ذكريات شيوعي عراقي : كاظم الشيخ / 7


حسين علوان حسين
الحوار المتمدن - العدد: 5415 - 2017 / 1 / 28 - 03:52
المحور: مقابلات و حوارات     

الاعتقال الخامس
بعد الإفراج عني من معتقل البعث الرهيب ذاك ، عدت إلى العمل عامل خبازة نهاراً ، و إلى الدراسة كطالب اعدادية مساءً ؛ كما انتظمت في صفوف حشع مجدداً . و قد أسهمت بتوزيع منشورات الحزب المطبوعة في محلات الطاق و الجامعين و جبران ، علاوة على خط شعارات الحزب على الجدران . و أذكر أنه كانت من ضمن تلك الشعارات : يسقط العميل فرانكو و تحيا شعوب إسبانيا . كما ساهمتُ بمظاهرة شعبية دعا إليها الحزب لشجب التجاوزات الصارخة لجلاميز الأمن ضد رفاقنا و أصدقائنا في الاعتقال التعسفي و الاعتداء عليهم بالضرب و محاربتهم بالأرزاق و ذلك في بداية صيف عام 1965 . و قبيل اختتام تلك المظاهرة ، بادر شقيقي المرحوم طالب الشيخ حمود إلى ارتجال مهوال جاء مناسباً جداً مع غرض المظاهرة ، كما ألهب الحماس في نفوس المشاركين فيها . فبمشاركة كل المتظاهرين معه بدبكة قوية ، طفق ينشد بصوته الجهوري ، و الجماهير تردد بعده :

الله من هذا الوضع آه
شعب العراقي يندب الآه
التواثي اتكسِّرت
و الشباب اتدمِّرت
قاسم الركابي و عايد وياه

و باللهجة العراقية ، فإن "التواثي" هي العصي القوية الغليظة ؛ حيث كان مفوَّض الأمن المربوع "قاسم الركابي" قد اعتاد في حينها حمل التوثيّة بيده للاعتداء بالضرب المبرح على الشيوعيين و مؤازريهم . أما حامل التوثيّة الثاني ، "عايد" ، فقد كان هو الآخر مفوض أمن طويل القامة جاء منقولاً للحلة من بغداد .
و قد أحاط بالمتظاهرين رجال الأمن بملابسهم المدنية ، و هم يخفون مسدساتهم بالجيوب ؛ أذكر منهم : رشيد السرّي الأسمر ؛ و" عبد الحسين أبو البايسكل" ( و كان هذا الأخير طويلاً ، أحيمر الوجه ، لا يكل و لا يمل من الطواف نهاراً على مختلف محلات الحلة بدراجته الهوائية) ؛ و عمران السرّي ، الذي كان متعاطفاً معنا . كما كان رجال الشرطة يرافقونهم بقيافتهم الرسمية .
يومها ، بادر رجل الأمن "عمران السري" إلى تحذير شقيقي طالب بالقول :
- راح يدوسون بيتكم !
أي أن رجال الأمن سيشنون قريباً غارة على دارنا ؛ و هذا ما حصل بالفعل بعد أيام قليلة ، حيث دهم دارنا ليلاً مفوض الشرطة : "عبد الحسين أبو البايسكل" برفقة رجل أمن ثان لا أعرفه ، و ألقيا القبض على شقيقي المرحوم طالب و عليَّ أنا . و كان مركز الاعتقال هذه المرة في الطابق الثاني للبناية القديمة لمديرية شرطة بابل - و التي تم هدمها بعدئذ و تحولت الآن إلى أسواق - و الواقعة إلى جانب سوق الحلة الكبير (السوق المسقَّف) ، مقابل مصرف الرافدين فرع الحلة /5 ، و مقهى سيد شاكر الشلاه . و كان المرحوم الرفيق صاحب نزر قد تم اعتقاله قبلنا أثناء قيامه بتوزيع منشورات الحزب في مقهى ملا حمود القيِّم الواقعة بشارع الإمام علي .
بقيت رهن الاعتقال خمساً و عشرين يوماً ، تم بعدها الافراج عني بفضل المساعي الحميدة لمختار الطاق السيد محمد حسن أمين وتوت - بعد أن توسط عنده أبي - الذي لامني بالقول :
- تاليها وياك ؟ ما تجوز من سوالفك ؟


