفكير يمهد إلى اعتبار الإنسان كائن بالوسع فهمه ودراسته باستخدام علوم تسري قوانينها خارج التأريخ؛ إنها قوانين العلوم الطبيعية، وبالأخص الفيزياء الكلاسيكية، وتحذو العلوم الاجتماعية حذو هذه العلوم في اشتقاق قوانينها.

تهدف علوم عصر ما بعد النهضة (أي علوم الحداثة) إلى تعزيز مبدأ العقلانية، وتصم من يخالفه بالتخلف والمثالية. وعليه فإن العلوم والنشاطات السياسية المستندة إلى الحداثة تسعى بالأساس، إلى تسفيه كل ما يعتبر غير عقلاني فتعتبره صنوا للسذاجة والتخلف مقابل التقدمي الذي يؤمن بأن العلم ينّور جميع الظلمات حسب فلسفة التنوير. إن علوم الحداثة، وخصوصا الاجتماعية منها، تهدف عادة إلى نفي الجانب اللاعقلاني في السلوك البشري، وبذلك تعيق قابليات الناس على الإبداع. لقد تناول المحلل النفسي لاكان الأمراض التي يعاني منها المجتمع الأمريكي، بصفته مجتمع حداثة، فدرس الاغتراب وتسليع الإنسان والنفاق بين الناس. و كل هذه الأمراض هي صفات تسم النشاطات والمشاريع السياسية الخاضعة لما يسميه Mumford بالعقلانية التقنية أو الذرائعية (1). الهدف الرئيس لمثل هذه العقلانية يتمثل في إحكام السيطرة والهيمنة على الناس باستخدام الوسائل التي وفرها التقدم التكنولوجي الذي لا يمكن بالطبع إنكار جوانبه الإيجابية.

إن العقلانية الذرائعية، كنتاج لمجتمع الحداثة وما ينطوي عليه من الاعتراف والحفاوة بالجانب العقلاني فقط لسلوك البشر، قد أضرت بعمل القوى الثورية. فكثير من المراقبين قد لاحظوا انحسار رغبة الناس في العمل السياسي. بعض الماركسيين يعزو ذلك فقط إلى نشاط القوى المعادية البرجوازية وأيديولوجيتها المضللة، متناسين أن العمل الخلاق لابد أن يصيبه الوهن عندما تعتمد المؤسسات أو الأحزاب السياسية على العقل وحده (أي الوعي كنقيض للاوعي). مثل هذا النهج يضعف حماس الناس للعمل السياسي. وإن هذا الانحسار يمكن أن يعزى إلى الأسباب التالية حسب رأي Mumford:
* بعض الناس يستخدمون وجودهم وعملهم داخل الأحزاب السياسية كوسيلة أساسية لتحقيق الذات. ولكن عندما يتساوى الحزب مع العقل فإن الاختلاف مع الحزب يعني اختلافا مع العقل وما يمكن أن يلحقه ذلك من وصمات التخلف واللاعقلانية. هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن الاختلاف مع العقل يعني هو الآخر اختلافاً مع الحزب وما يمكن أن يؤدي إليه من الشعور بالخطر على التوازن النفسي لدى الفرد.
* كما لاحظ Lefort، فإن السياسة العقلانية تضعف رغبة الناس في العمل السياسي. فأنصارها يزعمون إن الناس العاديين لا يمتلكون المؤهلات الكافية التي تستوجبها إدارة منظومة عقلانية. ويخدم هذا الزعم مصالحهم بالإبقاء على سياسة النخبة (2).
* السياسة العقلانية تعني أساسا إتباع سياسات أو تنفيذ برامج تفتقر عادة إلى الإبداع، في حين أن النشاط السياسي الثوري يتطلب طرح برامج جديدة مناقضة للواقع، لئلا تنتفي ثورية الخطاب السياسي وينكفئ على مهادنته للواقع. إن الجماهير، كما يؤكد العديد من المنظرين السياسيين، لا تشرع بالعمل من أجل قضية بسبب عقلانيتها أو مشروعيتها، بل فقط عندما تشعر هي بالأمل بانتصار القضية. أي إن العالم يجب حقنه بالأمل من أجل تغييره (3, 4) وكما يذكر Bloch و Moltman. إن السياسة العقلانية تؤدي إلى نوع من الاغتراب سماه Marcuse «الوجود ذو البعد الواحد»، حين تكون مرجعية العقل هي المصدر الرئيس للحكم على الأشياء والظواهر (5).

