الحرب الأهلية في المغرب


عبد السلام أديب
الحوار المتمدن - العدد: 5403 - 2017 / 1 / 15 - 09:51
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

تعيش أغلبية الطبقات الشعبية المسحوقة منذ أزيد من ستين سنة في ظل حرب أهلية طبقية باردة على جميع الواجهات، وذلك عقب كل ما عانته في ظل الهيمنة الاستعمارية الفرنسية. فالتحالف الطبقي المسيطر يستثمر اقتصاديا في الطبقات الشعبية المسحوقة عمالا وفلاحين بعدوانية منقطعة النظير من أجل تحقيق تراكمه الرأسمالي البدائي دون الاهتمام ولو لحظة بمستقبل هذه الجماهير ومستقبل شبابها. فمن نهب الأراضي الفلاحية المفروض استرجاعها من المعمرين الى أصحابها الشرعيين، خاصة أراضي وضيعات القبائل الأمازيغية الخصبة في مناطق الشمال والوسط والجنوب، الى انتزاع الأراضي الخصبة في الغرب من أصحابها الشرعيين كما حصل بالنسبة لأراضي أولاد خليفة سنة 1970، الى رفع معدلات الضرائب المباشرة وغير المباشرة على الأجور والسلع والخدمات الضرورية للكادحين وتخفيف هذه المعدلات أو الاعفاء منها لأصحاب الشركات والثروات والمهن الحرة، الى الاقتطاع من التمويلات الخارجية الهائلة لاستثمارات القطاع العمومي، الى خوصصة القطاع العمومي بأسعار زهيدة، الى الالتفاف على الأراضي السلالية من اجل انتزاعها لبناء فيلات وقصور ومستوطنات للأغنياء على حساب أراضي الطبقات الشعبية المسحوقة، أنظر نماذج ذلك في محيط مدينة تارودانت ومنطقة أولوز. وقد شكلت هذه الحرب الاهلية متواليات هجومية دورية منذ اتفاقية اكس ليبان الخيانية التي رسمت استقلالا شكليا لا علاقة له بالنضالات الشعبية الثائرة، ولم تعرف هذه الهجومات الاثتصادية المتوالية قعرا أو حدودا لشراهة التحالف الطبقي الحاكم، وبذلك اتسم الواقع الاقتصادي والاجتماعي بتقاطب مزدوج يتزايد تباعدا وتناقضا بين طبقات شعبية مسحوقة تزداد تقهقرا وفقرا وامية، من جهة، وأقلية من تحالفات الأسر الطبقية التي ورثت هيمنتها منذ ما قبل الحماية ودعمته من خلال تعاونها مع العدوان الاستعماري الفرنسي، فاستطاعت من خلال ذلك تعميق مراكمة ثرواتها وترتيبها الدولي بين أغنى أغنياء العالم على حساب افقار متزايد للأغلبية الشعبية المسحوقة.

ولكي يحافظ التحالف الطبقي البرجوازي الكومبرادوري الحاكم على سيرورة استثماراته وتراكمه البدائي، فقد عمل على تسخير جهاز الدولة وأدواتها الاكراهية من جيش وشرطة ومخابرات وجهاز قضائي وادارات وزارية ومالية وبنك مركزي لخدمة هذا التراكم. فالدولة المغربية الحديثة التي تمت وراثتها عن المستعمر، استخدمت كأداة طبقية لممارسة هذه الحرب الأهلية لتعميق الاستثمار في الطبقات الشعبية المسحوقة ومراكمة رؤوس الأموال على حسابها. ومن خلال ممارسة التحالف الطبقي الحاكم للحكم المطلق عبر هذه الدولة الطبقية، استطاعت تشكيل خردة من الأحزاب السياسية اليمينية واليسراوية والاسلاموية لتدعيم رأسمالية الدولة والوقوف حاجزا أمام تطور أي وعي طبقي جنيني لدى المستثمر بهم من عمال وفلاحين فقراء. كما تم تشكيل قيادات للمركزيات النقابية من أجيال متوالية من البرجوازية الصغرى الانتهازية التي مارست بيروقراطيتها ووقفت سدا منيعا أما أي تبلور للوعي الطبقي.

كما أن مسرحية الحكم "الديموقراطي" المطلق للدولة الرأسمالية الاحتكارية في بلادنا تتم من خلال فبركة الانتخابات الشكلية التي تصرف على تنظيمها الملايير من الدراهم وتعبئة كافة وسائل الاعلام المقروءة والمسموعة والمرئية لخداع الطبقات الشعبية المسحوقة وجرها لصناديق الاقتراع جرا وقمع كل محاولة لمقاطعة الانتخابات وبالتالي افراز تشكيلات برلمانية هزلية تنبثق عنها حكومات شكلية تخضع لتعليمات فوقية، وليس لها من حرية في السلطة سوى التصرف فقط في رفع معدلات الضرائب وفي أسعار المنتجات والخدمات والمحروقات والاجهاز على كافة المكتسبات وقمع الجماهير المحتجة بكل قوة. ولقد رأينا تجسيدا لهذا الاتجاه بشكل مكشوف خلال خمس سنوات الأخيرة في ظل حكومة بنكيران.

تلك هي اذن معالم الحرب الأهلية الطبقية الباردة وأطرافها وأهدافها وأدواتها والتي تعيش تحت نيرها أغلبية الطبقات الشعبية المسحوقة في مختلف المناطق والمحرومة من أداتها السياسية. فما هي حقيقة التحالف الطبقي الحاكم الذي يشن هذه الحرب؟ وما هي طبيعة الوسائل التي يعتمدها؟ وما هي انعكاسات هذه الحرب على المدى المتوسط والطويل؟ ثم ماذا تشكل الطبقة العاملة ضحية هذه الحرب في موازين القوى لو تمكنت من تنظيم نفسها؟ ثم لماذا لا زالت هذه الطبقة في بلادنا مشتتة ومغتربة ومسحوقة؟ ومن هي الشرائح الاجتماعية الانتهازية التي تستعمل في استمرار خداع البروليتارية من أجل تسهل استغلالها؟ ثم ما هي احتمالات تحول هذه الحرب الباردة الى حرب حارة مع بث شعلة الوعي الطبقي في أوصال الطبقات الشعبية المسحوقة؟


