رؤية فلسفية: الثقافة لا تنشأ بقرارات فوقية


نبيل عودة
الحوار المتمدن - العدد: 5396 - 2017 / 1 / 8 - 00:19
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

رؤية فلسفية: الثقافة لا تنشأ بقرارات فوقية

نبيل عودة

لم نعد نسمع شيئا عن تيار الثقافة والفن المسمي بالواقعية الاشتراكية، وجدير بالذكر ان هذا التيار احتل الواجهة الثقافية بعد ثورة اكتوبر وقيام الاتحاد السوفييتي، والاصطلاح نفسه صاغه الأديب الروسي – السوفييتي مكسيم غوركي صاحب رواية "الأم" الرائعة، التي اعتبرت بداية أدب الواقعية الاشتراكية، وأصبحت الواقعية الاشتراكية معيارا ل "ألأدب الجيد" و"الأديب المناضل الثوري التحرري" في مواجهة التيارات الأدبية "البرجوازية والامبريالية والمعادية للإنسان" كما حرض عليها فكر النظام السوفييتي واتباعه، لدرجة ان المدارس الأدبية التي برزت في الثقافة الانسانية مثل المذهب التاريخي، المذهب الاجتماعي، المذهب الواقعي، المذهب الجمالي، المذهب الكلاسيكي، المذهب الرومانسي، المذهب الواقعي (اطلق عليه ايضا اسم الواقعية البرجوازية)، المذهب الرمزي، المذهب الوجودي، المذهب العبثي وغيرها من التيارات اختصرت كلها تحت صيغة "ثقافة برجوازية" مهمتها تبرير النظام الرأسمالي الاستغلالي.. الخ.
انا شخصيا تأثرت حتى النخاع بالأدب السوفييتي، بغض النظر عن تسميته، وقد قرأت تقريبا كل ما صدر من ترجمات الأدب السوفييتي، وكانت هناك دارا سوفيتية للنشر باسم "دار التقدم".
ابواق الدعاية السوفييتي وابواق اتباعها في الحركات الشيوعية روجوا بشكل واسع للواقعية الاشتراكية، وما زال بعض نقاد الأدب يستعملون هذا الاصطلاح وكان العالم لم يتحرك باتجاه مضاد حتى قبل سقوط الاتحاد السوفييتي وسقوط كل المفاهيم عن الواقعية الاشتراكية، ولا اقول سقوط الأدب والفن الذي انتج شكليا تحت صيغتها، لأنه كان ادبا انسانيا رائعا بكل المقاييس.
وهنا لا بد من سؤال: هل نشأ حقا تيار ثقافي بروليتاري باسم تيار الواقعية الاشتراكية؟
وهل يمكن نشوء تيار ثقافي بقرار سلطوي وبأوامر من الحزب الحاكم وقادته، كما كان الحال في الاتحاد السوفييتي؟ وهل هناك تشابه بين قرار انشاء ادب الواقعية الاشتراكية ونشوء آداب للطبقات الاجتماعية السائدة في المجتمعات قبل المجتمع الاشتراكي؟
هل ما عرف بأدب الواقعية الاشتراكية هو أدب عمالي؟ ثقافة بروليتارية موازية ومعارضة للثقافة البرجوازية؟
الثقافة البرجوازية، او الواقعية البرجوازية كما يحب ان يسميها البعض، ظهرت الى حيز الوجود منذ ستة قرون على الأقل، أي في عصر النهضة (الرينيسانس) وبلغت اوج تفتحها في القرن التاسع عشر، ويمكن رصد بداية التيار الثقافي البرجوازي في عصر الاقطاع مع بداية انشاء الصناعات الأولى.
التاريخ يبين ان نشوء ثقافة جديدة لطبقة سائدة جديدة، يحتاج الى حقبة من الزمن قد تمتد قرونا ولا تخضع لقرارات قوة سياسية ناشئة واوامر فوقية لا علاقة لها بالواقع الاجتماعي وبالنهج الفكري السائد، او بالرغبات لنظام سياسي او حزب سياسي.