يرى Gouldner أن هنالك على الأقل ماركسيتين: العلمية والنقدية. العلمية تستمد جذورها بشكل رئيسي من ميتافيزيقيا النظام السوفيتي السابق، وهي تفسر العالم بطريقة أحادية، ولذلك فإنها تبقى مغلقة أمام الثورات الجديدة في الفلسفة والعلم والتحليلات النقدية. أما الماركسية النقدية فهي ليست مدرسة واحدة، بل تتضمن اتجاهات وأصوات شتى، وهي تقترب في صياغاتها وأهدافها من الحركة الفكرية التفكيكية (6). وفي عهد الاتحاد السوفيتي سابقا (والصين) ادت مساواة الحزب بالعقل الى اعتبار كل من يختلف مع سياسة الحزب شخصا لاعقلانيا, ولذلك فهو, بعرف الحزب ودولته, مضطرب عقليا ويتطلب علاجه في مستشفيات الامراض العقلية. ومن يهمه الاطلاع على المزيد بخصوص اساءة استخدام الطب النفسي في الاتحاد السوفيتي والصين, يمكنه مراجعة مصدر (7).

اذن ان مفهوم العقلانية, فلسفيا, هو مفهوم شمولي وتسلطي. وما يسمى بالعقلانيين او دعاة العقلانية, يبدو انهم لا يفقهون معنى العلم رغم زعم بعضهم اعتناق المادية-العلمية. فهم يدعّون العقلانية, فجلسوا في احضان الولايات المتحدة, وعملوا, كما في حالة العراق, مع المحتل وصنائعه المحليين, وذلك باعتبار الولايات المتحدة ممثلة للعقل, بعرفهم, وعلى عكس ما يقرره كبار العلماء, مثل عالم الفيزياء الكونية الشهير Carl Sagan الذي قال بتنبوء فريد النوع (8):
-العلم هو أكثر من مجرد مجموعة من المعارف. بل هو وسيلة للتفكير. لدي تشاؤم لأمريكا في وقتي أو وقت اولادي وأحفادي, حيث سيكون اقتصاد الولايات المتحدة هو اقتصاد الخدمات والمعلومات؛ عندما تتراجع الصناعات التحويلية الرئيسية وتنتقل الى بلدان أخرى؛ عندما تكون القوى التكنولوجية الهائلة في أيدي قلة قليلة جدا، ولا أحد يمثل المصلحة العامة ولا يفهم حتى هذه القضايا؛ عندما تفقد الناس القدرة على وضع البرامج الخاصة بها أو الدراية بالسؤال حول من هم في السلطة، عندما يستشيرون بعصبية الأبراج, عندما تنخفض قدرتنا في النقد ونصبح غير قادرون على التمييز بين ما نشعر انه جيد وما هو صحيح، سننزلق دون وعي منا تقريبا ونرجع إلى عصر الخرافات والظلام.-

اذن كيف يوفق انصار -العقلانية!-, في العراق مثلا, بين عقلانيتهم السمجة والمبتذلة وعملهم مع المحتل الامريكي وصنائعه بمختلف اشكالهم, في حين ان عالما كبيرا مثل Sagan يتحدث عن عصر الخرافات والظلام في الولايات المتحدة؟ وعصر الخرافات والظلام لابد ان يولد عصر الخرافات والظلام في الدولة المحتلة, العراق؟ او نفس السؤال بصيغة اخرى, كيف يوفق هؤلاء عقلانيتهم مع لهاثهم وراء رموز الظلام والتخلف في ما يطلقون عليه اسم "العملية السياسية"؟
يتبع
.........
المصادر
1. Mumford, L. (1963). Techiques and Civilization. New York: Harcourt Brace and World
2. Lefort, C. (1986). The Political Forms of Modern Society. Cambridge: Polity
3. Bloch, E. (1988). The Principle of Hope. Vol. 1. Oxford: Basil Blackwell
4. Moltman, J. (1975). Theology of Hope. London: S.C.M
5. Marcuse, H. (1991). One-dimensional Man. London: Routledge
6. Gouldner, A. (1980). The Two Marxisms. New York: Macmillan
7. Political Abuse of Psychiatry in the
:Soviet -union- and in China
Complexities and Controversies
http://jaapl.org/content/jaapl/30/1/136.full.pdf
8. Accurately Describes America of Today
http://bigthink.com/paul-ratner/a-prophetic-1995-quote-from-carl-sagan-perfectly-describes-america-of-today