ذكريات شيوعي عراقي : كاظم الشيخ / 8-8


حسين علوان حسين
الحوار المتمدن - العدد: 5417 - 2017 / 1 / 30 - 02:10
المحور: مقابلات و حوارات     

الخاتمة
علمت من خلال التحقيقات التي أجريت معي في مركز شرطة السراي ببغداد أن دائرة أمن الحلة هي التي رفعت إسمي إلى ما كانت تسمى آنئذٍ بـ "الشعبة الخاصة" في بغداد على اعتبار أنني "شيوعي خطر يستوجب المراقبة و الحجز لوقف حريته بالحركة و منعه من الحاق الضرر بالاتحاد الاشتراكي العربي في نضاله لتحقيق أهدافه السامية بالحرية و الوحدة و الاشتراكية " ! نعم ، الاتحاد الاشتراكي العربي الذي لا يختلف عن حزب البعث الفاشي إلا في طريقة ترتيبه للشعارات البراقة المزيفة ، و الذي تكفل بجدارة و بالتعاون مع البعث بتدمير كل أمل للعرب في تحقيق أي واحد من كل تلك الأهداف . فالحرية في دستورهم تعني حريتهم في "تخييس" كل من يختلف عنهم في الرأي في السجون و المعتقلات ؛ و الوحدة تعني عندهم تدبير الانقلابات العسكرية المتتالية ؛ أما الاشتراكية فتعني نهب ثروات البلدان المنكودة بهم و تجويع شعوبها المنكوبة وفقاً لقاعدة المثل سيء الصيت : جوِّع كلبك ، يتبعك !
و قد قرر ضابط الأمن في حينها نقلي ، أنا و عشرات الرفاق من الطلبة الجامعيين ، من كرسي الدراسة الجامعية إلى "التخشيبة" في مركز شرطة السراي عن طريق حجزنا هناك طيلة أربعة شهور متتالية و التي تكفي لتفويت الفرصة علينا تماماً عن أداء أي امتحان تحريري في كلياتنا ، و بضمنها امتحانات نهاية السنة ، فنعتبر لهذا ضمن الطلبة الراسبين في مرحلتنا لذلك العام الدراسي . هكذا كان رجال جهاز الأمن "القومي" يتفننون بابتكار و ارتكاب شتى الخطط الشيطانية (و كانت كلها متاحة لهم باعتبارهم : مصونين غير مسؤولين) لإيقاع أبلغ الأذى البدني و النفسي و الاجتماعي بالسياسيين العراقيين الشرفاء كي يخلو الجو لمفاسدهم و لخياناتهم للشعب و للوطن مثلما أثبتت بعدئذٍ وقائع التاريخ ؛ بالضبط مثلما قام ضباط صدام من الخونة و الفاسدين – ممن سلطهم الدكتاتور الصغير نوري المالكي على ألوية الجيش و الشرطة العراقية – بتسليم الملايين من أهالي محافظات الموصل و تكريت و الأنبار للسجن الكبير لعصابات داعش لتحتل بذلك نصف مساحة العراق ، و تغنم مختلف أنواع الأسلحة بضمنها 3000 مدرعة أمريكية جديدة ، بلا قتال ، و تسبي و تقتل و تغتصب و تنهب و تنكل بالأهالي الابرياء بلا حساب .
زارني المرحوم والدي – المجاهد الطيب – في المعتقل ، و نقَّدني "الخرجية" . ثم راجع مقر "الشعبة الخاصة" في بغداد عدة مرات حتى أستطاع أخيراً استصدار الأمر بالإفراج عني بفضل تشبثاته ، حيث كان رجال الأمن قد أصبحوا في حينها يحترمون أهل العمائم . قال لي و الدي و أنا أستعد لحمل يَطَغي للخروج من المعتقل :
- زين ، إبني ؛ هذه المرة لم يدفعونني ، و لا أسقطوا عمامتي من رأسي مثلما فعل البعثيون !