أكاديمية الفنون الجميلة و الاعتقال السادس
في نفس العام 1965 ، تخرجت في اعدادية الحلة المسائية / القسم الأدبي ، و بمعدل 78% . فقدمت أوراقي للقبول في أكاديمية الفنون الجميلة بجامعة بغداد لولعي العتيد و ممارستي العملية لمختلف الفنون الجميلة كالخط العربي و العزف على الكمان و التمثيل ضمن فرقة بابل للفنون التابعة لمديرية المعارف في الحلة ، بقسميها الموسيقي بإشراف الأستاذ الموسيقار رشيد محمد علي ، و المسرحي بإشراف الأستاذ المخرج فاضل الخفاجي . و قد كنت آنئذٍ مشاركاً مواظباً في النشاطات الموسيقية و المسرحية لهذه الفرقة و ذلك بمعية زملائي الفنان الكبير فاضل شاكر و الفنان المبدع فارس عجام و عازف الكمان و الملحن الكبير الأستاذ عدي صاحب عبيد و الفنان المسرحي الموهوب : محب الدين - و هو من أهل الموصل - و الفنان و رسام الكاريكاتير الأستاذ سمير ، حيث كنا نتدرب في قاعة المعارف (التربية حالياً) الواقعة بمحلة الهيتاويين . و قد أخرجنا ثلاث مسرحيات - أذكر أن اسم أحداها هو : خبز و ملح – و مثلناها على خشبة المسارح المدرسية في القاسم و قضاء طويريج (قضاء الهندية) و المحاويل و المسيب و الديوانية .
و استناداً لهذه الخبرة العملية ، جاء تقديمي لأوراق القبول في قسم الفنون المسرحية . آنذاك ، كان من ضمن شروط القبول في أكاديمية الفنون الجميلة - بقسميها الفنون المسرحية و الفنون التشكيلية - هو وجوب اجتياز الطالب لامتحان القبول الذي تجريه لجنة المقابلة . و كانت لجنة الفنون المسرحية برئاسة الفنان و الأستاذ الكبير المرحوم أسعد عبد الرزاق ، عميد الأكاديمية ، و عضوية الأساتذة المربين من أساطين المسرح و السينما في العراق : ابراهيم جلال و وجيه عبد الغني و جعفر السعدي و جعفر علي و فاضل خليل و كاظم حيدر و سامي عبد الحميد و سليمة خضير و غيرهم ممن لا تحضرني أسماؤهم الآن ، للأسف . و بالفعل ، فقد اجتزت الاختبار بنجاح ، و صادقت لجنة المقابلة على قبولي بقسم الفنون المسرحية . و كان من بين زملائي المقبولين بنفس الدورة في الأكاديمية : الفنان الكبير و الأستاذ الدكتور فاخر محمد و الفنان الأستاذ قاسم صبحي .
باشرت بالدوام في أكاديمية الفنون الجميلة لثلاثة شهور ، سكنت خلالها في القسم الداخلي لمخصص لطلبة الأكاديمية و الكائن في الأعظمية ، قرب الكسرة ، حيث تطل بنايته الجميلة على نهر دجلة الخير . و في مساء يوم كالح ، دخل مدير القسم الداخلي غرفتنا – السيد الأستاذ مؤيد المعروف و أنا – و سأل :
- منو كاظم الشيخ حمود ؟
فأجبته :
- أنا .
قال :
- أنا مُبَلَّغ ، من الآن فصاعداً ، أنت ممنوع من الدخول للقسم الداخلي لطلبة أكاديمية الفنون الجميلة !
في نفس المساء ، حملت كتبي و عفشي على مضض ، و انتقلت إلى دار شقيقتي الكائن في محلة الشوَّاكة .
بعدها بأسبوع ، جاءني إلى غرفة الصف الجامعي إثنان من رجال الأمن بالملابس المدنية ، و ذلك أثناء الدرس الذي ندرسه و عنوانه "الحركة الفنية" بمحاضرة الأستاذ الشاب : فاضل خليل ، و سألا :
- منو كاظم الشيخ ؟
- أنا .
- تفضل معنا !
اقتادني رجلا الأمن أولاً إلى مسؤول الأمن في مركز شرطة الأعظمية ، ألذي أمرهما :
- سيِّروه لمركز شرطة السراي .
اقتادني رجلا الأمن مرة أخرى إلى سجن مركز شرطة السراي الكائن في حينها عند نهاية شارع المتنبي ، حيث بقيت رهن الاعتقال هناك طيلة أربعة شهور تقريباً ، التقيت خلالها بالعديد من طلاب جامعة بغداد المعتقلين معي ممن نسيت أسماءهم لأسفي الشديد ، و إن كنت أتذكر جيداً رفيقي و صديقي المعتقل : الأستاذ عبد الرحمن ، من أهالي الناصرية .
بابل ، 27/1/2017
يتبع ، لطفاً .