حتى لو قبلنا فكرة ديكتاتورية البروليتاريا التي لم تطبق اطلاقا بل طبقت ديكتاتورية قيادات حزبية لم يلتزموا اطلاقا بالفكر الطبقي الماركسي الذي ادعوا انهم يمثلوه ويطبقوه. المهم أن فكرة البروليتاريا لم تثبت نفسها نظريا ولم تنشأ البروليتاريا الا في عدد من الدول الأوروبية المتطورة اقتصاديا ولم تنشأ أي بروليتاريا خارج اوروبا ، والثورة الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي لم تكن ثورة بروليتارية بل ثورة فلاحين. والنظام كان بعيدا عن الماركسية التي ادعى انها نظريته لبناء الاقتصاد، المجتمع والدولة. وقد سقط النظام مع اول محاولة للتصحيح، وانقاد المجتمع والاقتصاد السوفييتي.. لسبب بسيط، ان الجماهير فقدت ثقتها بالجذور الفكرية التي روج لها النظام بصفتها عدالة اشتراكية وحقوق انسان ورفاه اجتماعي ومسابقة مع الغرب الرأسمالي للتفوق عليه، بينما كل الدلائل اشارت الى تخلف النظام السوفييتي في المسابقة الاقتصادية ومساحة الديمقراطية المتاحة ومستوى الحياة للمواطنين.
كل ما تبقى من تيار الواقعية الاشتراكية مجموعة من الدوغماتيين المتمسكين بأوهام لم يتحقق منها شيء في الواقع، والثقافة التي سادة عالمنا ظلت الثقافة البرجوازية، التي طورت اساليب ومدارس جديدة، تميزت بالفهم الانساني للواقع، وليس بالكتابة حسب نظريات وقيود فرضت على المبدعين، دمرت الثقافة ودمرت الأدباء وعاقبت بعضهم بسبب اعجاب الغرب بإبداعهم الأدبي.
اذن نشوء تيار ثقافي جديد لا علاقة له بالنظام او بالقرارات الفوقية. ولا بتعيين قوميسار للثقافة أشبه بقائد عسكري يصدر اوامره للكتاب والفنانين. اشتهر القوميسار الثقافي السوفييتي المعروف باسم جدانوف وأصبح اسمه اشارة للتزمت والانغلاق الثقافي، واعطاء الأوامر للمبدعين حول ما هو مقبول للنظام وما هو مرفوض لدرجة التدخل بشخصيات ابطال النصوص الروائية وكأن الكاتب يصيغ بيانا سياسيا.
جدانوف وصم مرحلة كاملة باسمه وصفت بـ "الجدانوفية"، فرضت على الأدب السوفييتي نهجا انغلاقيا ألحق الضرر بالدولة السوفيتية واشتهر جدانوف بصيغة "قوميسار الثقافة" وهو تعبير عسكري.
نهج جدانوف على تأميم العقول وقمع الإبداع الثقافي الذي تواصل بعد ستالين ايضا، من الموبقات التي ارتكبت اشتهر طرد وتجريد الكاتب الكبير سولجينتسين من جنسيته السوفيتية عام 1974 وهو في منفاه، وتعرض الشاعر والروائي بوريس باسترناك لحصار شديد لقيامه بكتابة روايته الرائعة "دكتور جيفاكو" التي منعوا نشرها في وطنه وكان تبريرهم في منعها أنها تسيء إلى الثورة البلشفية، فاضطر أصدقاء باسترناك إلى تهريب "دكتور جيفاكو" إلى الغرب ونشرت الرواية هناك ومنح باسترناك جائزة نوبل للآداب عنها، ثم تحولت الرواية إلى فيلم سينمائي قام ببطولته عمر الشريف. الرواية لم تكن أبدا معادية للثورة البلشفية، إلا إذا اعتبرنا نقد التصرفات الغوغائية عداء.
اذن يمكن القول بدون تردد ، ان الثقافة لا تتطور حسب فرص من السلطة او الحزب، من هنا سقط واختفي تيار الواقعية الاشتراكية. رغم ان الابداع الثقافي السوفييتي حتى الذي التزم شكليا ببعض شروط الرقابة الجدانوفية كان ابداعا راقيا ورائعـا.
ربما تكون الجدانوفية التي استمرت بعد جدانوف من محركات الغضب التي اسقطت النظام السوفييتي أيضا. اليوم لا اجد كاتبا روسيا واحدا يبكي على سقوط النظام السوفييتي. وبالطبع لم اعد أسمع عن بدعة الواقعية الاشتراكية.

[email protected]