علمانية الدولة الاشتراكية


نايف سلوم
الحوار المتمدن - العدد: 5417 - 2017 / 1 / 30 - 20:01
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     


تثار في هذه الأيام العصيبة، ومن وقت لآخر، مسألة العلمانية وضرورتها كمكمل لمسألة الديمقراطية. وقد رأينا محاولة في الفترة الأخيرة لثائر ديب عبر مقالته في جريدة السفير اللبنانية تحت عنوان: "الديمقراطية علمانية بالضرورة" . وديب في هذه المقالة يقدم بوضوح ومن دون دوران نقداً للطروحات التي قدمتها التيارات الرئيسية للقوى السياسية المعارضة في سوريا والمتأسلمة منها وللتيارات السياسية العربية عموماً. فعندما يتقدم الأخوان المسلمون بمشروعهم السياسي قبل أكثر من عشر سنوات وتحت شعار "المراجعة" ونبذ العنف يطرحون شيء يسمى "الدولة المدنية" كبديل للشورى وللدولة الديمقراطية. هنا يأتي نقد ثائر ديب ليفند هذا التهرب من الاستحقاق الديمقراطي بحجة الدولة المتأسلمة "المدنية" التي تعمل ضمن حدود شرع الله. والمدنية المتأسلمة ليست في الواقع أكثر من فئات بورجوازية صغيرة غمرها طغيان التأسلم السياسي المدعوم بأموال قطرية وسعودية والمرحب به من قبل دوائر الثقافة الإمبريالية التي غضّت الطرف عنه في محاولة لتوظيفه لاحقاً، بشكل مضاد للتقدم التاريخي.
ليس ما يعيب نقد ثائرديب، بيان تهافت فكرة "الدولة المدنية " ، ولا محاولته بيان ضرورة ربط الديمقراطية بالعلمانية ، بل مايعيب طرحه هو أنه يتناسى الربط الأكبر وهو ضرورة الربط بين الديمقراطية والاشتراكية. إن غياب الربط بين الديمقراطية والاشتراكية / الماركسية في عصرنا، يعني معالجة مسألة الديمقراطية والعلمانية خارج سياقها التاريخي ، وخارج البيئة التي تحتضنها والتي تتمثل بالعصر الإمبريالي / الرأسمالي تحت قيادة النظام الأميركي والتي تكرست قيادته للنظام الإمبريالي بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية. فوجود هذه البيئة المعينة يفترض تحليلاً للديمقراطية والعلمانية يأخذ بالاعتبار فك الارتباط بين الديمقراطية والليبرالية البورجوازية في العصر الإمبريالي ، بالتالي بات من واجب الاشتراكيين الماركسين التنبه إلى أن المسألة الديمقراطية باتت مهمة "اشتراكية" بحكم هذه الشروط العالمية الجديدة. ونضرب مثلاً على ذلك أن التصنيع الروسي والصيني في القرن العشرين ، ومعه التحديث كفعل ديمقراطي، تم إنجازه بفعل ثورات اشتراكية وقادته البروليتاريا المتحالفة مع الطبقات الكادحة الأخرى. وهو عكس ما حصل في القرن التاسع عشر في نصفه الثاني عندما أنجزت البورجوازية الضعيفة في كل من ألمانيا وإيطاليا واليابان ، التصنيع مع الوحدة القومية (كأفعال ديمقراطية) متحالفة مع القوى القديمة كاليونكر في ألمانيا على سبيل المثال. إن طرح الديمقراطية في معزل عن الاشتراكية /الماركسية في العصر الإمبريالي / الرأسمالي يعني تماماً تحويل الديمقراطية إلى نوع من أنواع الاحتيال الطبقي، وإلى خداع الوعي الاجتماعي. فضرورة الاشتراكية للديمقراطية كضرورة العلمانية للديمقراطية، هذه نقطة ، والنقطة الثانية، هو واجب نقد نظرية تشارلز تايلور، التي يستشهد بها ثائر، بخصوص وجود زمنين: واحد دنيوي والآخر ديني، واحد أفقي أي معاصر والآخر "قديم" أو عمودي خارق لمراحل التاريخ. الحق أقول لكم : لايوجد سوى زمن واحد معاصر إمبريالي / رأسمالي يعيد إنتاج العقائد الدينية بما يخدم مصالح الطبقات البورجوازية في المراكز الإمبريالية الرأسمالية والبورجوازيات الرثة المتخلفة في الأطراف الرأسمالية. ذلك أنه لاتاريخ للدين ، وما الدين سوى عقائد محمولة على أوضاع اجتماعية اقتصادية متجددة باستمرار ومشروطة بالعصر وبالاقتصاد السياسي لكل دولة. فنحن لا نستطيع الحديث عن الإسلام وكأنه كينونة قائمة بذاتها في السماء، ولكننا نستطيع الحديث عن إسلام تركي وإسلام إيراني وثالث تونسي و رابع جزائري. فحتى الإسلام في فترة ازدهاره كان يختلف فيه إسلام "زمن" حكم عمر عن إسلام "زمن" حكم معاوية ، فما بالك بالمسافة بين إسلام "النمط الخراجي" وبين إسلام "الزمن البورجوازي الطرفي والزمن الإمبريالي " في فترة انحطاط الحضارة البورجوازية.