أصول التحالف الطبقي الحاكم

ان كل دارس لتاريخ المغرب سيتعرف بسهولة على أجداد البرجوازية الكومبرادورية المغربية الحالية، فهي عبارة عن برجوازية تنحدر من عدد من الأسر التي كانت متحلقة حول السلطان قبل ابرام معاهدة حمايتها سنة 1912 مع فرنسا في مواجهة انتفاضات القبائل الامازيغية بالريف والاطلس والمنطقة الشرقية والصحراء. وتتشكل هذه الاسر من الاعيان الحاكمة ذات الأصول العربية والمنحدرة في اغلبيتها من عائلات يمتهن بعضها الدين كتجارة رابحة من خلال هيمنتها على الزوايا الدينية والتي استعملت في منح الشرعية الدينية للسلطة المركزية كالزاوية الوزانية مثلا التي واكبت صعود الدولة العلوية والتي امتد نفودها حتى تونس شرقا وحتى السنغال جنوبا وتمكنت من تنصيب أسرها وابنائها سفراء ووزراء أمناء ماليين بالوراثة. كما شكل بعض هذه الاسر القادمة من الاندلس أو من الجزيرة العربية كبنو هلال وبنو سليم، مع الزمن كبار الاعيان المساندين للسلطة المركزية والذين أسندت لهم اقطاعيات شاسعة بفلاحيها ومواردها الطبيعية الخصبة مقابل حماية نفوذ السلطان في مناطقها النائية من حركات الامازيغ المضطهدين الملتجئين قسرا نحو جبال الاطلس أو الريف. كما كان بعض هذه الاسر ينحدر من الصناع التقليديين بمختلف المدن المغربية العريقة كفاس ومكناس ومراكش وتطوان وطنجة وآكادير. وحتى وان لم تكن ثروات هؤلاء لا تضاهي ثروات باقي الاسر النافذة الأخرى نظرا لارتفاع معدلات الضرائب التي كانت مفروضة عليهم الا انهم استطاعوا اكتساب مستويات محترمة من العلم والمعرفة مما أهلهم من اختراق مناصب سلطوية والاستفادة مما تدره عليهم من مداخيل ونفوذ.

تلك اذن هي باختصار الأصول التي انحدرت منها البرجوازية الكومبادورية بالمغرب، وهناك كتب وأطروحات كثيرة تفصل في هذا الجانب أو ذاك يمكن العودة اليها منها على سبيل المثال كتاب ادريس بن علي المغرب ما قبل الرأسمالية وكتاب علي بنحدو حول أقليات المملكة ... وتعتبر هذه البرجوازية كومبرادورية لأنها تراكم رؤوس أموالها في ظل التبعية للقوى الأجنبية المتغلغلة في المغرب منذ أواخر القرن التاسع عشر وتأتمر بأوامرها وتكتسب جنسياتها بالإضافة الى جنسيتها المغربية وحيث تراكم ثرواتها من خلال خدمة هذه القوى الأجنبية كوكيل محلي لمصالحها والمحافظ على امتيازاتها. وستتطور هذه العلاقات الكومبرادورية الوسيطة لكي تتشكل لوبيات واسعة الثراء وتهيمن على رخص دولية في المجالات الصناعية والتجارية والخدمات. ولقد شكلت فترة الحماية فرصة مهمة لهذه البرجوازية الكومبرادورية لكي ترسخ معرفتها بأساليب تدبير نمط الإنتاج الرأسمالي وكيفية خلق ومراكمة الرأسمال البدائي عبر نهب فائض القيمة من عرق جبين الكادحين العمال بالمدن والفلاحين الفقراء بمختلف البوادي المغربية.

ان الارتباط القوي بين مصالح هذه البرجوازية الكومبرادورية ومصالح الرأسمال المالي الدولي يجعل منها قوى سياسية شرسة عدوانية في مواجهة كل معارضة شعبية تتشكل تحت تأثير الاستغلال والنهب، ويشهد تاريخ المغرب الحديث عن مستوى شراسة التنكيل بطليعة المعارضة الجماهيرية للنهب والاستغلال وللسياسات التي تخدم هذا النهب والاستغلال. فطيلة أربعة عقود ظل التنكيل بالمعارضين سيد الميدان وبلغ صيته حتى خارج البلاد تحت تسمية "سنوات الرصاص". لذلك فإن إطلاق صفة الحرب الاهلية على كيفية تطور الواقع السياسي في المغرب منذ الاستقلال الشكلي لسنة 1956 والى اليوم ليس فيه تجني على أحد. وهي حرب أهلية لأن المعتدي والمعتدى عليه ينتميان لنفس الشعب المغربي، الا أنها حرب أهلية مختلة، لأن الطرف المعتدي يملك كل عناصر القوة الى جانبه وفي مقدمتها جهاز الدولة ومؤسساتها ومحاكمها وعسكرها وشرطتها ومخابراتها، بينما الطرف المعتدى عليه فهو طرف مجرد من أي سلاح سوى رفضه للعدوان وسوى تنديده بهذا النهب والاستغلال والاستثمار في قوة عمله والذي يشكل القاعدة المادية لرؤوس الأموال المتراكمة، فالطرف المعتدى عليه مغترب بشكل كامل اقتصاديا وسياسيا ودينيا نحو الطرف المعتدي الذي يريده ان يبقى غارقا في اغترابه. لذلك تشكل العسكرة والتنكيل والقمع الجواب السياسي الوحيد للدولة الطبقية الكومبرادورية في مواجهة المطالب الأساسية للجماهير الشعبية.

لقد شكل ضغط الجماهير الشعبية المتعطشة للتحرر والحرية مجالا خصبا لظهور تيارات سياسية ثورية منذ فرض الحماية وانزال الجيوش المستعمرة الفرنسية على التراب المغربي وهي تيارات تتوخى التحرر من الاستعمار المباشر والقضاء على خيانة الأعيان والطبقات المهيمنة تاريخيا، وقد انطلقت هذه التيارات السياسية على قاعدة رموز المقاومة المسلحة في جبال الريف بقيادة عبد الكريم الخطابي وبجبال الاطلس بقيادة موحا أو حمو الزياني وبالمنطقة الشرقية بقيادة عسو أوبسلام وبالصحراء بقيادة الهبة ماء العينين، ثم تلى ظهور المقاومة السياسية بالمدن على يد تنظيمات سياسية سرية متعددة من بينها تنظيم الهلال الأسود بقيادة عبد الله الحداوي. وأمام تراكم الضربات المتوالية لقوى المقاومة لأساسات الوجود الاستعماري الفرنسي وخاصة مع تشكل وظهور جيش التحرير في الجبال بدأ المستعمر يفكر في كيفية خروجه بدون خسارات كبيرة وترك حماة مصالحه خلفا له في المجالين السياسي والاقتصادي، وبذالك تم ترتيب مؤامرة أوفاق ايكس ليبان الخيانية وتمرير مفاتيح البلاد، لنفس الأسر والاعيان التي كانت تحكم البلاد قبل ابرام معاهدة الحماية وتعاونت مع المستعمر خلال تواجده، في هذه الظروف تشكل التحالف الطبقي الحاكم الذي واصل مراكمة ثرواته على أساس ما تعلمه من المستعمر من أساليب النهب والاستغلال المفرط لليد العاملة المأجورة في جميع المجالات الاقتصادية الصناعية والفلاحية والتجارة والخدمات، حيث يتم نهب فائض القيمة الذي تنتجه اليد العاملة في هذه المجالات مباشرة عبر الأجور الزهيدة التي تسلم لهم ثم بشكل غير مباشر عبر ترسانة من القوانين تعتمد من طرف المنتخبون البرجوازيون الصغار على اختلاف الوانهم السياسية بالبرلمان تستهدف الرفع المتواصل لمعدلات الضرائب على الأجور أو تعمل على الرفع المستمر لأسعار المنتجات والخدمات التي تنتجها نفس هذه الشغيلة. كما تتدخل الابناك بتقنياتها وألاعيبها لاستقطاع عمولات ضخمة من الأجور والرواتب.

