من هتلر والإنجيل إلى داعش والقرآن


خالد الحروب
الحوار المتمدن - العدد: 5416 - 2017 / 1 / 29 - 10:20
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     


الهوس والتفاهة التي يمتاز بهما خطاب الرئيس الامريكي الجديد دونالد ترامب تجاه شؤون كثيرة منها "الإسلام الراديكالي" سوف تسرع في جر العالم نحو حقبة جديدة من "صدام الأديان والأصوليات". تاريخ البشر، قديما وحديثاً، حافل بحقب دموية تسبب فيها قادة رعناء مهووسين بخطابات دينية او شعبوية او شوفينية، يقودون شعوبهم والعالم إلى بحار من الدماء. عندما يتحدث زعيم شعبوي لقوة عظمى وصل إلى الحكم على رافعة الشعارات الغرائزية التي تمجد الأنا الجماعية وتطهرها وتشيطن الآخر وتجرمه، فعلى العالم توقع الأسوأ. تاريخ البشر يقول لنا، ايضا، ان استغلال الدين وتوظيفه وتحويره هو الطريقة الأقصر للوصول إلى قلوب عامة الناس وتثويرهم وحشدهم كالقطيع وراء الزعيم او الحزب او الدولة التي تقوم بالتوظيف. خطورة خطاب ترامب لا تحتاج إلى نقاش مُعمق، وبعض من تلك الخطورة يتأتي من تراكم إدراك غربي وغير غربي خلال العقود القليلة الماضية يحصر العنف الديني واستغلال الدين في المسلمين والاسلام، بسبب صعود التنظيمات الأصولية الإسلاموية التي تنسب نفسها للدين والجهاد، وآخر تمظهراتها القاعدة وداعش. هذا الإدراك الغربي المُختزل والتسطيحي يخلق البيئة المناسبة لتبني سياسات عنصرية وفجة وحربية ايضا ضد الآخر. على ذلك من الضروري معرفيا وسياسياً التوقف ملياً وموضعة العنف المنسوب للدين في سياقاته التاريخية من ناحية، وادراك اتساع نطاق تطبيقاته لتشمل معظم ان لم يكن كل الاديان والثقافات. لا تقدم هذه السطور اية مرافعة اعتذارية للعنف الإسلاموي الذي يستخدم الدين من قريب او بعيد، بل تدينه بلا تردد ومن دون "لكن"، بيد انها توسع النقاش وتوجه الإتهام إلى الغرب ايضا حيث تاريخه القديم والقروسطي والحديث حافل بإستغلال الدين ويفيض بالعنف الديني الدموي. لا يحق لترامب ولا لأي زعيم غربي ان يتغاضى عن تواريخ عريضة في إبادة الشعوب الاصلية سواء في القارة الامريكية نفسها، الشمالية والجنوبية، وكذا في بقية مناطق العالم حيث استخدم الدين لصالح سياسة الاستعمار والإستئصال وعلى نطاق واسع.
في كتاب كلاسيكي رصين صدر اواخر القرن الماضي بعنوان "الإنجيل والاستعمار"، The Bible and Colonialsm تصدى بروفسور الإلهيات مايكل بريور في جامعة ساري آنذاك إلى العلاقة الوثيقة بين العديد من المشروعات الاستعمارية الغربية والإنجيل. درس بعمق المسوغات الدينية التي ساقتها الإستعمار الابيض لجنوب افريقيا، ولأمريكا اللاتينية، ولفلسطين، وأبرز آليات تبرير العنف بحدوده القصوى ضد الشعوب الأخرى. بحسب المنظور الديني المُحور والمُؤول فإن تلك الشعوب غير المسيحية، سواء أكانت الهنود الحمر في امريكا والسكان الاصليين في امريكا اللاتينية ونظائرهم في افريقيا بطولها وعرضها، ثم العرب في فلسطين،كانت محكومة بالخطايا الأبدية، ولذا كان عليها ان تخضع لخيارات القوة المسيحية البيضاء: إما ان تتطهر عبر التبعية للإستعمار، وإما ان تواجه خيار الإبادة. وروجت الخطابات المرافقة للقوة الباطشة آنذاك بأن الإستعمار الغربي كان تعبيرا عن انتصار الرب ورغبته في توسيع مملكته، وكل من يواجه هذه الرغبة عليه تحمل النتائج الإبادية.
في التأمل الأعمق في "الرواية المسيحية المتعصبة" لقيام الولايات المتحدة نفسها فإننا نقرأ ان إبادة الهنود الحمر كانت مجرد "تفصيل" صغير في السردية الكبرى حول هجرة المسيحيين البيوريتانيين المخلصين من اوروبا وتحديهم للصعاب وإقامتهم لمملكة الرب في هذه الرقاع البعيدة: إنها النور على قمة الجبل التي تجسد إرادة الرب، وهي الإرادة التي لا بد ان تتمثل وتطبق حتى لو قادت إلى إبادة الشعوب الجاهلة والضالة عن تلك الإرادة. لاحقاً، تم تطبيق نفس النظرية على قيام إسرائيل واندمجت الرؤية المسيحية الراديكالية مع نظيرتها اليهودية وانتجت المسيحية الصهيونية التي رأت في "انبعاث" إسرائيل تجسد لإرادة ونبوءة الرب، ولم تر في الفلسطينين، وهم السكان الاصليين، إلا "تفصيلاً" صغيرا لا يستحق الإهتمام وسط حركة التاريخ العريضة والهائلة التي يرعاها الرب. في كل حالات السيطرة الاستعمارية على الشعوب الأخرى ومشروعات الإبادة سواء أكانت على مستوى صغير او مستوى كبير بحجم إبادة الهنود الحمر، او اليهود في المانيا الهتلرية، كان هناك محور أساسي تحوم حوله افكار الإبادة والعنف الكلاني المنظم والطاغي، وهو تأثيم وتجريم الآخر و"طرده من رحمه الله" بقرار بشري. بكلمة اخرى، كان الإدعاء الديني الدائم هو ان الشعوب الأخرى "ضالة" وغارقة في الخطئية ولا بد من تطهير الارض او المجتمعات منها، وهي شعوب رديئة بالتعريف ولا تقارن بالجنس الابيض المسيحي والمتفوق. هذه الفكرة هي الجوهر العنصري والتدميري الذي قامت عليه النازية والتي بررت عنصريتها ومشاريع الإبادة التي تبنتها من خلال تبني تفسيرات ومقولات دينية ايضاً.