هذا العزل للمسائل عن سياقها المعاصر نجده، لكن بطريقة أخرى، لدى جلبير أشقر التروتسكي البريطاني ، والأستاذ في معهد الدراسات الشرقية والإفريقية في جامعة لندن ، في محاضرته التي ألقاها في مؤتمر "خمس سنوات على الثورة العربية" 21-23 يناير 2016 المنعقد في بيروت؛ تحت عنوان: "هل يستطيع الشعب إسقاط النظام والدولة ما تزال قائمة؟" . وننوه إلى أن المؤتمر قد أقيم باحتضان معهد عصام فارس (الأميركي/اللبناني) للسياسات العامة والشؤون الدولية / المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات في بيروت. علينا أن نشير إلى استخدام جلبير اشقر وهو لبناني الأصل كلمة "الثورة العربية" مفردة ؛ كاسم جنس بدل "الثورات العربية" متعددة.
ففي معرض حديثه يذكر جلبير ثلاث نماذج لهذه "الانتفاضات" وهذا التعبير الأخير له؛ ثلاث انتفاضات في تونس ومصر وسوريا. ويقدم تحليلاً بنيوياً، إذا جاز القول، للنظم في هذه الأقطار العربية الثلاثة . لكن العيب الأساسي في تحليلاته هو هذا العزل لهذه الأقطار ونظمها عن السياق الإمبريالي العالمي وملحقاته الإقليمية من الملكيات العربية وإسرائيل. حيث تظهرقطر والسعودية وتونس ومصر وسوريا وكأنها "مونادات" مفردة معزولة عن بعضها البعض وعن السياق العالمي الحاكم والمحكوم بسيطرة النظام الإمبريالي / الرأسمالي ذو الرأس الأمريكي. تظهر هذه الانتفاضات وكأنها حاصلة في صحراء الربع الخالي. إن العرض البنيوي للنظم في هذه الأقطار هي لحظة معزولة عن سياقها العالمي والإقليمي بالتالي يمكن توجيه نتائج هذا التحليل بشكل اعتباطي ، ولايعود يوجد لدينا أي معيار أو مسطرة للقياس. فإذا كانت لدينا انتفاضة ضد نظام بعينه فليس مهماً –وفق هذا العزل- ان تخدم هذه الانتفاضة النظام الأميركي وتكرّسه، وليس مهماً أن تحتضنها نظم ملكية قديمة بائدة وتوجهها لمصالحها الصدئة ، المهم في هذا النمط من التحليلات أن انتفاضة حصلت وحسب. هذا التمجيد للتمرد كتمرد بغض النظر عن طبيعته وعن سياقاته وطبيعة القوى والقيادات المساهمة فيه يحمل نزوعاً عدمياً ملحداً. وهذه النزعة العدمية التي تتعامى عن الشرط الإمبريالي المعاصر تصب الماء من حيث لاتدري في طاحونة الإمبريالية وملحقاتها الإقليمية. ومن هنا جاء تقديم المحاضر بعبارة: هذا الحوار "أكاديمي" ؛ أي محايد سياسياً . والواقع أن لاشيء يمكن أن يكون محايداً ، حتى الصمت عينه!
إن هذه الحيادية الكاذبة ، وهذه التحليلات الأكاديمية التي تدرس بنى الأنظمة في الأقطار العربية معزولة عن الشرط الإمبريالي وعن بعضها البعض تقود إلى نتائج ماساوية يظهر فيها حزب الله كداعش ، ويتم تبرير الحملة على حزب الله من قبل النظام السعودي وتحت إشراف النظام الأميركي ، على انها حملة على القوى المناهضة للانتفاضات العربية والتاريخ والتقدم ، ويظهر داعش وجبهة النصرة من القوى التقدمية التي تحاول تهديم النظم المضادة للتاريخ. إن دراسات كهذه ، تقود إلى نفس المكان الذي نجد فيه الديمقراطية معزولة عن مادتها الاجتماعية الاقتصادية ، ومجردة من العلمانية ومن الاشتراكية /الماركسية ؛ ديمقراطية تستخدم كانتفاضة مضادة للتاريخ في خدمة تكريس الشرط الإمبريالي/ الرأسمالي وملحقاته . وتكريس ما ادعت الانتفاضات انها جاءت لتهدمه.