وهكذا عرفت البرجوازية الكومبرادورية المغربية انطلاقتها تحت رعاية الرأسمال الأجنبي الاستعماري الجديد وبدعم من مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية في تثوير مستمر لأدوات انتاجها والمحافظة على نفس علاقات الإنتاج المختلة المتولدة عنها والمدرة لفوائض القيمة الرأسمالية. وقد أدى هذا التناقض الكامن بين التثوير المستمر للإنتاج من جهة، في مقابل علاقات الإنتاج المختلة باستمرار من جهة أخرى، الى زعزعة واختلال متواصلين للنظام الاجتماعي المغربي بكامله. وفي ظل هذا الاضطراب والقلق المتجددين بدأت كافة العلاقات الاجتماعية التقليدية تتفسخ وتتفسخ معها كافة التصورات والأفكار التقليدية. فالحياة الاجتماعية ما إن تعرف بعض الاستقرار النسبي حتى تعصف بها الازمات الرأسمالية الدورية فتجد الجماهير الشعبية نفسها مضطرة لسداد فاتورة مرتفعة التكاليف تحت وقع السياسات العمومية المعتمدة التي تستهدف تعويض التحالف الطبقي الحاكم عن خساراتهم الاقتصادية على حساب العمال والفلاحين الفقراء، مما يحقق المزيد من استنزاف فائض القيمة لفائدة البرجوازية الكومبرادورية التي تراكم الثروات تلو الثروات سواء خلال فترات الرواج أو خلال فترات الأزمة، وحيث يظل الممول الرئيسي لهذه الثروات هي الطبقات الشعبية المسحوقة وما ينهب منها من فوائض اقتصادية.

إن تسويق البرجوازية الكومبرادورية لمنتجات الطبقة العاملة المغربية في معاملها دوليا مكنها من تحقيق أرباح هائلة بالنقد الأجنبي، وعبر هذه الحاجة المتزايدة للأرباح الدولية أصبح الاقتصاد البرجوازي المغربي اقتصادا متجها بالدرجة الأولى نحو الخارج مما أدى الى ازدهار المدن الساحلية بفضل موانئها التصديرية على حساب المدن الداخلية، وحتى تحافظ البرجوازية المغربية على تنافسيتها أخذت تعشش في كل مكان وتستغل الايدي العاملة المغربية في كل مكان وتفرض نفس العلاقات الإنتاجية المختلة في كل مكان. وأمام أزمة فائض الإنتاج الصناعي الرأسمالي، أخذت البرجوازية الكومبرادورية تستهدف رسملة الإنتاج الفلاحي بوثيرة أكبر مما كانت تفعله خلال عقدي الستينات والسبعينات والثمانينات، وانطلاقا من ذلك بدأت عمليات الاستحواذ على الأراضي الفلاحية الخصبة للفلاحين الفقراء في عدة مناطق خاصة بسهول سوس وتارودانت. وحيث يتم استبدال الإنتاج المتنوع بالإنتاج الوحيد الموجه نحو التصدير وفي استنظاف هائل للمياه الجوفية لري هذه المنتجات الموجهة نحو التصدير. وقد افرزت هذه الظاهرة أربع عواقب وخيمة على الجماهير الشعبية، وهي استنزاف المياه الجوفية مما يجعل من العسير على الفلاحين الفقراء الوصول الى مياه الري لري زراعاتهم المعيشية ثم ثانيا ضرب الامن الغذائي مما يضطر الدولة الى استيراد المواد الغذائية بالنقد الأجنبي لسد الخصاص ثم ثالثا انهاك الأراضي بالزراعات الوحيدة واستعمال المبيدات السامة، ثم رابعا تحويل ريع وارباح الصادرات بالنقد الأجنبي نحو الابناك الأجنبية بحيث لا يستفيد منها الاقتصاد المحلي.

إن القطاع العمومي الواسع الذي كان يشمل الفلاحة والصناعة والخدمات والذي انشأه التحالف الطبقي الحاكم أواخر عقد الخمسينات نظرا لعجز البرجوازية الكومبرادورية آنذاك عن إدارة اقتصاداتها الرأسمالية الحديثة وعدم توفرها على الإمكانات التمويلية اللازمة، وحيث ظلت الدولة تستدين من مؤسسات التمويل الأجنبية بمبالغ مالية هائلة لتمويل مشاريعها الاستثمارية على حساب دافعي الضرائب، فإن الأمر لم يعد كذلك أواخر عقد السبعينات نتيجة العجز والمديونية الهائلة الذي بدأ يعانيه هذا القطاع بعد استنزافه بواسطة النهب على الخصوص حينما كشفت التحقيقات عن الملايير المنهوبة من مختلف المؤسسات العمومية. كما أن هذا القطاع أصبح يقف حائلا أمام توسع مجال استثمارات البرجوازية المغربية ووكلائها من الرأسمال المالي الدولي الذي بدأ ينظر في القطاعات العمومية للشعوب المستقلة حديثا مثل المغرب بمثابة كعكعة قابلة للاستغلال ومعالجة مؤقتة لازمتها الهيكلية المتفاقمة منذ بداية عقد السبعينات.

إن ما شجع البرجوازية الكومبرادورية المغربية على السير قدما في هذه الطريق رغم المقاومة الشعبية الشرسة ورغم الانتفاضات العنيفة التي انفجرت سنوات 1981 و1984 و1990 ، هي الحماية الامبريالية للنظام السياسي المغربي خلال سنوات الرصاص، وهي السنوات التي بلغ فيها مستوى القمع السياسي والاختطافات والتعذيب والسجون والاعدامات السرية درجات عليا، أنظر ما حدث للحركة الماركسية اللينينية المغربية خلال الموجتين القمعيتين لعقدي السبعينات والثمانينات. فأسلوب الاستغلال والنهب المنفلتين لا يستقيم مع الفضح والادانة والمقاومة الشعبية المتزايدة لأن ذلك سيعيد النظر في ثروات وأرباح التحالف الطبقي الحاكم ووكلائه من القوى الامبريالية العالمية لذلك تمكن النظام من اخراس مؤقت لكل مقاومة شعبية تسعى الى التحرر.

