قمر الجزائر المِصراع الأول الفصل الأول5


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 5381 - 2016 / 12 / 24 - 12:07
المحور: الادب والفن     

سحب رئيس اللصوص المتسكعين سعدي من كتفه:
- هذه جماهيري الشعبية، تفاخَرَ.
- جماهيرك الشعبية، قفاي! ثار سعدي.
- قفاك يشرفني، خوي الزغير، لكنها جماهيري الشعبية الغالية، هذه أطفالي. ربيتها بنفسي. عملت كل ما في وسعي، وعقدت العزم على الانتقام في اللحظة المناسبة.
- الانتقام في اللحظة المناسبة، وماذا أيضًا؟!
- للجنة التي اخترناها.
- نحن لا نختار جنتنا، ولا جهنمنا.
- بلى، بلى.
- بتخديرها؟ بتخدير جماهيرك الشعبية؟ هذه هي، جنتك؟
- بإعطائها حرية البلهاء، أحسن الحريات. انظر إليهم، لصوص الروح هؤلاء، مخدرو المتعة هؤلاء، مومسو الشهوة هؤلاء.
- كنت أحسب أن الكيف، العهر، السرقة، وما لست أعرف ماذا، كنت أحسب كل هذا، كل هذا كان ممنوعًا، خويا الزغير.
- لا شيء ممنوع اليوم، عمل علي لابوانت باطمئنان، كل شيء مباح. الحرام مباح، كالحلال، إن بقي من الحلال شيء. سرقوا منا الحلال في اللحظة التي حرمونا فيها من الاستقلال، في اللحظة التي اختطفونا من أحلامنا، من خبزنا، من خمرنا، الخمر الجيد الذي كان لنا في الماضي، في اللحظة التي صنعوا منا هؤلاء الناس الفقراء الذين هم نحن اليوم، هؤلاء الحمقى الذين لا يفكرون سوى في فروجهم، ولنا شرف الوطن يوجد بين أفخاذ النساء، كوطنِ أيِّ إنسان. هؤلاء المغفلون الذين هم نحن والذين لا تساوي الحياة لهم سوى بضعة دنانير للنهب بكل الوسائل، وبضع قبلات حتى القحبة لا تعطيها. سيكون واجبنا كبيرًا لكنه صغير في أعين الجنرالات. ستكون حربنا جميلة لكنها دميمة في أعين كل مجرمي كل خراءات العالم هؤلاء. إن كان علينا واجب القتال اليوم، كانت لنا معركة أخرى، معركة الصغار ضد الكبار، الدميمين ضد الجميلين، وسننتصر، فقط خَلِّ الشعب يدبر راسه.
- والفرنسيون الذين كلمتني عنهم، خويا الزغير؟ رمى سعدي ليس دون سخرية.
- أقول لك الصدق، خويا، أنا لم أكذب عليك. لجماهيري الشعبية، في أيام التعاسة هذه، مِظليون فرنسيون أو مِظليون جزائريون، هذا كيف-كيف. إنهم الفرنجة الجزائريون الذين كلمتك عنهم منذ قليل. إنهم ذابحو الأطفال، ناحرو النساء، قاتلو الآمال. أهوال تجمد لها أجنحة الطير في السماء. أهوال لا يمكن البشر مذ صار البشر التفكير فيها. جرائم، قباحات، فظاعات. كل هذه الأشياء الخسيسة التي حتى البربري لا يمكنه فعلها. هل تفهم؟ لم يفهم بعد أبلهي الغائطي الصغير!
- أفهم، أفهم، واصل...
- نعم، ستكون الفوضى والبلبلة. سيكون الدم، أنهار من الدم، كل يوم، فتعال معنا، نحن الذين لا عقيدة لنا ولا قانون. انضم إلينا، نحن لصوص اليوم المتسكعون، لننظم دولة الغد. سنرغم الشعب على الالتفاف حولنا أو نهلكه، وسنصل إلى ذلك بالترويع وبالترهيب. إذا قارنا ترهيبنا بترهيب الجنرالات، ترهيبنا منقذ، بفضله ستتغير الأشياء في الجزائر. نعم، بفضل الترهيب المحرر، حربنا الجميلة ستتقدم حربهم، وسنضع حدًا لسلامهم المزعوم، نحن أبطال كل الأبطال.
- بل بفضل الترغيب والتهذيب، خويا الكبير، قال سعدي، مكروبًا كربًا عميقًا، وهو يفكر أن "خويا الكبير" على وزن "بويا الضرير"، وأن بطل الأبطال هذا ما هو إلا أعمى.
غنى أحد أوغاد العصابة: "أنا القادم - المِقدام المقاتل – أنا العاشق – المغرم الصادق – أنا الخاطف – للقبلات..."
- لا، أنت لم تفهم شيئًا، أكد علي لابوانت.
- بلى، بلى.
- إذن لماذا تتكلم كالفرج الكهل؟
- لأني فرج كهل، هذا كل شيء.
- كان من اللازم أن تقول ذلك.
- أقول وأعيد القول، ما أنا سوى فرج كهل. افهمني، يا دين الرب! فرررررج كهل!