عدت عام 1966 للاشتغال عاملاً بعقد موقت في دائرة الإذاعة و التلفزيون في الصالحية ببغداد . استمريت بالدوام اليومي هناك طوال سنتين و نصف السنة ، إلى أن قفز البعثيون إلى كراسي السلطة للمرة الثانية برافعة بريطانية – أمريكية – إيرانية ، فجاء محمد سعيد الصحاف مديراً للإذاعة و التلفزيون . و كان الصحاف حلياً تربطنا به و بعائلته رابطة الجيرة حيث كان بيتهم يقع مقابل بيتنا في محلة جبران ، و اخوه "ضياء" صديقي و عمه "عباس" صاحب محل بيع التبوغ في سوق جبران صديقي هو الآخر ، فاستبشرت بمقدمه خيراَ .
في صباح أحد الأيام ، نادى عليَّ هذا الصحّاف و راح يقول لي :
- ، كاظم ! تعال ! أقول لك : أنت شيوعي مكشوف ، و أنا أعرفك حق المعرفة ، لذا فإن بقاءك هنا خطر عليك . أنصحك أن تترك العمل هنا و تعود للحلة حالاً لتفادي الاعتقال !
و هكذا فقد تركت العمل في الإذاعة و التلفزيون إلى غير رجعة ، و عدت للحلة . في الحلة ، كان وضعنا المالي آنذاك في عسر عسير بسبب الشحة الشديدة لفرص العمل . و لكنني لم أسمح لنفسي أن أترك العمل ، اي عمل متاح ، حتى و لو ليوم واحد . فتنقلت من شغل لآخر بوتائر متسارعة . كريت عربة دفع باليد و عملت حمّالاً ، أولاً ؛ ثم اشتغلت بائعاً متجولاً بنفس العربة أبيع القيمر و الجبن ؛ ثم أنشأت بسطية لبيع الالبان على رصيف الشارع . بعدها ، افتتحت محلاً للخط في سوق العلاوي قريبا من مسجد القطانة ، فدهم المحل ثلاثة من رجال الأمن ، و هددوني إما أن أعزّل المحل أو يعتقلونني ، و كسّروا لوحات الخط ، فتغرَّمت كُلفها . عدت بعدها للعمل خبّازاً ، و لسان حالي يقول : ما من امرئٍ أراد شيئاً غلا إلا ناله ، أو نال قسطاَ منه .
في عام 1975 ، عُيِّنت - عن طريق مكتب التشغيل العمالي - بوظيفة "كاتب سيطرة" في الشركة العامة لاستيراد الحديد و الخشب ، فرع بابل . و بعد مضي سنتين على توظيفي ، أستلم إدارة فرع الشركة المدعو : جبار رسول علوان ، الذي كان يكن أشد العداء المكشوف لكل ما هو تقدمي ، فخطط للإيقاع بي . في حينها ، كان لزاماً على كل واحد من الموظفين مسك خفارات للدفاع المدني في الدائرة بعد ساعات الدوام الرسمي . و في يوم نوبتي ، جاء هذا الموتور للشركة ، فوجدني أؤدي واجب الخفارة على خير ما يرام ، فما كان منه إلا أن يتصل أمامي هاتفياً بمديرية أمن الحلة و يقول لضابط الأمن الخفر :
- أنا جبار رسول علوان - مدير فرع بابل للشركة العامة لتجارة الحديد و الخشب - عندي بالدائرة الآن خفر دفاع مدني شيوعي متمرد أسمه كاظم الشيخ حمود ! تعالوا شوفوا شغلكم ويّاه !
و استناداَ لهذا البلاغ "الثوري" ، و في مساء نفس اليوم ، فقد جاء رجلا أمن بملابس مدنية للدائرة ، و اخذاني إلى مديرية أمن الحلة الكائنة بنايتها مقابل البلدية ، حيث بقيت هناك تسعة أيام تعرضت خلالها للضرب و الإهانة قبل أن يفرجوا عني ، فعدت للدوام في الشركة تحت مسمع و مرأى ذاك المدير الذي خابت خطته للتخلص مني . و لكنه واصل محاصرتي في العمل بالمراقبة الشديدة للإمساك بأي تصرف خطأ يمكن أن ارتكبه ضدي ، و بالزجر و الضغط و سوء التعامل ، و بالترغيب للانتماء لحزب البعث الفاشي ، حتى اندلعت قادسية زربان ، و بدأت الحملة الشعواء للاعتقالات بالجملة ، فاضطررت مرغماً إلى ترك العمل في الشركة ، و العودة للخِبازة .