إن الأزمات الاقتصادية الدورية شكلت دائما بالنسبة للبرجوازية الكومبرادورية مناسبة جديدة لإعادة هيكلة قاعدتها الاقتصادية وتطوير وسائل انتاجها واختلاق أزمة بنيوية جديدة هدفها تطوير وسائل انتاجها واحلال علاقات استغلال جديدة محل علاقات الاستغلال القديمة، والتي يذهب ضحيتها الآلاف بل الملايين من الايدي العاملة التي يتم تسريحها أو تخفيض اجورها أو تصاب بامراض وعاهات مستديمة نتيجة عدم احترام شروط العمل الدولية.

فمثلا خلال ازمة عقد الثمانينات المتمثلة في ارتفاع المديونية الخارجية وتفاقم مختلف العجوزات كعجز الخزينة وعجز الميزانية والعجز التجاري وعجز ميزان الأداءات، لجأ التحالف الكبقي الحاكم الى سياسات التقويم الهيكلي التي ركزت على تدمير الكثير من مناصب الشغل عبر الخوصصة وعبر تجميد التوظيف وعبر التسريحات الواسعة للأيدي العاملة وعبر إيقاف العديد من الخدمات العمومية. فالتحالف الطبقي الحاكم استطاع بواسطة هذه المناورة توفير ادخار مالي هائل عوض به نسبيا ما فقدته البرجوازية الكومبرادورية من أرباح مباشرة في ظل ازمة نمطها الإنتاجي.
نفس الشيء حصل مع أزمات عقد التسعينات وأيضا مع أزمات العقد الأول من الالفية الثالثة وحيث يتم اللجوء باستمرار إلى رفع الضرائب والأسعار بشكل دوري ومتواتر، في علاقة مباشرة مع عمليات الخوصصة الواسعة ومطالب الشركات الدولية المستثمرة بتحرير الأسعار، وهو ما يشكل أحد أشكال التعويض المالي عن الخسارات الهائلة في الأرباح نتيجة للازمة والتناقضات المتواصلة لنمط الإنتاج الرأسمالي .

إنها إذن حرب طبقية متواصلة على الطبقات الشعبية، وافقار دائم لشرائح طبقية جديدة بحيث تشهد الساحة الاجتماعية بلترة متزايدة للعديد من شرائح البرجوازية الصغرى التجارية والصناعية والخدماتية، خاصة وان السياسات العمومية التي استهدفت خلال عقدي الثمانينات والتسعينيات من القرن العشرين التسريحات الجماعية المواكبة لعمليات الخوصصة وتجميد التوظيف العمومي وتجميد الأجور خاصة لدى الفئات الدنيا فالراتب الأساسي لم يبرح مكانه منذ سنة 1985، فإن السياسات العمومية المعتمدة خلال العقد الأول والعقد الثاني من الألفية الثالثة استهدفت على الخصوص البرجوازية الصغرى والتي كانت تستفيد من مجانية التعليم والصحة العموميتين ومن الكثير من الخدمات العمومية الأخرى بأسعار رمزية كما كانت تستفيد من دعم صندوق المقاصة للمواد الأساسية والمحروقات، فقد عملت هذه السياسات على ضرب هذه الخدمات العمومية ودمرت صندوق المقاصة بل قلصت حتى من رواتب الموظفات والموظفين جراء هذا الضرب المنهجي والذي طال حتى الصندوق المغربي للتقاعد رغم كونه يحقق سنويا أرباحا بالبورصة تصل الى ستة مليار درهم، فسياسات حكومة بنكيران الأولى والثانية ركزت ضرباتها على هذه المجالات التي تهم البرجوازية الصغرى مما أدى الى تدهور مستوى معيشتها نتيجة تدهور سريع لعائدات مصادرها الاقتصادية التي تعرف تنافسية رأسمالية ذات بعد دولي لا قبل لها على مجابهتها والانتصار عليها، كما تعرف تآكلا متزايدا نتيجة خوصصة التعليم والصحة وضرب صندوق المقاصة.
والخطير في هذه الحرب هي أن ملايير المؤسسات العمومية كالقرض الفلاحي وصندوق الضمان الاجتماعي والتعاضدية العامة للوظيفة العمومية... الخ المنهوبة والمعروف شخصيات من نهبوها بقرارات قضائية رسمية يتم العفو عنهم بجرة قلم بمقولة عبد الاله بنكيران "عفا الله عما سلف، ومن عاد فينتقم الله منه". إنه نظام الغنائم التي نسمع عنها خلال الحروب والمعارك الطاحنة بين قبائل الجاهلية، حيث يتم استحسان النهب والقتل والتدمير ووضع اليد على غنائم الجماهير التي تم غزوها.

أمام تفاقم الأزمة المالية والاقتصادية العالمية لسنوات 2008 – 2014، استغل التحالف الطبقي الحاكم هذه الفرصة لتعميق هجومه الواسع وزيادة غنائمه على الطبقيات الشعبية المتوسطة والصغرى، فقد استغلت حكومة بنكيران بصغتيها الأولى والثانية المرجعية الدينية لخداع الأغلبية من الطبقات الشعبية المسحوقة التي رأت في مسحوقها الديني الوهمي ربما خلاصا لها من عواقب الازمة. لكن حكومة بنكيران لم تتسلم الحكومة الا لخدمة التحالف الطبقي البرجوازي الحاكم مثلها مثل الحكومات التي تعاقبت على الحكم منذ الاستقلال الشكلي وبالتالي معالجة ازمتها الهيكلية والدفع بالحرب الطبقية على الطبقات الشعبية المسحوقة الى اقصى حدودها. فكل ما عجزت الحكومات السابقة عن فعله استطاعت هذه الحكومة إنجازه في ظرف خمس سنوات باستعمال الدين.

ان المغرب في أواخر سنة 2016 ورغم الحرب الطبقية الهائلة للتحالف الطبقي البرجوازي المهيمن على الطبقات الشعبية المسحوقة والتي سلبت منها كافة مكتسباتها من اجل معالجة مؤقتة لأزمة نمط الإنتاج الرأسمالي المزمنة، يوجد في وضع من التخلف والانهيار الاقتصادي والسياسي لا مثيل له، فجميع السياسات العمومية والإجراءات المتخذة من طرف الحكومة لم تفتح المجال أمام استثمارات اقتصادية ملموسة وإنتاج مادي حقيقي، بقدر ما شكلت وسيلة لتمييل الاقتصاد وتوفير سيولة هائلة بدون توفر مجالات واسعة للاستثمار المادي، بمعنى المزيد من الغرق في الكساد الواسع وفي ظهور بوادر جديدة للتضخم خصوصا مع قرار بنك المغرب المركزي القاضي بتعويم العملة ابتداء من منتصف سنة 2017. كما تبدو بوادر عواقب هذه السياسات في الأفق المنظور كارثية على الجماهير الشعبية المسحوقة خصوصا عندما سيبدأ العمل بخوصصة كاملة لقطاعي التعليم والصحة العموميتين.