- إذن أهلاً بك في جنة المرهَبين السعداء! أهلا بك في جمهوريتي!
كان الجنرال الزائف يتكلم مثل الجنرالات الحقيقيين، كانت له نفس اللغة، مع نفس العنف. أصاب سعدي قلق خافت، فالتزم الصمت. في هذا المعسكر كذاك لن يتحقق حلم طفولته أبدًا: لن يرتدي البِزة النظامية "للواجب الأعظم وللحرب الأجمل"، لن يرتدي اللباس العسكري، ليستطيع أن يغير شيئًا على صدر الجيش، أو في صفوف هذا السكرجي علي لابوانت. لكن كيف؟ والأشياء هي الأشياء اليوم، لن يكون الأمر سهلاً. بالنسبة له، التغيير، يبقى "قضية داخلية". من اللازم ألا نرمي كل شيء على ظهر الآخرين، ونقول "إنها غلطة الفرنسيين، إنها غلطة الأمريكيين، إنها غلطة الشياطين". مشاكلنا بصلنا، فكر. نحن، يا دين الرب! يجب علينا أن نرد للجمال قيمة الجمال. أية قيمة هي، كان يجهل. لكن أن توصف الحرب ب "الجميلة"، كان ذلك يغيظه. كان من أجل الجمال، حتى الأكثر وحشية، لكن ليس جمال حرب، وإن كانت عادلة. جمال الشمس في الدم عند الغروب مثلاً، جمال السماء ببنفسج متفجر في مساءات الصيف، جمال الأسود الحالك. وكان كذلك من أجل الجمال الأكثر ملاسة، مثل هذا اللون الأسود الصافي الذي لا يخيف الصغار لما يجدون أنفسهم وحيدين تحت ضوء القمر، جمال الصفاء، جمال الجمال، جمال الدمامة. جمال، وقوة فعل في كل شيء، في كل شخص. لمنع الدم عن الإهراق. جمال، وقوة صياغة الحياة. احترام الآخر. اعتبار الآخر كموضوع للتقدم، لا للاستعمار الأبدي. لكن المدعي على لابوانت لم يكن يسمعه. كانت الضجة التي يحدثها لصوص القصبة تتصاعد إلى كبد السماء، والأنوف والشفاه المشوهة تستثير بعضها بضراوة، مأخوذة في دوامة الترهيب التي تتضمنها إيديولوجيات "أبطال الأبطال". كأنها أقنعة تتغضن. رفعوا رئيسهم الصغير على أكتافهم، بأشكال الشياطين التي لهم، وقفزوا، ورقصوا، وصرخوا. بجنون. أتعبوا رئتيهم من فرط الصراخ. كانوا يظنون أنفسهم أَجَلَّ الكل، أقوى الكل، أعدل الكل. كانوا أولئك "المغفلين" المتمردين على صورتهم التي لهم، في زمن الطغاة وذابحي الأرواح. يكفي أن نرفض قدر المحتاج، مصير البائس. بالقوة أو لا، الأمر سيان. يكفي أن نبدي أننا قادرون على فعل شيء وليس أن نبقى قابعين في جلد المذنب الأبدي. وتسارع تواتر رقصهم، وكان إيقاع أقدامهم يمكنه أن يوقظ حتى الموتى في قبورهم. كان لا شيء يستطيع إيقافهم. وكانوا يرقصون، وكانوا يقفزون، وكانوا يزعقون. كان العالم لهم، والأرض برمتها تحت أقدامهم. تألم سعدي أقسى ألم، فأخذ رأسه بين يديه. نعم، بابا، ما أنا إلا نصف رجل! الرجولة ليست الانتصاب، ولا فتح أفخاذ البنات، الرجولة قبل كل شيء هي التصرف، وأنا، تصرفت بسوء، بجبن، تصرفت بجبن. لهذا ما أنا إلا نصف نصيب رجل. رخو! واحد نص مُخْفِق! شخص حالم قميء كما يريد الراديو والتلفزيون، وجندي مزيف كما يريد الجنرالات! مغفل! شاب لا عماد له، لا يعتمد على شيء، على أحد، لا يُعتبر من أحد! ضائع الاستقلال! أسير الحب المذنب! عاشق لا كالآخرين! حاقد إن شئت، لكن حاقد لا يعرف الحقد كما يلزم. أحمق لا يعي سبب وجوده. مغفل. أنا لا أحقد عليك بعد، بابا، لكني أحقد على نفسي. أحقد على البطاطا العفنة التي هي أنا. أنا، الجبان. تمامًا مثلما تفكر حسيبة، مثلما تفكر حَسْسِي: أنا بطل أبطال تعاستي، كل تعاسة العالم! الجبان، اللامسئول، الفَرَّار! – بصراحة، كتير هادا الشخص!
تابع سعدي طريقه بصعوبة، ولم يزل في فمه طعم الخمر الحامض، مر كالعلقم، حلو كالحقد. لم تعد حسيبة في رأسه غير استيهام، استيهام مرهق، مصدر كل أمر. وللخلاص منه، دخل حانة قذرة في ساحة الشهداء، وشرب دم العنب حتى مطلع الفجر.

يتبع المِصراع الأول الفصل الثاني1

الحلقة القادمة ستتأخر يومين لعيد الميلاد