وإذا كانت الكتب والدراسات التي تعرضت للنازية وهتلر والهولوكوست تكاد لم تبق شيئاً إلا ونبشته وفككت جوانبه، إلا ان مسألة الجذر الديني للفكر النازي واستخدام هتلر للإنجيل ظل من اقل الجوانب بحثاً. وهذا النقص هو ما دفع Ray Comfort للعودة إلى تاريخ هتلر وفكره وتأويلاته وتوظيفه للدين ثم إصدار كتابه الهام العام الماضي بعنوان "هتلر والرب والإنجيل":Hitler, God & the Bible. الفكرة الاساسية التي يطرحها كومفورت في كتابه ويثبتها عبر العودة إلى حياة وافكار وخطابات وممارسات هتلر هي انه من دون الإعتماد على المسيحية والتأويل الديني ولي اعناق النصوص واستغلالها ما كان لهتلر ولا لدولة الرايخ ان تصل إلى ما وصلت إليه، أو ان تسوغ إبادة ستة ملايين يهودي في المحرقة. يجادل كومفورت بأن هتلر كان مقتنعاً بأن ما يقوم به من "غربلة" للجنس البشري تفرض ضرورة التخلص من الأجناس الردئية، وترقية "الجنس الآري الأبيض" فوق الجميع، هو ترجمة لإرادة الرب وان تلك الغربلة مسنودة بمسوغات انجيلية. يحتاج الكتاب إلى وقفة خاصة به، لكن على الأقل خلاصته المدهشة يجب أن تخفف من غرور الخطاب الغربي المعاصر الذي يحصر ممارسة توظيف الدين لصالح العنف بالمسلمين.
إذن لا نحتاج إلى فلسفة زائدة ولا إلى جدل مركب كي نضع داعش وتوظيفها الإجرامي للدين في المكان المناسب. ونعلم، عبر المسوح الإحصائية والدراسات البحثية، ان الغالبية الكاسحة من مسلمي العالم ترفض هذه التنظيمات وتلفظها. على ذلك فإن القاعدية والداعشية، وفي تجسدها العنفي والمسلح على الاقل، تمثل ظاهرة هامشية اقلاوية منبوذة. لكن الخطير والمرعب هو ما يحدث على الطرف الآخر: اي الطرف الغربي وصعود الشوفينية القومية والدينية، لأن هذه الأخيرة تكتسح الوسط العام ولم تعد هامشية واقلاوية، بدليل إفرازها لترامب، ونجاحها في فصل بريطانيا عن الاتحاد الاوروبي، ونجاحاتها المتوقعة خلال الشهور الانتخابية القادمة في اكثر من بلد اوروبي. يمكن الزعم في المقابل بأنه لا يمكن لأي حزب ذي نزعة داعشية او قاعدية استئصالية ان يأمل بالفوز في أية انتخابات حرة في اي بلد عربي او اسلامي فيما لو افترضنا ان هذا الحزب قرر خوض الانتخابات وان القوانين سمحت له. سيُقال هنا لكن الأحزاب الاوروبية اليمينية، على فاشيتها، وترامب والجمهوريين على راديكاليتهم، يمثلون تيارات واحزاب سياسية لا تستخدم السلاح، كما هي القاعدة وداعش، ويحتكمون إلى صناديق الإقتراع. وهذا صحيح لكن بشكل جزئي وظرفي فقط، لأن الخطر الكامن وراء سيطرة يمين عنصري على الحكم في اي بلد من البلدان يفوق خطر داعش والقاعدة، حيث يتحكم الحزب الحاكم بقرار الحرب الشاملة والإبادة، وعبر الحكم تتم السيطرة على مقدرات جيوش مخيفة وقوى عسكرية نووية ومدمرة. لنتأمل الايام الاولى من حكم ترامب والقرارات التي وقعها كي تعطينا فكرة اولية حول نزعة الإستئصال والإبادة تجاه الأخر، سواء أداخلياً مثل إعلان حرب ضد فقراء أمريكا عبر إلغاء نظام التأمين الصحي (اوباما كير) الذي استهدف الشرائح الفقيرة، كما التضييق على المهاجرين غير البيض، مسلمين وغير مسلمين، او خارجياً مثل إقامة سور يفصل الولايات المتحدة عن المكسيك وإجبار هذه الاخيرة على تحمل نفقاته وغير ذلك كثير. ليس العنف والتطرف وتوظيف الدين حكرا على المتطرفين في بلدان العالم العربي والإسلامي، وهذا مرة اخرى ليس قبولا بهم ولا دفاعا عن اجرامهم. فهؤلاء يبدون وكأنهم هواة مقابل ما تقدمه لنا التجربة التاريخية حول نفس الممارسة وتوظيف الدين سواء في التاريخ الاوروبي والغربي القديم والحديث، وكما تمثل ايضا خلال القرن الماضي في التجربة اليهودية الصهيونية التي بررت التطهير العرقي الذي شنته ضد الفلسطينين بمسوغات دينية وتوراتية.