واذا كانت حكومة بنكيران الأولى قد استفادت من ظروف استثنائية (سنوات ممطرة، انخفاض سعر برميل النفط دوليا، هبات البترو دولار الخليجية التي تجاوزت خمسة مليارات ...) من أجل تمرير حربها الطبقية خلال خمس سنوات السابقة. فان الامر سينقلب رأسا على عقب ابتداء من سنة 2017، مع اضافة قرار تعويم العملة الى المشهد الاقتصادي والمالي القائم. إن ما أنجزته حكومة بنكيران الى اليوم سيكون بمثابة منجزات الساحر الذي لم يعد يعرف كيف يتحكم في الشياطين التي استحضرها. فحتما ستنقلب تلك الشياطين على الساحر مهما كانت طبيعة الحكومة المقبلة.
إن التناقض الحاد بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج والذي بلغ مستويات عليا، تندر بانفجارات اجتماعية قوية مستقبلا، فالحرب الطبقية المتواصلة من جانب واحد على الطبقات الشعبية المسحوقة ومعاناة هذه الأخيرة من غياب اداتها السياسية المقاومة سوف لن يستمر طويلا، فسرعان ما سينقلب الوضع رأسا على عقب، خصوصا مع انهيار الأيديولوجية البرجوازية وكافة مساحيقها الاسلاموية اليمينية واليسراوية التي بلغت منتهاها، وخصوصا أيضا مع انفضاح ألاعيب الأحزاب السياسية والمركزيات النقابية وانكشاف مسرحياتها الهزلية التي تغطي على الحرب الطبقية القائمة.



جهاز الدولة وسيلة من وسائل الحرب الطبقية:

يفكك انجلز في كتابه، أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة، طبعة الدولة من خلال مقولته التالية: «الدولة ليست بحال قوة مفروضة على المجتمع من خارجه. والدولة ليست كذلك «واقع الفكرة الأخلاقية»، «صورة وواقع العقل» كما يدعي هيغل. الدولة هي نتاج المجتمع عند درجة معينة من تطوره؛ والدولة هي إفصاح عن واقع أن هذا المجتمع قد تورط في تناقض مع ذاته لا يمكنه حله، وأنه قد انقسم إلى متضادات مستعصية هو عاجز عن الخلاص منها. ولكيلا تقوم هذه المتضادات، هذه الطبقات ذات المصالح الاقتصادية المتنافرة، بالتهام بعضها بعضاً وكذلك المجتمعات في نضال عقيم، لهذا اقتضى الأمر قوة تقف في الظاهر فوق المجتمع، قوة تلطف الاصطدام وتبقيه ضمن حدود «النظام». إن هذه القوة المنبثقة عن المجتمع والتي تضع نفسها، مع ذلك، فوقه وتنفصل عنه أكثر هي الدولة».

نفهم من استنتاجات انجلز أن الدولة جهاز طبقي بامتياز يتبلور من داخل المجتمع حينما تستغله طبقة أو تحالف طبقي معين لفرض سيادته على كافة الطبقات الاجتماعية داخل المجتمع بدعوى حفض النظام، في حين أن الإشكالية الحقيقية لقيام الدولة هو التناقض الحاد بين مصالح الطبقة أو التحالف الطبقي المسيطر ومصالح باقي طبقات المجتمع. ولا يقتصر تحليل انجلز على الدولة في ظل سيادة نمط الإنتاج الرأسمالي بل ينطبق على أشكال الدولة في كافة الأنماط الإنتاجية السابقة. ففي عهد العبودية سادة دولة مالكي العبيد للإبقاء على الاستثمار العبودي وحماية مالكي العبيد من ثورة العبيد على مستغليهم. وفي عهد الاقطاع سادت دولة الاقطاعيين والملكية المطلقة للمحافظة على خضوع أقنان الأرض "عبيد الأرض" للاقطاعيين لمراكمة ثرواتهم. وفي ظل نمط الإنتاج الرأسمالي تسود حاليا الدولة البرجوازية للمحافظة على البروليتاريا "العبودية المأجورة" تحت هيمنة واستثمار البرجوازية الحاكمة.

وقد عرف المغرب تولي عدد من الأسر المهيمنة الحاكمة على أشكال من الدول الطبقية عملت على اخضاع باقي الاسر والطبقات لاستثماراتها الاقتصادية وتقوية هيلمانها. فقد تعاقب على حكم المغرب دولة الادارسة ثم دولة المرابطين ودولة الموحدين ودولة المرينيين ودولة الوطاسيين ودولة السعديين ودولة العلويين. وكانت كل اسرة حاكمة في ظل كل دولة على حدة تعرف مرحلة صعودها ولمعان نجمها نتيجة انتصاراتها في حروبها الاهلية على باقي الطبقات تم ما تلبت هذه الاسر ان تضعف وتنهار تحت الضربات الموجعة لباقي الطبقات الثائرة عليها. ويقدم لنا درس التاريخ خلاصة مهمة وهي أن لا دولة تكون قادرة على ضمان استمراريتها الى الأبد.

ويفسر لنا كارل ماركس أسباب انهيار الدول وانماط الإنتاج في خلاصته في مقدمة كتابه حول نقد الاقتصاد السياسي. ففي هذه المقدمة يشير ماركس الى أن أي نمط انتاجي يعرف مرحلة صعود عندما تكون هناك حالة انسجام بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج أي عندما تضمن قوى الإنتاج المتطورة توازنا لأطراف علاقات الإنتاج، لكن تناقض المصالح بين أطراف علاقات الإنتاج ورغبة الطبقات المهيمنة الزيادة في فائضها الاقتصادي بشكل مفرط على حساب الطبقات المسحوقة فتمارس عليها حربا اقتصادية مستمرة من أجل تحقيق مصالحها، هنا تتفاقم مختلف التناقضات والتي تصل الى مستويات عليا من اختلال العلاقة بين الطبقات المهيمنة والطبقات المسحوقة حينذاك يقول ماركس تبدأ مرحلة من الثورات الاجتماعية والتي تنتهي بانهيار نظام نمط الإنتاج القائم بل انهيار الدول والحضارات، وأبرز أمثلة على ذلك انهيار كل من الحضارة الفرعونية والحضارة الرومانية.