في مستهل عام 1981 ، جاءني إبن عمي : ياسين حسن (الدكتور و استاذ الرياضيات في الجامعة) ، و قال لي :
- عندي مغازة في السوق العصري بباب المشهد مقابل مستشفى الولادة ، و أنا أريد اكمال دراسة الدكتوراه و يجب علي التفرغ التام للبحث العلمي ، تعال و استلم المغازة مني .
و في اللهجة العراقية ، فإن "المغازة" هي المحل لبيع الكماليات . استلمت محل المغازة فعلاً ، و استدنت من الأصدقاء ثلاثين ديناراً ، و سافرت من الحلة إلى بغداد للتسوق من الشورجة . و هناك ، في محل لبيع الفساتين النسائية بالجملة ، شعرت بالحرج الشديد بسبب ارتفاع الأسعار ، و ضآلة رأسمالي . تنبَّه صاحب المحل لحيرتي ، و تجاذب معي أطراف الحديث ، و ما أن تطرقت إلى ضيق ذات يدي جراء المحاربة بالرزق التي تعرضت إليها بسبب شيوعيتي حتى عانقني أحر العناق ، و ابلغني أنه كان ضابطاً في الجيش العراقي قبل أن يطرده صدام بتهمة التعاطف مع الشيوعيين . و قال لي بالحرف الواحد :
- كل البضاعة في محلي هذا هي تحت تصرفك . خذ كل ما تريد دون أن تدفع فلساً واحداً . صرّف البضاعة ، ثم سدد وقتما شئت . و لا تكلف نفسك بالسفر من الحلة إلى بغداد لغرض التسوق . فقط اتصل بي هاتفياً و أعلمني بالبضاعة المطلوبة ، و أنا أرسلها لمحلك بالنقليات في نفس اليوم !
الأمين يشارك الشرفاء أموالهم !
عملت بالمغازة طوال ثماني عشرة سنة لغاية عام 1997 عندما اضطررت بسبب الكساد الحاصل بسبب الحصار الآثم على شعب العراق برمته إلى تصفيتها ، و افتتحت مخبزاً في محلة السنية أولا ، ثم في حي الضباط بعدئذٍ ، الى أن حل الاحتلال الأمريكي الكارثي للعراق عام 2003 ، حيث عدت إلى دائرتي السابقة ، التي اصبحت تسمى "الشركة العامة لتجارة المواد الانشائية" ، بوظيفة : "مدير الإعلام" لغاية احالتي إلى التقاعد نهائياً عام 2013 .
و الآن ، فقد ربحت بفضل الماركسية نفسي أولاُ ؛ و ربحت عائلتي الكبرى ، و هم كل الناس الطيبين في العراق و العالم أجمع ؛ علاوة على ربحي لعائلتين أخريين : الحزب الشيوعي العراقي الذي ما زلت أعمل رفيقاً بسيطاً في صفوفه ، و أشارك بنشاط في كل فعالياته حتى نلت التكريم المعنوي منه مؤخراً بفضل كثرة عدد من أكسبهم للانتساب بشرف إليه ؛ و عائلتي الصغرى : زوجتي ، و ابني الأكبر : علي (أبو محمد) خريج معهد التكنولوجيا / قسم الكهرباء و هو خبير عطور و لديه ستة محلات لبيع العطور في الحلة و كربلاء و بغداد ، و ابنتي الكبرى : ذكرى (أم مها) طبيبة ، و علياء (أم مريم) ربة بيت ، و شيماء خريجة كلية التربية ، و أحمد الله على كل شيء . و هل يوجد ما هو أثمن من كل هذا الربح ؟
تمَّت .