إن التناقض الحاد الذي يعرفه المغرب اليوم بين قوى الإنتاج المتقدمة جدا وعلاقات الإنتاج المتخلفة جدا بين تحالف طبقي حاكم يمارس حربا أهلية شعواء على الطبقات الشعبية المسحوقة قد بلغ مستويات عليا، فليس غريبا ان تتزايد حدة الصراع الطبقي بشكل موضوعي نتيجة شراسة الاستغلال والنهب والاستثمار وحيث لم يعد ينفع أي قدر من الدعاوى الإصلاحية والترقيع السياسيين التي تعودت عليها أحزاب الخردة والمركزيات النقابية البيروقراطية، وحيث شاهدنا بالملموس مدى اتساع رقعة المقاطعين للانتخابات التشريعية السابقة حيث وصل عدد المقاطعين الى 21 مليون نسمة وأن المصوتين لم يتجاوز ستة ملايين ونصف نسمة تقريبا. فهذا الرفض الواسع ليس للانتخابات بحد ذاتها بل لجميع أحزاب الخردة ومركزياتها النقابية بل رفضا للدولة الرأسمالية الكومبرادورية نفسها ولدستورها الممنوح. وهذا ما يفتح الباب بشكل جدي على مصراعيه للثورة البروليتارية للعمال الفلاحين الفقراء وتدمير الدولة الطبقية بالكامل من اجل إقامة دولة دكتاتورية البروليتاريا. وان كان هذه النتيجة ليست حتمية بل محتملة فقط فان شروطها أصبحت حاضرة بقوة خاصة اذا ما قررت طليعة البروليتاريا تشكيل أداتها السياسية على أسس متينة وعرفت تمثيلا طبقيا واسعا وحقيقيا. وهذا هو الشرط الذاتي المطلوب في أي ثورة اجتماعية حقيقية. بينما يبق حسم الصراع الطبقي رهينا بقوة الطرفين المتصارعين وذكاء تكتيكاتهما.

انعكاسات الحرب الطبقية اقتصاديا واجتماعيا

لا يمكن لأي مجتمع رأسمالي أن يعيش طويلا من دون ممارسة العنف الاقتصادي اتجاه الطبقات الشعبية المسحوقة من أجل تسهيل استثمارها، فاستثمار البرجوازية المهيمنة يتم أساسا على حساب الطبقات الشعبية المسحوقة. وحيث أن الرأسمال بحد ذاته لا يتكون الا من فائض قيمة قوة العمل الحي الذي يبدله العامل خلال يوم العمل. وقد تبث علميا ان الآلات والعمل الميث لا ينشأ عنه فائض القيمة المكون لرأس المال. لذلك فإن العامل يعتبر ضروريا للبرجوازي لكي ينتزع منه فائض القيمة، فرأس المال هو ناتج قوة عمل العامل بالضرورة. وعلى أساس هذه السرقة لفائض القام يحدث اغتراب مزدوج اغتراب العامل اتجاه ناتج قوة عمله وهو رأس المال الذي يستحوذ عليه البرجوازي، واغتراب البرجوازي اتجاه تعطشه لاستغلال قوة العمل، ويعتبر هذا الاغتراب المزدوج هو الأساس الأيديولوجي الحقيقي الذي تقيم عليه البرجوازية دولتها. فالدولة هي نوع خاص من تنظيم للقوة، أي تنظيم للعنف بقصد قمع طبقة من الطبقات. فالتحالف الطبقي الحاكم المستثمِر يحتاج بالضرورة إلى السيادة السياسية للإبقاء على الاستثمار، أي من أجل المصالح الأنانية للأقلية الضئيلة وضد الأكثرية الساحقة من الطبقات الشعبية المسحوقة.

أما الطبقات الشعبية المسحوقة فتحتاج بالضرورة تحت وقع حاجتها للاستمرار في الحياة الخضوع لاستثمارات التحالف الطبقي الحاكم رغم وعيها ان هذا الاستثمار سيبقيها هي وأجيال من أحفادها تحت دوامة الاستغلال والفقر. إذن فهناك حاجة متبادلة بين البرجوازي المهيمن اقتصاديا والبروليتاري الواقع تحت دوامة استغلاله. وكما تشير الى ذلك قوانين التراكم الرأسمالي فإن نمط التراكم يسير بشكل لولبي متصاعد سنويا محققا للبرجوازي متواليات تراكمية يوجه جزءا منها بالضرورة نحو تطوير قوى الانتاجمن أجل الرفع من معدلات أرباحه، بينما يظل العامل يتقاضى نفس الاجر في ظل التضخم المتزايد سنة بعد سنة مما يجعل مستواه المعيشي يتدهور بشكل لولبي، ولا يصيب هذا التدهور اللولبي الواقع الاجتماعي للعامل بمفرده، بل ان التأثير يكون جماعيا فتدهور معيشة العمال الجماعية بالإضافة الى تأثيرها القوي على معيشة اسرهم وامكانيات حصولهم على حاجيات أساسية أخرى من سكن ولباس وتعليم وصحة يعرف تدهورا أيضا ويوسع رقعة الامية والتخلف والظواهر الاجتماعية السلبية فانه يؤثر أيضا على معدل الطلب الكلي على المنتجات والخدمات المنتجة من طرف البروليتاريا والمستحود عليها من طرف البرجوازية. وهنا يحدث التناقض الحاد بين الكميات الوفيرة من المنتجات والخدمات المعروضة من طرف الباطرونا من جهة والقدرة الشرائية المتدهورة باستمرار لدى الجماهير الشعبية الكادحة التي تشكل اغلبية الشعب من جهة أخرى، وهذا ما يتسبب في أزمة فائض الإنتاج وعدم قدرة البرجوازية على تحويل المنتجات الزائدة الى أرباح، مما يدفع معدلات الربح نحو التدهور والانهيار وبالتالي حدوث أزمات سيولة وابناك وتشغيل وتسريحات جماعية للعمال واغلاق العديد من الشركات.

ويصدق هنا قول كارل ماركس في البيان الشيوعي أن : "جميع المجتمعات السابقة قامت على التناحر بين الطبقات الظالمة والطبقات المظلومة. لكن لابد للقدرة على اضطهاد طبقة من تأمين شروط معيشة لها تمكنها، في ظل الرق، من البقاء على قيد الحياة. ففي أوج القنانة استطاع القن بجهوده أن يرتفع إلى مستوى عضو في كومونة، وتحت نير الحكم الإقطاعي المطلق استطاع البرجوازي الصغير أن يرتفع إلى مستوى برجوازي. أما العامل الحديث فهو، بالعكس، بدلا من أن يرتفع مع تقدم الصناعة فإنه ينخفض باستمرار أدنى فأدنى إلى ما تحت شروط حياة طبقته ذاتها. فالعامل يصبح فقيرا والإفقار ينمو بسرعة أكثر من سرعة نمو السكان والثروة. فمن الواضح إذن أن البرجوازية لم تعد قادرة على أن تظل، لوقت أطول، الطبقة السائدة على المجتمع وأن تفرض عليه شروط وجود طبقتها كقانون أعلى. فهي لم تعد قادرة على أن تحكم، لأنها عاجزة عن تأمين العيش لعبدها حتى في إطار استعباده، لأنها مرغمة على أن تتركه ينحط إلى وضع يصبح عليها فيه أن تعيله بدلا من أن يعيلها. لم يعد المجتمع قادرا على العيش تحت سيطرة البرجوازية، وبعبارة أخرى لم يعد بقاء البرجوازية ملائما لبقاء المجتمع".

في ظل مرور الإنتاج الرأسمالي خلال الدورة الاقتصادية من حالة رواج الى حالة أزمة خانقة ونتيجة للاستغلال المفرط لقوة العمل وبروز مطالب عمالية مشروعة لتحسين شروط الاستغلال ومطالب بالزيادة في الأجور، تحدث مناوشات واصطدامات بين رغبات العمال المشروعة وإصرار الباطرونا على الرفض والتماطل واختبائها وراء الأزمة، مما يستدعي تدخل الأجهزة القمعية للدولة التي تقف الى جانب الباطرونا بشرطتها وقضائها فيتم تحميل الطبقة العاملة المظلومة بكامل المسؤولية فيستتبع ذلك القمع والطرد أو السجون. تلك إذن هي انعكاسات هذه الحرب الطبقية على العمال، فلنتساءل الآن عن ماهية الأدوار السياسية والنقابية التي تقوم بها الأحزاب السياسية والمركزيات النقابية في ظل الدولة البرجوازية؟

أدوات تشويه الفكر الطبقي البروليتاري

لقد ظل ما يسمى بأحزاب اليسار المغربي، أدعياء الاشتراكية يستبدلون النضال الطبقي بأحلام عن التوفيق بين الطبقات، فقد تصوروا إمكانية التحول الاشتراكي بصورة خيالية، لا على شكل إسقاط سيادة الطبقة المستثمرة، بل بصورة خضوع الأكثرية بشكل سلمي للأقلية المدركة لواجباتها. لكن هذه الطوباوية البرجوازية الصغيرة المرتبطة ارتباطا وثيقا بوجود دولة قائمة فوق الطبقات قد أدت عمليا إلى خيانة مصالح الطبقات الكادحة.

وتجد هذه الفلسفة الطوباوية أسسها الأيديولوجية لدى رموز التحريف الماركسي من أمثال برنشتين وكاوتسكي وهي نفس التحريفية التي طبعت ما يسمى بالاشتراكية الأممية وتطبع ممارسات العديد من الأحزاب الاشتراكية والشيوعية التي تشارك بشكل عادي في الانتخابات وحكومات العديد من البلدان الأوروبية وأيضا بلدان العالم الثالث مثل بلادنا بأحزاب مثل الاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية والحزب الاشتراكي الموحد .... الخ.

وتعتبر شرائح البرجوازية الصغرى المشكلة من محامون وأطباء وموظفون وصغار الصناع التجار وعددا من المهن والحرف، زعيمة هذه التيارات الاشتراكية اليسارية التحريفية، فهي تحارب البرجوازية لانقاد وجودها كطبقات وسطى من الزوال. لكن البرجوازية الصغرى ليست ثورية بل محافظة ورجعية، لأنها تسعى لجعل عجلة التاريخ تدور الى الوراء. ولا تصبح ثورية الا إذا أصبحت على وشك الانتقال الى البروليتاريا.

دور الاشتراكيين البرجوازيين المغاربة بمختلف أحزابهم لا يتجاوز مصالحهم الشخصية وهو الوصول الى كرسي برلماني أو الى منصب حكومي وأفضل مثال على ذلك هو الاتحاد الاشتراكي ومشتقاته، فقد تتبعنا مرافعاته منذ المؤتمر الاستثنائي لسنة 1975 الذي قرر فيه العمل على تغيير النظام السياسي من الداخل في اطار ما سماه بالنضال الديموقراطي في اتجاه بناء دولة برجوازية عصرية دولة الحق والقانون على النمط الغربي. لكن منذ ذلك الحين والى غاية مراهنته على دخول الحكومة سنة 1998، شهدنا كيف تبدل هذا الحزب بدلا من أن يتبدل النظام الذي أراد تغييره من الداخل. وبعد انتهاء مدة انتداب حكومة التناوب انتهت كل ادعاءات بورجوازياته الصغرى وانكشف أمام الجميع أنه مجرد أداة خادعة للطبقات الشعبية المسحوقة استعمل كوسيلة للاستمرار في استثمار قوة عمل الكادحين.

ولا زالت خيانة اليسار التحريفي تشكل عند وصول موعد الانتخابات التشريعية أو الجماعية مسرحية مليئة بالوعود وأطروحات تجميل وجه الدولة الطبقية القائمة وإمكانية جعلها محايدة وفوق الطبقات، مع اقتراح العديد من السبل لتخفيف شروط استغلال واضطهاد الكادحين. لكن انكشاف خيانة اليسار جعل قسما من الجماهير الكادحة المغتربة اقتصاديا ودينيا تعتقد سنة 2011 أن خلاصها لن يتم الا على يدى حزب إسلامي فراهنوا على حزب العدالة والتنمية بينما راهن النظام القائم على هذا الحزب لإبعاد شبح مخاطر ما يسمى بالربيع العربي الذي أطاح بالعديد من الرؤوس في البلدان المغاربية والعربية.

لكن حكومة بنكيران التي نجحت في ايعاد شبح ثورة شعبية عن النظام المغربي اجتهدت أكثر في مجال تعميق الحرب الطبقية وهجوم التحالف الطبقي الحاكم على ما تبقى من مكتسبات شعبية كإعدام صندوق المقاصة وتحرير أسعار المحروقات وفرض الثلاثي الملعون على نظام الصندوق المغربي للتقاعد، وتشديد قمع الاحتجاجات الجماهيرية بكافة اشكالها والعفو على البيدوفيل كالفان والعفو عن ناهبي المال العام وتطبيق قضاء التعليمات وطرد القضاة ... الخ.

لكن الدولة الرأسمالية الطبقية في المغرب لا تستعمل فقط في حربها الطبقية على الجماهير الشعبية المسحوقة حوالي أربعين من أحزاب الخردة اليمينية واليسارية والاسلاموية حسب الظروف وإنما أيضا حوالي 32 مركزية نقابية تابعة للدولة ولهذه الأحزاب. حيث تستعمل بيروقراطيات هذه المركزيات في تكسير كل عملية تطوير للوعي الطبقي وسط العمال والفلاحين حيث تعمل على تزييف عملية تأطيرهم وتوهمهم أن نضالاتها المجزءة القطاعية وحواراتها الدورية مع الحكومة والباطرونة المغشوشة هي السبيل للمحافظة على مصالحها الشغلية. لكن وهمية هذا الدور وخيانة البيروقراطية النقابية لمصالح الطبقة العاملة جعل نسبة التنقيب وسط العمال يتدهور الى نسبة 7 % فقط من مجموع العمال الذي يصل الى حوالي 12 مليون نسمة، فعنصر الثقة في هذه المركزيات النقابية التابعة لأحزاب البرجوازية الصغرى متدني الى أدنى المستويات.
الخلاصة إذن هي أن التناحر الطبقي والحرب الاهلية التي يشنها التحالف الطبقي الحاكم لا تعتمد فقط على أجهزة الدولة المختلفة بل أيضا على ترسانة من الأحزاب السياسية والمركزيات النقابية التي تهيمن عليها نخب من البرجوازية الصغرى التي تعمل على خداع الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء بايديولوجيات مختلفة بعضها يسراوي والآخر يميني والبعض الآخر اسلاموي، لكنها تلتقي جميعها في خدمة الاستثمار الرأسمالي في قوة عمل الكادحين لمراكمة الثرات في قطب التحالف الطبقي الحاكم ومراكمة الفقر والبؤس والضياع وسط الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء.


الطريق نحو التحرر

انهاء الحرب الأهلية والتناحر الطبقي هو من مسؤولية الطبقة العاملة وحلفائها من الفلاحين الفقراء، ولا يمكن أن يتحقق ذلك من دون صراع طبقي تشنه الطبقة العاملة المنظمة في اطارها السياسي وعلى أساس اديولوجيتها الطبقية الماركسية اللينينية. وبطبيعة أحال ان عملية التحرر لا تتم بين عشية وضحاها بل تتم عبر سيرورة طويلة تقوم على استراتيجيات واضحة تتحقق عبر تكتيكات مرحلية تنتقل فيها الطبقة العاملة من مرحلة وعيها الجنيني البدائي الى مرحلة وعيها العلمي الاشتراكي عبر صراعات يومية موضوعية ميدانية تشحد فيه الطبقة العاملة كافة أسلحتها النظرية والميدانية مما يؤهلها للقفز نحو مستويات عليا من النضال.

ويؤكد لينين في هذا الصدد: "إن إسقاط سيادة البرجوازية لا يمكن أن يتحقق إلا على كاهل البروليتاريا باعتبارها طبقة خاصة تعدها ظروف وجودها الاقتصادية لهذا الإسقاط وتعطيها الإمكانية والقوة للقيام بذلك. فبينما تعمل البرجوازية على تجزئة وتبعثر الفلاحين وجميع الفئات البرجوازية الصغيرى، تعمل البروليتاريا على رصها وتوحيدها وتنظيمها. فالبروليتاريا بحكم دورها الاقتصادي في الإنتاج الضخم، هي الوحيدة الكفء القادرة على أن تكون زعيما لجميع جماهير الشغيلة والمستثمَرين الذين تستثمرهم البرجوازية وتظلمهم وتضغط عليهم في حالات كثيرة ضغطا ليس بأضعف بل هو أشد من ضغطها على البروليتاريين، ولكنهم غير أهل للنضال المستقل في سبيل تحررهم.

إن تعاليم النضال الطبقي التي طبقها ماركس على مسألة الدولة وعلى مسألة الثورة الاشتراكية تفضي لا محالة إلى الاعتراف بسيادة البروليتاريا السياسية، بديكتاتوريتها، أي بسلطتها التي لا تقتسمها مع أحد والتي تستند مباشرة إلى قوة الجماهير المسلحة. إن إسقاط البرجوازية لا يمكن أن يتحقق الا عن طريق تحول البروليتاريا إلى طبقة سائدة قادرة على قمع ما تقوم به البرجوازية حتما من مقاومة مسعورة وعلى تنظيم جميع الجماهير الكادحة والمستثمَرة من أجل النظام الاقتصادي الجديد".

إن هذا المستوى العال الذي تحدث عنه لينين من انتظام البروليتاريا وقدرتها على اسقاط الدولة البرجوازية ونمط الإنتاج الرأسمالي وبالتالي إقامة ديكتاتورية البروليتارية في مرحلة انتقالية من اجل الغاء الطبقات وتعميم نمط الإنتاج الاشتراكي وبالتالي اضمحلال الدولة، رغم كونه يظهر مستحيلا في حالة وضع البروليتاريا المغربية المغتربة اقتصاديا وثقافيا ودينيا، الا ان الشرط الأساسي الذي يلمح له لينين هو تنظيم البروليتاريا في اطار حزبها الشيوعي الماركسي اللينيني. وبالفعل هي سيرورة طويلة من الصراع اليومي لبناء هذه الأداة على أسس متينة و"تحت نيران العدو".

بدلا من الخاتمة

شكلت هذه الورقة مجرد محاولة تحليلية لواقع التناحر الطبقي اليومي الذي يقوده التحالف الطبقي الحاكم في مواجهة الطبقات الشعبية المسحوقة بجناحيها الأساسيين الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء الذين يشكلان السواد الأعظم من المغاربة. فهي حرب اقتصادية شعواء منذ الاستقلال الشكل وتشكل وسيلة للاستثمار في قوة عمل هذه الطبقات ومن أجل التراكم الرأسمالي البدائي وخدمة مصالح الرأسمال المالي الدولي.

وقد تناولت الورقة أن سبيل التحالف الطبقي لضمان استمرار هذه الحرب الطبقية الاقتصادية هو الاعتماد على أجهزة الدولة الرأسمالية الاحتكارية وقطاعها العمومي في البداية ثم الانتقال نحو خوصصة كافة المقدرات الاقتصادية العمومية التي تم انشائها وتمويلها بواسطة الضرائب المفروضة على الخصوص على الجماهير الشعبية المسحوقة، وباثمنة رمزية للرأسمال المحلي والدولي، مع كل ما استتبع ذلك من تناقض في التقاطب بين ثراء فاحش لدى التحالف الطبقي الحاكم من جهة وفقر مدقع لدى الجماهير الشعبية المسحوقة من جهة أخرى.

وقد تواصلت هذه الحرب الاقتصادية الطبقية عند حدوث كل أزمة اقتصادية ومالية التي تعود الى الواجهة كل خمس أو سبع سنوات. ورغم هذه الأزمات والسكتات القلبية فان درجة اثراء التحالف الطبقي الحاكم بلغ مستويات عالمية، وهو اثراء ما كان ليحصل لولا الاستثمار البشع في قوة عمل الكادحين. ولم تكن هذه الحرب الطبقية تمر بدون انتفاضات جماهيرية قوية الا انها كانت تقوع بقوة ووحشية من طرف أجهزة الدولة القمعية.

ومن بين الأدوات الرجعية الخطيرة التي تستعين بها الدولة الرأسمالية الاحتكارية هناك الأحزاب اليمينية واليسراوية والمركزيات النقابية، فبيروقراطيات هذه الأجهزة الرجعية المختلفة تعمل على تشتيت الطبقة العاملة وخداعها عند قدوم كل استحقاق انتخابي، بينما هي في حقيقتها تخدم نفس مصالح الدولة الرأسمالية الاحتكارية.

كما تمت الإشارة في الأخير أن تحرر الطبقة العاملة لا يمكنه ان يتحقق خارج شروط ذاتية ترتبط بتنظيمها السياسي ونظريتها الثورية الماركسية اللينينية والاعتماد في صراعها الطبقي على مراحل استراتيجية وعلى تكتيكات مرحلية تنتقل عبرها من مرحلة مظفرة الى أخرى.